عاد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن الى دائرة الضوء بعد صمت طويل. فقد عاشت روسياً أخيراً "اسبوع يلتسن"... إذ أجرى معه مقابلة مطولة مراسل تلفزيون موسكو القناة الأولى، واخرى مع جريدة "حجج ووقائع" الروسية وثالثة مع مراسل شبكة "بي.بي.سي" التلفزيونية. وكان يلتسن أقام حفلة استقبال قدم فيها كتابه الجديد "مشوار الرئيس ... ماراثون الرئاسة" ثالث كتاب له في المذكرات الشخصية صدر الأول "الاعتراف" العام 1990 والثاني "يوميات الرئيس" العام 1994. ولم يحضر حفل التعريف بالكتاب جميع أبطاله ممن قطعوا المشوار الرئاسي مع يلتسن. فقد شوهد، على سبيل المثال، ثلاثة من رؤساء الوزراء كاسيانوف وستيباشين وتشيرنوميردين فيما تغيب كيريينكو وبريماكوف. ولعل من أسباب تغيب بريماكوف ان مذكرات يلتسن تتضمن سطوراً عنه أقرب الى الاستهجان منها الى الاستحسان. اما الرئيس فلاديمير بوتين فكان يحتفل بعيد ميلاده في مسقط رأسه بطرسبورغ. فنشأ انطباع هلوسي وكأن رئيس الجمهورية الفعلي الذي يحكم موسكو هو بوريس يلتسن وليس بوتين. فالحملة المكثفة في الصحف الروسية والغربية توحي بأنه عائد حقاً للسياسة، وان صدور مذكراته حدث سياسي اكثر مما هو تجاري. ويحاول يلتسن ان يؤثر في مسار الدولة، واتصالاته مع رجالاتها قائمة، الا ان رأيه بات استشارياً لا أكثر. ولم يدع لحضور الحفل سياسيو "مجموعة موسكو" اي أنصار يوري لوجكوف على رغم ان الكثيرين منهم كانوا من اتباع يلتسن في أوقات متفرقة. ومن الاعلاميين حضر الحفل رؤساء تحرير أبرز الصحف والقنوات التلفزيونية، عدا وسائل اعلام مؤسسة "ميديا - موست" التابعة للمليونير فلاديمير غوسينسكي. وتغيب ايضاً الملياردير بوريس بيريزوفسكي. هذه الأمور الصغيرة بالغة الدلالة، اذ تعكس اصطفاف القوى السياسية في روسيا حالياً. وجمعت الحفلة معظم العاملين في الكرملين في أوقات شتى كأنه حفلة "اشباح" سياسية تكاد تفلت منها آخر الخيوط فتتشبث "بأفضال" وانجازات ضئيلة سيطويها النسيان. الا ان بعض أفضال يلتسن وانجازاته لا يطاولها التشكيك ولن يطويها الزمن. فقد دق آخر مسمار في نعش الشيوعية وصان روسيا من الدمار الكلي الذي يحيق بأي دولة بعد سقوط امبراطوريتها، وأرسى نظاماً ليبرالياً لم تر روسيا مثله مطلقاً على رغم بعده عن الديموقراطية الحقة، طالما ان يلتسن لم يصلح النظام القضائي ولم يفلح في تأسيس دولة القانون ولا ديموقراطية في ظل الليبرالية المشوشة وغير الحقوقية. ماذا وراء العودة؟ ولكن ماذا وراء عودة يلتسن بمذكراته الجديدة؟ لعل أدب المذكرات السياسية في روسيا يلعب دوراً اكبر. وتختلف روسيا عن سائر البلدان لكون سياسييها يكتبون مذكراتهم حتى قبل ان يتركوا المسرح السياسي. وواضح ان الهدف من ذلك مواصلة المشوار للتحكم في الاحداث من وراء الكواليس حين يغدو الظهور على خشبة المسرح صعباً. وبالطبع ليس ثمة مبرر للجزم بأن يلتسن شخصياً يتوخى هذا الهدف. وعلى رغم تأكيده ان كتابه الجديد ليس للتسلية، الا ان "العائلة" أو الحاشية أو ما تبقى منها في الكرملين هي التي تسعى الى هذا الغرض وتواصل الصراع من أجل السلطة في محاولة للتحكم في توجهات الرئيس الحالي بوتين. لذلك لجأت لنبش الأوراق القديمة ومراجعة التاريخ في عهد يلتسن مستخدمة مذكرات الرئيس العجوز لإضعاف مواقع الرئيس الشاب. فالمذكرات تحوي تقويماً بالطبع. ويلتسن أو من صححوا مذكراته مستشاره الصحافي فالنتين يوماشيف وابنته تاتيانا حسب بعض الروايات يعطي تقويماً لكل من بقي بعده في خدمة الكرملين، ولكل سياسي أو اداري حتى بوتين. وعلى رغم ايجابية التقويم اليلتسني لبوتين، فثمة انتقادات صريحة ومموهة له ولأنصاره. بل ان يلتسن انتقد بوتين بعد صدور المذكرات، ففي مقابلته مع مراسل شبكة "سي.بي.اس" قال انه تألم لموقف بوتين من كارثة الغواصة النووية "كورسك". وانه أبلغه باستيائه من التباطؤ في معالجة تلك المسألة. واللافت ان بوتين ألقى تبعة الفاجعة على النظام الذي قوض الجيش الروسي وأضعفه! أي انه انتقد يلتسن بصورة غير مباشرة. فجاء رد الرئيس السابق على سؤال المراسل قاسياً ضد بوتين! ولعل الملياردير اليهودي بوريس بيريزوفسكي لم يكن بعيداً عن مذكرات يلتسن، فعلاقاته القديمة مع عائلة الرئيس ليس سهلاً اخفاؤها دون اثر، وانتقاله الى "المعارضة الايجابية" ضد بوتين والمضايقات الأخيرة التي تعرض لها هو ورجل الاعمال اليهودي الآخر فلاديمير غوسينسكي لا بد ان تدفعه الى تشجيع مثل هذه الكتابات. وعلى كل، فإن صدور مذكرات يلتسن أثلج صدر بيريزوفسكي من دون شك، على رغم خلو الكتاب من امتداح مناقبه. وتعزو صحافة غوسينسكي "عودة الروح" اليلتسنية الى ازدياد استقلالية بوتين الى درجة لم تكن متوقعة ومحسوبة في خطط "العائلة" التي رشحته للمنصب الأول في البلاد. وليس في الساحة اليوم سياسي قادر على منافسة بوتين الا يلتسن الذي أبدى قدرة على التأثير في توازن القوى حتى من موقع السياسي المستقيل أو المتقاعد. فهو يمتدح بوتين في الوقت الذي يشير فيه الى هفواته وعثراته. وينصحه بأن يحترم حرية الرأي في الوقت الذي يلمح فيه الى المضايقات التي تتعرض لها صحف معينة. وقال يلتسن: "ان بوتين يتصرف الآن على النحو الذي نصحته به". وتتساءل صحافة غوسينسكي: هل يوافق بوتين على هذه التوجهات الأبوية؟ أم يثور على الوصاية؟ وما الذي أثار شبهة العائلة في تصرفات ولي عهدها؟ هل هو اعتماده المتزايد على رجال الأمن؟ أم هي محاولاته التخلي عن "مكاسب" عهد يلتسن حين صرح بعد كارثة الغواصة "كورسك" بأن الجيش قوّض منذ مدة؟ ولا تجد تلك الصحافة أجوبة لهذه التساؤلات، إلا أنها تؤكد أن "طلعة" يلتسن السياسية تركت أسوأ الأثر على سمعة بوتين في أنظار الصفوة السياسية الروسية، مما يخلق جواً ملائماً لنشوء معارضة جديدة أقوى من المعارضة الطيعة للكرملين. وتخلص صحف غوسينسكي إلى القول إن يلتسن أخذ من جديد، كما كان الحال في السابق، يغير مجرى الأوضاع ويجعل الموقف خطيراً عسيراً على القراءة والفهم ولا يمكن التكهن بنتائجه. صدرت مذكرات "مشوار الرئيس" عن دار "ا. س. ت" في موسكو في حدود 100 ألف نسخة، واقيمت حفلة تقديم في 7 تشرين الأول اكتوبر الجاري وظهرت في الأسواق بعد ثلاثة أيام. أشرف على طبع ترجمات الكتاب في الغرب ناشر مؤلفات يلتسن في لندن اندرو نورنبيرغ الذي وقع عقداً مع دار "بولبيك افيرز" الأميركية على أن ينزل الكتاب إلى الأسواق الغربية في 18 الجاري بعد تقديمه في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت. وسيقدم يلتسن مذكراته بنفسه في فرانكفورت. وصدر الكتاب بالانكليزية والفرنسية والالمانية ولغات أخرى في وقت واحد. ولم تؤكد وسائل الإعلام الروسية ما تردد في الغرب من أن الناشر الأميركي مارس ضغوطاً على المؤلف بهدف إضافة اعترافات بشأن ادمان الرئيس يلتسن تعاطي المُسكرات. إلا أنها أعادت إلى الأذهان مزاعم الجنرال الكسندر كورجاكوف مرافق يلتسن السابق من أن بوريس بيريزوفسكي، وليس دار "اندرو نورنبيرغ اوسوشيتس" هو الذي مول إصدار "يوميات الرئيس"، في 1994. وكان يلتسن، على حد زعم كورجاكوف، يتوقع استلام مليون دولار من نورنبيرغ، لكن بيريزوفسكي سلمه مبلغاً يفوق ذلك ثلاثة أضعاف، ففتح يلتسن أمام رجل الأعمال اليهودي أبواب الكرملين. يذكر أن يلتسن باشر الكتابة هذه المرة بعد عودته من بيت لحم نهاية الشتاء الماضي، فكان يملي مذكراته على المسجل ساعة أو ساعتين في اليوم نحو ثلاث مرات في الأسبوع. وكان مساعده يوماشيف يتولى تفريغ الأشرطة وتنقيح النص وفرغ يلتسن من إعداد مسودة الكتاب نهاية حزيران يونيو الماضي فجاء في 400 صفحة ونيف. وهو يتناول أحداث 1996-2000. ويتحدث عن مصاعب الأشهر الستة الأولى قبل الانتخابات الرئاسية التي أجريت العام 1996 وكان يلتسن متردداً في الترشيح لولاية ثانية بسبب انحسار شعبيته إلى أدنى مستوى. ويقول في أحد فصول الكتاب إن ابنته الصغرى تاتيانا هي التي أصرت وأقنعته بالترشيح. وفي فصل آخر يستفيض في الحديث عن اختيار خليفته وقرار الاستقالة. يقول: "في التاسعة من صباح 29 كانون الأول ديسمبر 1999 أبلغت بوتين في الكرملين بأني سأستقيل في 31 كانون الأول، وحدثته عن تعاقب الأحداث في ذلك اليوم. كلمة إلى الأمة من التلفزيون، توقيع المراسيم، تسليم حقيبة المفاتيح النووية، مقابلة وزراء القوى وما إلى ذلك، وأجرينا معاً تعديلات طفيفة على الخطة التي غدت خطتنا المشتركة نحن الاثنين. بوتين يعجبني كثيراً. تعجبني طريقته الدقيقة الملموسة. وأنا أحب لحظة الانتقال من العواطف والأفكار إلى التطبيق الدقيق للقرارات. والقضية بسيطة: رئيس جمهورية يمضي، ورئيس جمهورية بالوكالة يأتي... ونحن نطبق إحدى مواد الدستور الروسي بدقة وبصرامة حقوقية لا تترك مجالاً للعواطف والانفعالات. والأهم ان لا نفوت أو ننسى شيئاً، طالما أن ذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ البلاد. المكتب الرسمي لا يساعد على إبداء المشاعر، لكنني كنت أريد أن اقول له الكثير في اللحظة الأخيرة، وهو أيضاً يريد، باعتقادي، أن يقول الكثير. لكننا بقينا صامتين. شددت على يده وتعانقنا. وكان اللقاء الأخير في 31 كانون الأول. جاءني يوماشيف بنص الكلمة في 30 كانون الأول. قرأته مراراً ونقحته حتى لا يظن أحد بأنني استقيل بسبب المرض أو أن أحداً ارغمني على الاستقالة. كل ما في الأمر أنني ادركت أن الوقت حان". ويقول يلتسن في كتابه: "إنه قصة حياتي وقصة حياة روسيا أو تاريخها في السنوات الأخيرة"، وهو رد بذلك على كل الأسئلة التي واجهها في ولايته الثانية، ويشدد على "أن الفضائح المثيرة ليست من هواياتي المحببة ولا وجود لها في الكتاب". ويضيف: "حاولت أن أكون صريحاً أقصى حدود الصراحة وأن اضبط اعصابي، ولا اطلق أحكاماً متجنية وغير موزونة". ومن أكثر الأسماء وروداً في الكتاب أناتولي تشوبايس ويفغيني بريماكوف ويوري لوجكوف وهيلموت كول وجاك شيراك وبيل كلينتون. ومن أطرف ما ورد فيه أن لوجكوف، محافظ العاصمة موسكو، كان يزود أسرة يلتسن باللبن الطازج من بقرته كانا يقيمان في منزلين متجاورين. وبعد استقالة يلتسن كف لوجكوف عن إرسال اللبن. وفي مقابلة مع تلفزيون موسكو لم يذكر لوجكوف هذه الحقيقة، إلا أنه قال إن سببها مرض البقرة! وأكد أن علاقته مع يلتسن انقطعت من ذلك الحين لعدم وجود رغبة في استئنافها لدى الطرفين. وعلقت إحدى صحف غوسينسكي على لغة المذكرات قائلة إنها جاءت في اسلوب جاف لا متعة في قراءته، خلافاً لكتابي يلتسن السابقين اللذين تميزا بروح إنسانية مؤثرة. وأضافت ان المذكرات الجديدة تزكية أو تعميد لبوتين بهدف اقناع الروس بصواب الخيار الذي أقدمت عليه "العائلة اليلتسنية". غير ان محللين آخرين يشددون على رسوخ سلطة بوتين وضعف مواقع أنصار يلتسن المتبقين في الكرملين، ما يعني ان "العائلة" قد تكون أسفت على ما أقدمت عليه. ويبدو ان المذكرات دقت إسفينا بين بوتين وبعض مؤيديه من الليبراليين الذين طعن فيهم يلتسن. فقد جاء فيها أن أناتولي تشوبايس، مدير الديوان الرئاسي في عهد يلتسن ومدير شبكة الكهرباء الموحدة حالياً، اعترض على اختيار بوتين خلفاً ليلتسن. وعلق تشوبايس على ما جاء في المذكرات قائلاً إن تلك حقيقة، لكنها ليست كاملة، فهو اعترض فعلاً، إذ أن بوتين نفسه لم يكن راغباً في تولي مهام رئيس الجمهورية. وكان يلتسن، في موضع آخر من المذكرات، أكد أنه وجد صعوبة بالغة في اقناع بوتين بأن يقبل خلافته. يتحدث يلتسن في مذكراته عن مشروع سياسي وضعه ونفذه طوال السنوات الأربع الأخيرة من حكمه وبنى حوله فريقاً كان بوتين من أفراده. وشق بوتين طريقه إلى الرئاسة عبر هذا المشروع. ويؤكد يلتسن ان ما حدث في عهده "ثورة ديموقراطية، والثورة هدم لا بناء".