على مدى عشر حلقات، عرضت "الوسط" جزءاً أساسياً من سيرة القرن العشرين ومساره، مركزة على ما فيه من علامات اساسية هي حروبه وتقدم التكنولوجيا فيه، نزعته العولمية وغزو الفضاء، سيطرته على الأمراض وبروز العصبيات، انهيار الامبراطوريات وصعود الايديولوجيات. هذه الحلقة الاخيرة من السلسلة تجيب على سؤال أساسي: ما هو الإرث الذي يحمله القرن العشرون عشية دخول القرن الجديد؟ انه درس الانسان: اما ان يكون الزمن المقبل زمن الانسان واما الا يكون على الاطلاق. عند مطلع القرن العشرين، كثرت الاستفتاءات والاسئلة التي وجهت الى المثقفين والكتاب والسياسيين ومعظمها يدور من حول توقعاتهم او تنبؤاتهم لما سيحدث ويجدّ في القرن البازغ. واليوم، لدى استعراض معظم الاجابات يكتشف المرء كم ان جدودنا كانوا على خجل في توقعاتهم، او كم ان القرن نفسه خيّب تلك التوقعات ولكن… الى أعلى. فالحال ان ما اتى به القرن المنصرم في ايامنا هذه، فاق كل التوقعات بصورة مذهلة الخيال الذي حين رسم - في زمنه - صورة للمستقبل لم يجرؤ على ان يسرح ليصل الى ربع ما وصل اليه القرن حقاً. ولسنا في حاجة هنا، بالطبع، الى احصاء التجديدات التي تجاوزت حدود ما كان في وسع الفكر ان يتصوره منذ تلك السنوات المبكرة. فالصحافة والناس اجمعين لم يكفوا عن تعدادها منذ سنوات والدهشة تأخذ بألبابهم، على رغم انهم هم انفسهم يعيشون التجديدات ودخل الخيال بيوتهم، وصارت التكنولوجيا شديدة التقدم جزءاً عضوياً من حياتهم اليومية. من هنا، قد يكون من الا فضل ان نتساءل، بدلاً من ذلك، عن الإرث الذي تحمله الانسانية معها وهي تنتقل من عام الى عام ومن قرن الى قرن ومن الفية الى الفية. ما الذي خلّفه القرن العشرون لنا؟ وكيف يمكن ان يساعدنا هذا الإرث على التعاطي مع القرن المقبل، هذا لكي لا نتحدث عن الفية مقبلة لا قبل لأي منا، نحن معشر البشر الفانين، ان يدنو منها ولو بخيال الخيال؟ البشرية وقود الايديولوجيات من ناحية مبدئية، عرف القرن العشرون، انواع التناقضات كلها، فهو القرن الذي بلغت فيه البشرية ذرى الفضاء الأعلى، وهبطت فيه الى العنف والمجازر والتعصب، هو القرن الذي اتسمت فيه الثقافة بأعلى درجات الاكتمال عبر فنون جديدة وتجديد في فنون قديمة، لكنه القرن الذي اتسم ايضاً بأعلى درجات استضفاء البشر وتحويلهم الى جهلة على الصعيد العالمي، ناهيك بمستويات الأمية المطلقة وأمية المتعلمين والتجهيل عن طريق وسائل الاعلام الجماهيرية، وهو القرن الذي تميز بأعلى مستويات وصلت اليها التقنيات، لكنه القرن الذي غالباً ما استخدمت فيه هذه التقنيات ضد البشرية نفسها. وحوشاً تنقلب على صانعيها، وهو القرن الذي بلغت فيه الدراسات الاخلاقية وصولاً الى انتشار الجانب الاخلاقي من الأديان انتشاراً واسعاً وعلى صعيد عالمي كجزء من فلسفات حظيت بكثير من الشعبية، لكنه القرن الذي عادت تلك الفلسفات نفسها لتستخدم ضد البشرية وقوداً للتعصب والقمع، باختصار بدرجة ما تقدمت المجتمعات في هذا القرن كان قمع الفرد وقمع الانسان. ومن هنا تلك الإزدواجية التي يعيشها انسان اليوم وتولد لديه حيرة ما بعدها من حيرة. ولعل هذا الشعور هو الذي يحول بين انسان ايامنا هذه وبين ان يُعمل الفكر، حقاً، لكي يتصور ما سوف تكون عليه العقود المقبلة. تلك العقود التي ينظر اليها انسان يومنا بترقب وأمل، ولكن بكثير من الخوف ايضاً. وفي الحالتين من الصعب القول ان هذا الانسان مخطئ في نظرته. اذاً، بدل التساؤل عما يمكن لانساننا ان يتوقعه للقرن المقبل، قد يجوز ان نتساءل عما سيتركه لنا القرن الراحل ارثاً للقرن المقبل. ولعل اول ما سيتركه، ذلك الدرس العميق الذي قد يكون في استخلاصه ترياقاً لبعض ما يعتمل لدى البشرية من مخاوف وقلق. وهو درس متعدد الوجوه. فالوجه الأول لهذا الدرس يأتي ليقول كم ان الحروب، كلها، التي عاشها القرن العشرون وعانى منها ما عانى، انتهت الى سديم عظيم، تبين انها انما كانت دون جدوى. صحيح ان الحروب كانت لها على الدوام نتائج ملموسة انعكست على المهزومين كما على المنتصرين، غير ان اياً من تلك النتائج لم يكن بحجم الخسائر العظيمة التي طاولت الجميع من جراء حروب كان - ولا يزال - سلاحها الاول والاخير: القتل والدمار. الوجه الثاني لهذا الدرس يتعلق باستخدام التكنولوجيا، ففي عالم اليوم - عالم الانفتاح - لم يعد في وسع احد ان يزعم انه قادر على امتلاك التكنولوجيا والتمتع بهذا من دون الآخرين. فالتقدم لا يكون الا تقدماً على الصعيد العام. الآخر ينتظرك على مفترق الطرق، وهو قادر على ان يحصل على ما لديك، بالقوة والتلاعب إن لم يكن بالاتفاق. ولعل من اسوأ المخارج ها هنا تحريك قوى الشر في الآخرين للحصول على ما يعتبرونه حقاً لهم. والوجه الثالث هو ان امة لا يمكنها ان تعيش سعيدة مرفهة بمعزل عن تعاسة الامم الاخرى وبؤسها وما يولّده هذا من تعصب وفوضى وحسد، خصوصا ان الحدود بين الامم لم تعد بقادرة على ان تكون مغلقة كما في الماضي، ما يعني ان الأمم البائسة لن تكف عن تصدير بؤسها الى الامم التي تعتقد انها في امان. والوجه الرابع للدرس هو ان التكنولوجيا تزداد مع مرور الوقت استقلالية، ولم تعد تعيش تماماً تحت سيطرة اطراف عاقلة قادرة على التحكم في مساربها والسيطرة عليها، ما يعني ان التكنولوجيا بما فيها تكنولوجيا التلاعب الجيني والحاسوب والتكنولوجيا النووية باتت قادرة على تدمير البشرية، بقدر قدرتها على اسعادها ان افلت لها العنان او ازدادت استقلالية. ودرس البيئة هو الدرس الخامس، حيث ان هذه البيئة لم تكف، وعلى الأقل طوال النصف الثاني من القرن العشرين، عن اعلان تمردها وضيقها بممارسات البشر، من اغتيال الغابات الى خرق طبقة الأوزون الى تلويث الجو، وكل هذا ناتج من فوضى في الاقتصاد وامعان في تحويل المجتمعات الى مجتمعات استهلاكية همها الانتاج اكثر والربح اكثر. بعد ذلك تأتي مسألة الاعلام، فالاعلام عن طريق التجديدات الهائلة التي تطرأ على وسائله صار من دون حدود. اعلام في اللحظة التي يحدث فيها الخبر. وهذا النوع من الاعلام الذي يزداد انتشارا ويمعن في وصوله الى ابعد اركان الأرض، بات اكثر واكثر قدرة على نسف الحدود وجعل الرقابات وانواع الكتب المختلفة، جزءاً من ماض يليق به ان يوضع في المتاحف. اخير هذا او شر بالنسبة الى البشرية؟ لا يمكن لأحد بالطبع ان يجيب. المهم اننا امام انفتاح جديد لا بد للانسان من ان يتعلم كيف يتعامل معه. وربما… كيف يستفيد منه. كانوا ضد البشرية؟ وهاتان النقطتان الاخيرتان هما في اعتقادنا، لب الموضوع. اذ مهما قيل عن قدرة التكنولوجيا على الاستقلال، والحروب على الامعان في الدمار، والايديولوجيات على خلق التعصب والكراهية، والاعلام على تجهيل البشر اكثر واكثر عبر لعبة الاختصار والتراكم، فان كل هذا يظل منوطاً بقدرة او رغبة الانسان على التعامل مع ذلك كله. ومن هنا نفترض ان اهم ما سنحمله معنا من القرن العشرين الى القرن الذي يليه، هو استعادة الانسان مسؤوليته عن نفسه عن مصيره وادراكه ان في يده الأمور الدنيوية كلها، حتى وان كانت الامور الماورائية في يد القدرة الإلهية كما تقول اديان كريمة تؤمن بها اكثرية البشرية ولم يبد ان علمانية القرن العشرين قد تمكنت من جعلها شيئاً هامشياً في حياة البشر. وهذا الواقع يعيدنا الى كتاب كان صدر منذ عقود بمعرفة "مؤسسة فرانكلين" المرتبطة بأجهزة المخابرات الاميركية وعنوانه "سبعة ضد البشرية". فهذا الكتاب أتى يومها ليقول ان هناك سبعة مفكرين وعلماء في القرن الاخيرة اشتغلوا بفكرهم وعلمهم ضد البشرية: كوبرنيك الذي اثبت ان الأرض مجرد كوكب يدور حول الشمس بعدما كانت البشرية تعتبر كوكبها مركز الكون، ونيوتن الذي اثبت ان الجاذبية تحت اقدامنا بعدما كانت البشرية تعتقد ان قطب الجاذبية في اعلى الأعالي وداروين الذي اثبت ان الانسان اصله قرد وروسو الذي ارجع العلاقات البشرية الى علاقات محض تعاقدية بعدما كانت البشرية تؤمن بسمو تلك العلاقات وماركس الذي احال العلاقات الى صراعات طبقية مادية وكانت البشرية تستصغر هذا الشأن المادي وفرويد الذي ارجع اخلاقنا وذهنياتنا الى ابعاد اوديبية ومركبات نقص، اضافة الى اينشتاين الذي قال ان كل شيء نسبي وان هناك المتناهي في الصغر بعدما كانت البشرية تعتقد بالمطلق والثابت. طبعاً لم يكن قصد الكتاب ان يحطم نظريات هؤلاء ويدحضها، بل كان همه ان يقول - وان بشكل موارب - ان البشرية كانت ستعيش بشكل افضل لو انها عاشت اكاذيبها القديمة واحلام عظمتها وعظمة جذورها وفرادة كوكبها وقدسية علاقاتها وما الى ذلك. وفي يقيننا ان مشكلة ذلك الكتاب، والفكر الذي يحركه، كانت تكمن في انه اراد ان يبعد البشرية عن تحمل مسؤولياتها بنفسها. وهو امر مريح بالطبع لبشرية تميل بطبيعتها الى الاتكال على قوى ترتاح اليها. لكن المشكلة انه كلما تقدم تطور هذه القوى وحضورها، بما فيها قوى التكنولوجيا والاقتصاد والاعلام والايديولوجيا رأت البشرية نفسها امام واقع يفرض عليها، اكثر واكثر، ان تتكل على نفسها. ومن هنا نعود الى واقع ان اهم ما سوف يحمله الانسان معهن الى القرن المقبل هو هذه المعادلة: فإما ان يمسك مصيره بنفسه واما ان يحل به الدمار النهائي. ولأن البشرية، رغم الجنون الظاهر والبؤس المنتشر، باتت - بسبب مخاوفها بالتحديد - اكثر وعياً لوضعها خصوصاً ان الفنون والآداب آخر حصون العقلانية والخير في هذا العالم تنبهها اكثر واكثر الى ما ينتظرها في الأزمان المقبلة - وتحديداً على يد القوى التي ابتكرتها واطلقتها بنفسها - من الواضح ان البشرية سوف تخرج من كسلها اخيراً وتسعى حقاً لأن تقبض على ذلك المصير، فتستعيد سيطرتها على "الوحوش" الفالتة من عقالها، سواء أكان اسمها التعصب او الحروب او الاسلحة الفتاكة او الفلسفات الضيقة او "الهويات القاتلة" - حسب تعبير موفق لكاتب لبناني باللغة الفرنسية -. فهل يمكننا انطلاقاً من هنا ان نأمل في ان يكون القرن المقبل، ولأول مرة في تاريخ البشرية، قرن الانسان. الانسان بالمعنى الحرفي للكلمة: الانسان كوعي، ككائن بشري، كقوة فاعلة، كفرد وكجزء من بشرية منفتحة على بعضها البعض، عبر حواجز القوميات والالوان والأعراق والثقافات وما الى ذلك؟ دون هذا، بالطبع، الكثير من الحواجز والمشقات. ولكن من المؤكد ان من دونه لا مستقبل للبشرية. ونعود الى القرن العشرين لنقول بعد استعراضنا على مدى حلقات سابقة في "الوسط" أبرز علاماته الأساسية، من صعود الايديولوجيات وانهيارها، الى انفتاحية العولمة مروراً بغزو الفضاء والسيطرة على الامراض وقضايا البيئة، وانبعاث عصر الصورة وعصر المرأة من رحم مآسيه ان الدرس الأساس والإرث الاكبر اللذين يحملنا اياهما هذا القرن هما: اما ان يكون الزمن المقبل زمن الانسان، والا فانه لن يكون على الاطلاق