محلاَّت "دبوس" في لبنان، عطارة القرون الخوالي، بقيت فلذة من الماضي في وسط المشهد الذي يتغيَّر بقفزات ويرغمك على أن تكون منه تحت طائلة النبذ والتسفيه والرَّمْيِ بالتخلف! تزدحم المحلات بآلاف الأصناف المتكدسة على الأرض والجدران، المتدلية من السقف حتى لتكاد تنفي الفراغ. واسأل صاحب "دبوس" عن سلعة يقل لك: هي موجودة عندي... وفي زمن موغلٍ في ماضي بيروت المتغيرة بقفزات سألنا واحداً من "الدبابيس" عن سلع حسبناها نادرة فقال: "تجدون عندنا ثوباً للبرغوث!"... وكان آخرون يقولون: "عندنا من البابوج للطربوش"... وبين غُلُوِّ صاحب "ثوب البرغوث" وتوسط بائع البابوج والطربوش ثمة حقائق. فالدَّبوس في الأصل محل عطارة يبيع الأعشاب وما يستحلب منها أدوية وأصباغ شَعْر ووصفات تسمين للراغبات في سمنة، أيام كانت السمنة واسطة العقد في معايير الجمال... ومع الزمن توسعت تجارة "الدبّوس" فاشتملت على بيع الخردة بأنواعها" ففي هذا العالم الذي يجسد "الفوضى المنظمة" تزدحم أدوات البناء والنجارة والحدادة الى جانب طعام الطيور والطيوب والأصباغ وعلاجات العجز الجنسي وخامات السوس والتمر هندي ودبق صيد العصافير وأقفاص العصافير، وما تحسب أنه انقرض ونَحَّتْهُ حضارة العصر. ما تغير في عالم الدبابيس مواقعها، فيما ظل الجوهر جوهراً يستعصي حتى لا يصبح نقيض ذاته! في المواقع: انتقلت محلات دبوس من وسط بيروت" من "سوق أبو النصر" و"سوق سرسق" وغيرهما، الى أحياء بيروت وضواحيها، وبقي دبوس وحيد في مدينة صيدا في موقعه كذلك دبابيس طرابلس. تغيُّرٌ آخر طرأ على "الصنعة" يرصده الدبابيس الأصيلون ويضيقون به، هو دخول الطارئين "على الخط"... فهذه حرفة تكاد أن تكون موروثة في عائلات، بكل خبراتها وأسرارها وعالمها الأثير المنطوي على الغرائب. فهل لدخول الطارئين تفسير غير أنَّ الصفحة مجزية فيها الكثير من الربح، وهل له تفسير آخر غير أنَّ الزبائن الباقين على عهودهم كُثُرٌ؟ قل إن الزبائن يتزايدون مع نزوع الناس الى الطبيعة في مواجهة هذا الوباء الزاحف من عالم يمعن في تحضره" وباء له أكثر من ملمح: الايدز، والحمى القلاعية، وما شئت من أمراض يُستعاض معها بخيرات الأرض البسيطة عن طعام موبوء وعلاج وصباغ تُخشى أعراضهما الجانبية. وفي أمس قريب ضجَّ العالم كلُّه بصخب الاختراع المثير: الفياغرا، فقال الدبابيس: عندنا ما هو أقدم وأسلم وأفعل: شرش الزلوع الذي يؤتى به من جبل في بلدة شبعا الجنوبية. شرش الزلوع ازدهرت سوقه، وتسلَّل كثيرون الى محلات دبوس، يطلبونه على استحياء... يطلبونه بالإيماء، كما تطلب العوازل من الصيدليات. ومع أن "الفوضى المنظمة" هي السمة الغالبة في محلات دبوس، فإن واحداً من ورثة الصنعة العريقين يقول لنا انه سيدخل على محله التقليدي آلة كومبيوتر. في محلة برج أبي حيدر في بيروت يتجاور "دبابيس" عدة، لا تفصل بينها غير مسافات قليلة، وفي نقطة وسط يقوم "دبوس" الشقيقين بسام وأسامة منيمنة... ولأمرٍ ما رفع بسام وأسامة على واجهة متجرهما عبارة "دبوس الأصلي". ولم ينفرد الشقيقان بهذا الإيماء الذي يعني ان من دبابيس اليوم ما ليس أصلياً" ففي واجهة محل آخر خُطَّتْ عبارة "دبوس رقم1". نقف في وسط الفوضى، في محل الشقيقين منيمنة، ونكتم سؤالنا الأول قبل ان ينفلت: "كيف تعثرون على السلعة في هذا الركام؟"... فنحن - ككثيرين - نعلم ان صاحب الدبوس لا يحتاج الى كثير وقت في البحث عن لفافة "الحنّة" أو أي صباغ آخر، فكل شيء منظم في ذاكرته... وأما شرش الزلوع فمبذول في الصناديق المفتوحة على الأرض ترشدك اليه - ان كنت جاهله - عبارة من كلمتين: "شرش الزلوع"، من دون حاجة الى ما يوضح الخصائص والمفاعيل. أسامة منيمنة يحرص على القول إن الصنعة متوارثة في أجيال عدة من عائلته، ويقول: "نحن في الأصل عطارون... وسَّعنا المصلحة، ونوَّعنا حتى وجد الزبون عندنا كل ما يريد. لكن طابع دبوسنا الغالب ظل هو نفسه طابع دبوس الذي كان في سوق أبي النصر بالقرب من درج البيض". نترحم معه على السوق والدرج، وعلى سائر الأسواق والأدراج، ونسأل أسامة تفسيراً لمصطلح "دبوس"، فيقول: "دعك من الخرافة التي ترد التسمية الى شكة الدبوس. فالأرجح أن منشأها عطَّار من آل دبوس أطلق اسم عائلته على محله، وجارته في التسمية محلات مماثلة". نشير الى القليل من السلع التي لا تدخل في بطانة العطارة، فيقول أسامة: "بالفعل، تجد هنا الكثير من السلع المستحدثة، الى جانب العطور والأصباغ والأعشاب الطبية". "ولكنكم لا تزالون تعالجون المرضى بالطرق التقليدية".. أقول لأسامة منيمنة، غير متعمد ايقاعه في شرك. ولكنه كثير الحيطة، ولذلك يصحح معلوماتنا" فالأمر يتصل بالقانون الذي ينظم عملية التداوي، يقول: "نحن لا نصف للزبون دواءً... نحن نلبي طلب الزبون، وننصح أحياناً، وأحياناً نشرح خصائص كل عشبة ودواعي استعمالها... غير ذلك لا نفعل، ولا نأخذ على عاتقنا مسؤولية تشخيص الداء ووصف الدواء".