هاتف ذكي يتوهج في الظلام    شكرًا لجمعيات حفظ النعم    خريف حائل    الدفاع المدني يحذر من المجازفة بعبور الأودية أثناء هطول الأمطار    الدبلة وخاتم بروميثيوس    صيغة تواصل    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    نجد فهد: أول سعودية تتألق في بطولات «فيفا» العالمية    توطين قطاع الطاقة السعودي    أولويات تنموية    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    الأنساق التاريخية والثقافية    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    محمد البيطار.. العالم المُربي    من المقاهي إلى الأجهزة الذكية    «إسرائيل» تغتال ال«الأونروا»    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    رحلة في عقل الناخب الأميركي    لوران بلان: مباراتنا أمام الأهلي هي الأفضل ولم نخاطر ببنزيما    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المواطن شريك في صناعة التنمية    الرديء يطرد الجيد... دوماً    مرحباً ألف «بريكس»..!    وبس والله هذا اللي صار.. !    لماذا مشاركة النساء لم تجعل العالم أفضل ؟    الأعمال الإنسانية.. حوكمة وأرقام    عسكرة الدبلوماسية الإسرائيلية    عن فخ نجومية المثقف    الذكاء الاصطناعي طريقة سريعة ومضمونة لحل التحديات    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    أندية الدوري الإسباني تساعد في جمع الأموال لصالح ضحايا الفيضانات    يايسله يُفسر خسارة الأهلي أمام الإتحاد    رسالة رونالدو..    النصر يلاحق العضو «المسيء» قانونياً    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الاتحاد    وزير الإعلام يعلن إقامة ملتقى صناع التأثير «ImpaQ» ديسمبر القادم    وزير الداخلية السعودي ونظيره البحريني يقومان بزيارة تفقدية لجسر الملك فهد    «الاستثمارات العامة» وسلطة النقد في هونغ كونغ يوقعان مذكرة تفاهم استثمارية    أمانة القصيم تكثف جهودها الميدانية في إطار استعداداتها لموسم الأمطار    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    المرشدي يقوم بزيارات تفقدية لعدد من المراكز بالسليل    أمانة القصيم تنظم حملة التبرع بالدم بالتعاون مع جمعية دمي    أعمال الاجتماع الأول للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين تواصل أعمالها اليوم بالرياض    الأرصاد: استمرار الحالة المطرية على مناطق المملكة    خدمات صحية وثقافية ومساعدون شخصيون للمسنين    جوّي وجوّك!    لا تكذب ولا تتجمّل!    «الاحتراق الوظيفي».. تحديات جديدة وحلول متخصصة..!    برعاية الملك.. تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    معرض إبداع    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن قائمة أفلام الدورة الرابعة    أحمد الغامدي يشكر محمد جلال    إعلاميون يطمئنون على كلكتاوي    الإمارات تستحوذ على 17% من الاستثمارات الأجنبية بالمملكة    جددت دعمها وتضامنها مع الوكالة.. المملكة تدين بشدة حظر الكنيست الإسرائيلي لأنشطة (الأونروا)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهدات سوداني "متسكع" بين أطلال الذاكرة في بيروت . بضعة أمتار هلك فوقها بشر وحجر ومقاتلون وأفكار عجقة ، فعلاً عجقة ! أهذه متاهة أم مدينة ؟
نشر في الحياة يوم 17 - 01 - 2000

في مناسبة المؤتمر السنوي لأسرة "الحياة" و"الوسط" الذي أقيم قبل أسابيع في بيروت، زار الزميل طلحة جبريل العاصمة اللبنانيّة للمرّة الأولى. وهناك التقى "أناساً مدهشين، أنتقلت حربهم الى الذاكرة"، واكتشف تفاصيل مؤثرة في المكان الذي "يفيض حيوية". وخلال زيارته، سجّل الكاتب والصحافي السوداني المقيم في المغرب منذ سنوات طويلة، مجموعة من الملاحظات والانطباعات والتساؤلات التي كانت نواة هذا التحقيق.
بدأت هذه الرحلة السَنية للديار اللبنانية من سفارة لبنان في المغرب. ذهبنا إلى السفارة التي تقع على بضع خطوات من الخارجية المغربية في حي حسان في الرباط، فاستقبلتنا موظفة بترحاب، حتى لخلت الأمر قد إختلط عليها.
قلت: جئت أطلب تأشيرة .
قالت : أصعد الدرج هناك سيقدم لك ما تحتاج.
صعدنا الدرج وجدنا موظفة أخرى قبالة مكتب القنصل، أطلعناها على رسالة الدعوة الى بيروت. طلبت صورتين لشخصنا، و350 درهماً مغربياً رسم التأشيرة، ثم الجواز.
لا يزال جوازنا أزرق، رغم انهم هناك في الخرطوم جعلوه أخضر. جواز من بقايا عهد "الحزبية البغيضة"، قبل ان تطل علينا "الإنقاذ" التي تحاول إنقاذ البلاد والعباد منذ عشر سنوات، ومنذ القرن الماضي. على اعتبار ان هذا الموضوع سينشر العام 2000.
قبل أن تغلق السفارة أبوابها، كان جوازنا العتيد يحمل سمة الدخول كتب عليها: "تأشيرة دخول لسبب مهني ولسفرة واحدة"، والتوقيع المكلف بالأعمال القنصلية : روبير نعوم .
شكراً.
ذلك الصباح في مطار الرباط، كان ثمة حشد كبير.
وزراء قادة سياسيون صحافيون نشطاء من جمعيات حقوق الإنسان... ورجال شرطة ومخابرات !
لا تعتقدوا ان كل هؤلاء جاؤوا لوداعنا !
كانوا ينتظرون عائلة السياسي المغربي الراحل المهدي بن بركة . وكان حظنا ان نمتطي الطائرة نفسها إلى باريس !
في مطار شارل ديغول كان في "انتظارنا" الصديق عبد الكريم بن عتيق، هذا السياسي الشاب المتقد كان يفترض أن يكون عضواً في حكومة "التناوب" المغربية، لكنه الآن يدرس العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس.
هذا أفضل له.
ليلة في باريس. تناولنا العشاء في مطعم، وعندما انتصف الليل وجدنا الطاولة في الشارع، لقد أزالوا حواجز المطعم الزجاجية، فأصبحت الطاولة على قارعة الطريق ونحن منهمكون في "السياسة". بعد ذلك تسكعنا حتى فضحَنا النهار.
في الصباح تجولنا في باريس لم تستيقظ. كان يوم أحد.
ذهبنا إلى حيث يبيع أبناء المغرب العربي نفايات مصانع لملابس. اشترينا شيئا من تلك الملابس، فقط لنقول إننا تبضعنا من باريس. ثم إلى مطار شارل ديغول. فالطائرة التي ستغادر إلى بيروت.
داخل الطائرة وجدت نفسي مثل حبة قرنفل وسط كومة أرز هندي. لبنانيون من شتى بلاد الإغتراب، يتكلمون الفرنسية والإنكليزية والإسبانية، وطبعاً بين الفينة والأخرى تلتقط الأذن كلاماً عربياً : "شو هيدا الحكي". سوداني وسط بحر لبناني.
كان حظي الجلوس الى جوار سيدة شابة من الجنوب اللبناني، انشغلت طوال الرحلة بطفلتها. كانت تتكلم معها بالإسبانية، فلم أفهم ماذا تقول الأم أو طفلتها. رحت في نوم محموم متقطع. حتى جاء ذلك الصوت الذي يقول لنا أن نستعد للهبوط في مطار بيروت الدولي.
مدرجات تنبسط وسط غابة من البنايات والعمارات. نظرة من النافذة، لم تكن هناك سوى طائرات شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية وطائرة سورية !
دخلنا بهو المطار. مطار يتميز بالنظافة والهدوء. ثمة لافتة تقول إن على الذين يحملون تأشيرات دخول شراء طوابع دمغة. قمنا بتحويل بعض الدولارات إلى ليرات فإذا بها تتحول إلى أرقام فلكية. إذاً الليرة تحولت إلى فلوس من تراب. اشترينا الطوابع وزحفنا في الصف.
عندما وصل دورنا قال ضابط الجوازات : الأخ سوداني ؟
قلنا: طبعاً.
قال: منذ مدة طويلة جداً لم أر هذا الجواز الأزرق !
قلت : صحيح، لقد استبدلوه هناك، لكن دورنا لم يأت بعد.
قال الضابط عندما ناولناه طوابع الدمغة: لا تحتاج هذه الطوابع لأن معك تأشيرة.
لم أفهم شيئاً. لافتة تقول اشتروا طوابع، والضابط يقول لا تحتاجها. مؤكد ان الضابط هو المصيب. هل يوجد ضابط أمن يخطئ ؟
قال الضابط يمكنك ان تعيد الطوابع وتسترجع فلوسك. عدنا من جديد إلى حيث الشباك، حيث اشترينا الطوابع، قال الموظف سأعيد لك فلوسك، ولكن بالليرة وليس بالدولار. قلت لا مانع حتى ولو بالشلن الصومالي.
تلك كانت مقبلات !
خرجنا من المطار، فوجدنا سائقاً يحمل لائحة بأسماء بعض الذين يفترض ان يشاركوا في المؤتمر. لكن اسمنا لم يكن مدرجاً. شرحنا لهم فتفهموا الأمر. أشاروا إلى سائق سيحملنا إلى فندق الريفيرا. قال السائق انه فندق جميل يقع قبالة شاطئ البحر، في منطقة عين المريسة.
الآن بدأت تطرق السمع أسماء كنا سمعنا بها أيام الحرب المجنونة. أيام تقاتل فيها اللبنانيون حتى تعب منهم القتال.
في الفندق كان الزملاء. شعرنا عندها بالألفة.
ذهبنا لتناول وجبة العشاء. اقترح "الشيف" ان نتناول مقبلات، ثم، بعد ذلك، الوجبة. راح النوادل يرصون أطباق المقبلات. حتى خلت انهم يريدون إقامة حفل زفاف. فغرت فمي دهشة عندما جاء الشيف بعد فترة ليطلب ما نرغب في تناوله من أكل ؟
يا إلهي وما هذا الذي أكلناه ؟ قال: تلك كانت مقبلات !!
قلت: لم آت إلى هنا في مهمة تسمين.
تأملت الشاطئ، وكم كانت المفاجأة صاعقة عندما راح أحدهم يعدد أسماء البلدات التي تقع شمال بيروت، حتى كاد بصرنا يصل إلى طرابلس ! هذه الأسماء سمعنا بها كثيرا أيام الحرب، وكنا نعتقد ان بين كل منطقة وأخرى آلاف الكيلومترات... فإذا بها متجاورة متلاصقة بينها أمتار...
هل كان هؤلاء الناس يتقاتلون من غرفة إلى أخرى ؟
اطل صباح بيروت. الناس تركض قرب الشاطئ في هذه الصباحات الجميلة. أمواج المتوسط هادئة. أجواء شاعرية تماماً. لكنني لست شاعراً.
رحنا نتمشى على الشاطئ. أثار اهتمامي ان الناس لا يتصايحون. يتحدثون بصوت خفيض. كنت أنا ومعاوية ياسين ومحمد المكي نزعق كأننا في سوق أمدرمان !
كان ذلك الدرس الأول.
انتهت أيام المؤتمر، وكان علينا اكتشاف بيروت. هذه قطعاً مدينة ذكية جدا. وهذا شعب يفيض حيوية. لم يبق َمن آثار الحرب إلا بعض الأطلال. أحياناً تجد بناية وقد حولتها القذائف والرصاص إلى غربال.
كنا نسأل السائق الذي حملنا إلى معرض الكتاب الدولي: هل نحن في الغربية ام الشرقية؟ فيقول لنا تارة نحن الآن في الشرقية وقبل أن نجول ببصرنا يعود ليقول نحن في الغربية.
ما هذا؟ هذه مدينة متاهة. غربية تتداخل في الشرقية، وشرقية تصب في الغربية، ونحن لم نستطع ان نضبط مثقال ذرة من هذه الخريطة.
رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فان الناس تشتري في معرض الكتاب. الإقبال على جميع الأروقة بالمستوى نفسه. كل المذاهب والأيدلوجيات متساكنة. اشترينا كمية لابأس بها من الكتب.
مساء اليوم التالي أقترح علينا معاوية اقتراحاً فاشلاً. قال لنذهب إلى مدينة الملاهي، هناك سنجد الشعوب والقبائل من شتى البلدان وسنجد بعضاً من أهلنا كذلك. تحمسنا. ذهبنا إلى هناك فوجدنا المدينة مغلقة. ثم قررنا أن ترك معاوية جانباً.
اتففنا مع محمد المكي على الذهاب، بناء على اقتراح من شاب لبناني، إلى جونيه لتناول العشاء. وصلنا بعد مسيرة صعود وهبوط. قالوا لنا هنا كان مركز "القوات". أي قوات هذه ؟ المكان مفتوح على كل أنواع السهر، وانواره تضيء وألوانه زاهية جذبت الناس من كل حدب وصوب... حتى من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الذي أصبح أثراً بعد عين.
إحتفوا بنا احتفاء طيباً. قالوا لنا ان السودانيين تركوا ذكرى طيبة أيام الحرب اللعينة.
نزل السودانيون بيروت في إطار قوات الردع العربية، لكنهم لم يردعوا أحداً. فتركوا لنا سمعة طيبة وجئنا مثل "أغنياء الحروب"، لنستثمر تلك السمعة في جونية.
كان همنا خلال أيام تسكعنا ان نقترب أكثر من الناس. لاحظنا ان المتسولين في هذه المدينة أندر من أسنان الدجاج. ثم أن الناس ترحب بك أينما ذهبت. لعلها العبقرية اللبنانية. ثم أننا وجدنا أشياء كثيرة مشتركة مع هؤلاء الناس.
لولا روح الشهامة...
الآن فهمت لماذا قال لي الطيب صالح مرّة : "اللبناني قد يتعب النهار كله ويشقى ليكسب مالاً، لكنه على استعداد ان ينفق كل ما كسبه في آخر الليل، لاستضافة أحد أصدقائه أو معارفه. واعتقد انه لولا روح الكرم والشهامة المتجذرة في اللبنانيين، ولولا إنسانيتهم العميقة لكان لبنان قد تفتت بسبب التجربة القاسية التي مر بها... لذلك وجدت نقاط التقاء كثيرة تحت هذا السطح الذي يبدو متناثراً وبعيداً بين لبنان والسودان". انتهى كلام الطيب صالح.
ولعل ما أدهشني عند اللبنانيين، أن مستوى تعليمهم لم يتراجع قيد أنملة رغم طاحونة الحرب. ذهبت إلى الجامعة الأمريكية، وجامعة بيروت العربية، فوجدت العلم يمشي على أرجل. بل ان العلم والثقافة والفن ظلت كما هي.
يشدو محمود درويش ومارسيل خليفة في الجامعة. المسارح تغص بالجمهور. التلفزة تستقطب الناس. المقاهي تعج بالمثقفين والنقاش. حركة المدينة مثل لحن عذب جميل. الصحف تباع عند مفترق الطرق. إعلانات برامج التلفزيون في كل مكان. حيوية وألق في جميع الأركان والزوايا.
شيئان لم ألحظهما : وجود حافلات أو سيارات أجرة. قيل لي إنهما يوجدان لكنني لم اشاهدهما. لم أشاهد كذلك دراجة نارية أو هوائية. كثيرون يستعملون سيارات خاصة. ولعل ما أثار انتباهي ان لوحات السيارات تحمل سلسلة أرقام طويلة جداً. لم أفهم سر ذلك. أكيد أن رجال شرطة المرور يحتاجون إلى دربة خاصة لالتقاط هذه الأرقام. ثم أن اللبناني لا يتضايق من زحمة السير، كما هو الحال في المدن العربية الأخرى.
يلتفت السائق إليك مبتسما ليقول : عجقة. تبتسم له وتقول : فعلاً عجقة ! عدا ذلك لاشيء. شعب عجيب.
قيل لنا: إن عليكم زيارة وسط بيروت لتشاهدوا ما يحدث هناك. ذهبنا إلى هناك. هنا "السوليدير" بنايات قامت على أنقاض الحرب. مدينة حطها اللبناني من عل. تماما مثل سيل أمرؤ القيس. لا تزال فارغة لكن الرهان أنها ستكون قلب بيروت النابض. وهل يوجد مكان غير نابض في هذه المدينة ؟
اللبناني تاجر بالسليقة
مرة أخرى ظهر معاوية ياسين ليقدم لنا اقتراحا بان نذهب إلى "دار الجيل". قال ياسين إن هذه الدار هي التي طبعت معظم كتب المؤلفين السودانيين. قلنا: نذهب إلى هناك. الدار قائمة على تلة. رحّبوا بنا ترحيبا حاراً. كلهم من آل عبود.
اللبناني تاجر بالسليقة. قالوا لنا ان لهم ملايين الجنيهات في السودان، لا يعرفون كيف سيحصّلونها مع قيود التحويل. اقترحت عليهم أسلوب المقايضة : فيرسلوا لهم بضاعة سودانية لقاء ملايينهم العالقة في أوحال الخرطوم. قال أحدهم: نحن على استعداد لاستيراد ذرة من السودان، لأن مزارع الدجاج بلا حساب في لبنان. بدت لي صفقة هائلة. يقرأ السودانيون مقابل ان تأكل فراخ لبنان.
جمعنا ما وجدنا من كتب المؤلفين السودانيين، ثم عرجنا على "المكتبة الشرقية". أبدى صاحب المكتبة ترحيبا كذلك، وطلب ان نزوده بعناوين مؤلفين سودانيين.
ما معنى "محمصة"؟
اقترح علينا الصديق أحمد الجبيلي ان نذهب إلى "محمصة". ما معنى محمصة يا جبيلي ؟
قال : هناك يباع البن التركي، والحلويات والقطائف والمكسرات. إذاً إلى المحمصة. نقلنا السائق إلى محمصة قال إنها كانت تقع في الخط الفاصل بين المتحف والبربير.
قيل لنا ان معارك أهلكت جيوشاً في هذا الخط. هل تعرفون كم يبعد المتحف عن البربير؟ بضعة أمتار. أي والله، بضعة أمتار. هلك بينهما بشر وحجر ومقاتلون وأفكار.
دخلنا إلى المحمصة. راح الجبيلي يشتري، ونحن نتأمل هذه المحمصة. استقبلنا أحدهم : مرحبا شباب.
كل الناس في بيروت "شباب". فإذا أردت ان تتحدث عن شيوخ طاعنين في السن لا بد ان تقول الشباب يريدون كذا وكذا. أناس مدهشون مقبلون على الحياة بكيفية مذهلة.
قُدّمت لنا "قهوة تركي"، في انتظار ان يشتري الجبيلي ما يريد. تشتري وأنت في مزاج رائق. شعب مدهش.
كانت الاقتراحات تأتينا من كل جانب، ونحن ننفذ. ما أحلى التسكع في بيروت. قال لنا الصديق سمير السعداوي : إذا أردتم ان تتبضعوا عليكم ببرج حمود. إذاً إلى برج حمود. ذهبنا إلى هناك، محمد المكي وفهد العسكر والداعي لكم بالخير.
تخيلنا ان نجد برجاً. لكننا وجدنا سوقاً تصطف حوانيته كما يصطف الجنود في معسكر يسوده الانضباط.
اشتريت ما أرغب فيه بسرعة. ورحت أتجول في برج حمود. معظم سكانه من الأرمن. وهؤلاء لنا بهم سابق معرفة .فقد كانت لنا هناك جالية أرمنية كبيرة هناك، يوم كان السودان بلداً والخرطوم عاصمة. كان لهم ناد من أرقى نوادي العاصمة المثلثة.
وقيل إن كارلوس "برطع" فيه كما يشاء.
تذكر محمد المكي الاولاد وراح يتنقل من دكان إلى آخر ليشترى لهم "هدية بيروت". لكن المكي نسي المقاسات، فراح يطلب عوناً من باعة برج حمود ليحددوا له طول الاولاد في قطر. أما فهد العسكر، فقد راح يعقد مقارنات بين أسعار بيروت والرياض. الداعي لكم بالخير رغب في اكتشاف البرج وأهله. أثارت اهتمامي بعض الأشياء الصغيرة.
سمك من السينغال
بدا لي ان تلك الحرب المجنونة لم تمر من هنا. وجدت ان هناك عيدا أطلق عليه اسم "البربارة"، أو شيء من هذا القبيل. وكان بعض الحوانيت يبيع حلويات وقطائف لهذا العيد.
الأسعار معقولة، والحلوى لذيذة المذاق. اشترينا منها كيلو "مشكّلاً" من مختلف الأشكال. استرعى انتباهي كذلك محل لبيع السمك. لاحظت ان الأسعار تصل إلى عنان السماء. سألت فعرفت ان ذلك السمك يستورد من السنغال بالطائرة !
هذا الحي يبدو مكتفيا ذاتيا يوجد فيه كل شيء، وأزقته تشبه أزقة أمدرمان. وقد أعجبتني اللكنة التي يتحدث بها الأرمن وشطارتهم التجارية. هل يوجد في بيروت من ليس شاطراً في التجارة ؟
في اليوم الأخير من الرحلة السَنية للديار اللبنانية، كان لا بدّ من زيارة الحمراء. هنا عاش سياسيون ومنفيون من كل الدول العربية. وهنا طحنتهم "في مقاهي الشرق حرب الكلمات". أسعار هذه المنطقة مرتفعة، لكن البضائع والسلع جلبت لارضاء ذوق الطبقة الراقية أو هكذا يبدو. ولعل ما يميز الحمراء، تلك المقاهي التي انبسطت على الرصيف.
لفت انتباهي، ونحن ندلف إلى إحدى صيدليات شارع الحمراء وجود تلك النبتة التي تسمى "شرش الزلّوع" - وهو المعادل اللبناني لحبة الفياغرا - فقد عبئت في علب أنيقة، ووضعت بطريقة صحية في أكياس صغيرة على غرار أكياس الشاي ،وكتب على الصندوق : "شرش الزلوع. الفوائد: مقوّ للأعصاب، ويؤخر الشيخوخة المبكرة، مخفف للاكتئاب ومنشط عام". هل تريدون المزيد ؟
أفكار مجنونة
بقيت مسألة. لعل أهم ما ميز هؤلاء الناس قدرتهم الخارقة على التفاعل والتواصل. هذه الخاصية تجسدها الطبقة السياسية في بيروت. في جميع اللقاءات تلحظ القدرة على التواصل، وحتى عندما كنا عند الرئيس أميل لحّود، صمت الصحافيون، فطلب منهم هو ان يسألوا !
استقبل رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة أسرة "الحياة" و"الوسط" في قصر الرئاسة في بعبدا. وكان دوري للسلام عليه بعد الزميلة سائدة حمد، مراسلة "الحياة" في فلسطين. اشتكت تلك الشابة الآتية من رام الله، والتي تفيض أنوثة وعذوبة، اشتكت للرئيس لحّود من انهم طلبوا منها في المطار ان تبرز لرجال الجوازات مبلغ ألفي دولار نقداً، حتى تدخل البلد. عبرت عن استيائها. استمع لها الرئيس. تعاطفنا كثيرا مع شكواها... حتّى كدنا نطلب يدها كي نرتبط مع قضيتها "ارتباطاً مصيرياً".
فكرة من تلك الأفكار المجنونة التي تراود المرء وهو في كامل قواه العقلي. بعدها فكرت في هذا المثلث : الخرطوم الرباط رام الله. مثلث برمودا... أليس كذلك ؟
هكذا ودّعنا بيروت. آه منك يا زمن النزوح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.