لا يمكن لمهرجان البندقية الايطالي ان يزعم انه اكثر فخامة وصخباً من مهرجان "كان" الفرنسي، على رغم انه يفوقه سناً، وعلى رغم ان المدينة التي تحتضنه اكثر اهمية وجمالاً من المنتجع البحري الفرنسي الذي يحتضن نظيره. ومع هذا يفضل كثيرون مهرجان "الأسد الذهبي" على مهرجان "السعفة الذهبية" لأنهم يعتبرونه اكثر عراقة واكثر التصاقاً بفن السينما، وأقل اميركية ونجومية. في جميع الأحوال، يتكامل المهرجانان، وخصوصاً من ناحية ان مهرجان "كان" يختتم موسماً سابقاً، فيما يفتتح مهرجان "البندقية" موسماً مقبلاً. ولئن تميز مهرجان كان في دورته لهذا العام بنتائجه التي اتت اشبه بالفضيحة، وبكونه يغرق اكثر واكثر بين تطلعاته الفنية المشروعة وصورته الاجتماعية الصاخبة الضرورية لاستمراريته، فإن مهرجان "البندقية" يتميز في دورته السادسة والخمسين، التي افتتحت قبل ايام، بكونه يأتي ليحتضن اسماء كبيرة جداً في عالم السينما المعاصرة، علماً بأن الاسمين المهيمنين واللذين يدوران على كل شفة ولسان، هما اسما ستانلي كوبريك واكيرا كوروساوا، اللذان رحلا عن عالمنا خلال الشهور الفاصلة بين دورتي هذا المهرجان. ولئن كان التكريم الحقيقي للفنان يقوم في عرض عمله، فان من حظ مهرجان البندقية انه يعرض آخر عملين لهاذين الفنانين الكبيرين، وهما عملان انجز كل منهما إما في الأيام الاخيرة من حياة صاحبه "عيون مغلقة على اتساعها" لستانلي كوبريك". وإما بعد رحيله "قبل المطر" لأكيرا كوروساوا. ستانلي كوبريك، قبل رحيله بأيام، حسبما تروي الحكاية، كان امسك بيديه النسخة الاولى من فيلمه وبعث بها الى الشركة المنتجة حائزة رضاه. اما اكيرا كوروساوا، فلم يقيض له مثل ذلك الحظ، فما كان من مساعديه ومحبيه الا ان نفذوا فيلمه الاخير انطلاقاً من اوراق ورسومات وملاحظات كان دوّنها وينوي الاشتغال عليها. هذان الفيلمان الكبيران، اللذان قدم اولهما في افتتاح الدورة، ويقدم الثاني خلال تكريم تخص به المخرج الياباني الراحل، سيشاهدهما امير كوستوريتسا، لكنه لن يدعى للحكم عليهما، لأنهما يقدمان هنا خارج المسابقة الرسمية. وكوستوريتسا، يتولى في مهرجان البندقية، رئاسة اللجنة التحكيمية، التي ستتولى اختيار الافلام الفائزة بالجوائز الكبرى لمهرجان يعتدّ فنانو السينما بجوائزه كثيراً. وكوستوريتسا، هو واحد من مبدعي السينما الذين يدينون بالكثير لمهرجان البندقية، الذي سبق له ان اطلقه عالمياً بفيلمه "هل تذكر بيبي دول" قبل ان يمنحه جائزة "الأسد الفضي" عن فيلمه الاخير "قط اسود، قط ابيض". من هنا، حين يأتي كوستوريتسا الى البندقية يأتي الى مكان أليف، يقول هو عنه انه "يتيح لي ان اشاهد احدث ما توصل اليه فن السينما في العالم، وان اتناقش وأساجل بشكل جدي". في هذه الدورة سيكون على كوستوريتسا وأصحابه ان يختاروا الأفلام الفائزة بالجوائز، من بين 18 فيلماً، تنتمي الى امم عديدة، شرقية وغربية. ولئن كانت الأفلام التي تحمل الخاتم الاميركي اربعة، فان اياً منها ليس من اخراج اميركي. ليس في المسابقة اي مخرج اميركي، اما المخرج الأشهر فهو انطونيو بانديراس، الذي يحقق عنه عمله الأول كمخرج من تمثيل زوجته ميلاني غريفيث بعنوان "مجنون في آلاباما". من اميركا ايضاً تأتي افلام، النيوزيلندية جين كامبيون "الدخان المقدس" صدر في الهند من تمثيل كيت ونسليت، والسويدي لاسي هالتشروم، والنيوزيلندية آليسون ماكلين. ومن ايران هناك عباس كياروستامي الذي يعرض فيلمه الجديد "سوف تذرونا الرياح"، بينما يأتي جانغ بيمو من الصين بفيلمه "لم ينقص ولا واحد"، بقية افلام المسابقة تتوزع على بريطانيا حيث يعرض الفيلم الجديد لمايكل لي "توبسي - تارفي وبولندا وكوريا الجنوبية وايطاليا "الى الغد" لجياني زاناسي، و"نعرمون" لتوتينو دي برناردين والبرتغال، وفرنسا والنمسا… الخ. هذا في المسابقة الرسمية التي بدأت التكهنات تدور، منذ الآن، في شأن اسماء الفائزين فيها، حيث يتردد اسما مايك لي وجين كامبيون اكثر من غيرهما. ولكن ليس ثمة ما هو مؤكد في هذا المجال، اذ هنا - كما في "كان" يجدر بالمراقبين ان ينتظروا اللحظات الأخيرة، وتقلب امزجة اللجنة التحكيمية ورئيسها كوستوريتسا، قبل تبين القط الأسود من القط الأبيض. غير ان افلام المسابقة ليست، في مهرجان "البندقية" كل شيء. بل يمكن ان نقول الآن، بصدد مهرجان البندقية، ما بات يمكن قوله بصدد المهرجانات الكبيرة الاخرى: المسابقة لا تشكل سوى الجزء الأبرز من جبل جليد حقيقي، تشغل اجزاءه المختفية عشرات الأفلام الاخرى هنا في مهرجان "البندقية"، هناك ستون فيلماً كبيراً وأساسياً، خارج اطار عروض المسابقة. وهنا يمكن للمرء ان يجابه الأسماء الأكثر شهرة، التي تعود الى مخرجين باتوا يفضلون - على ضوء تجارب المهرجان المتلاحقة و"تفاهة" نتائج مسابقاتها النهائية، كما حدث في دورة "كان" الاخيرة - أن يعرضوا افلامهم في المهرجان وانما خارج المسابقة. وهذه حال وودي آلن، مثلاً، الذي يخص هذه الدورة بفيلمه الجديد "لطيف ومنحط" الذي يقوم بدوريه الرئيسيين شين بن واوما ثورمان، وكذلك حال دايفيد فينشر الذي يعرض فيلمه المنتظر منذ زمن طويل "نادي المصارعة". اما من كرافن، الذي اشتهر بأفلام الرعب المسيلة للعرق البارد، فانه يحضر في دورة البندقية هذه، ولكن ليس كمخرج لسينما الرعب ولكن كفنان ميلودرامي حقيقي يجرب حظه خارج اطار السينما التي اعتاد عليها: انه هنا مع فيلمه الجديد "موسيقى القلب" الذي تمثل فيه ميريل ستريب دور عازفة كمان تعيش مأساة ما بعدها من مأساة. اذن، لئن كان كرافن قد اعتاد ان يسيل عرق متفرجيه في الماضي، ها هو الآن يحاول ان يسيل دموعهم. هل ينجح؟ مارتن سكورسيسي، بدوره يحضر، ولكن ليس لإسالة الدموع ولا لإسالة العرق، بل لبعث حب السينما وحب السينما الايطالية خصوصاً في افئدة متفرجيه: هو هنا مع فيلم وثائقي، يشيد به النقاد الذين رأوه كثيرا، بعنوان "السينما اللذيذة" تيمنا باسم فيلم فلليني الشهير "الحياة اللذيذة". اما الطرفة الجديدة التي تلفت النظر منذ الآن، فهي عرض سادس فيلم يحقق ضمن اطار ميثاق "دوغما 95" الذي كان وضعه المخرج الدانمركي لارس فون تراير، ويتعلق بسينما حقيقية متقشفة تُنتمي الى الحياة وبساطتها، لا "الى زيف مصانع الاحلام"، حسب طروحات اصحابها. الفيلم الجديد عنوانه "جوليان: فتى الحمار" من اخراج غومو هارمون غورين. ولسوف يكون عرض هذا الفيلم، بالطبع، مناسبة للعودة الى الحديث عن هذا التيار، الذي كان ابرز نجاحاته حتى الآن فيلم "فستن - الاحتفال"، وأثار مؤخراً صخباً كبيراً من خلال عدم رضا لارس فون تراير عن مصير النسخة الاميركية لفيلمه "الحمقى" المنتمي الى التيار نفسه. يبقى ان المهرجان يكرم، هذا العام، الفنان الأميركي جيري لويس، ممثلاً ومخرجاً، وهو آخر الباقين احياء، كما نعرف، من عمالقة الهزل الاميركي. وحتى كتابة هذه السطور لم يعرف ما اذا كان جيري لويس سيحضر نفسه حفل تكريمه ام سينتدب عنه أحداً لذلك بسبب اعيائه ومرضه الشديد. في الاحوال كافة سيمنح لويس "اسداً ذهبياً" تكريماً لمجمل اعماله، ومن المفترض ان يتولى منحه الجائزة، المخرج مارتن سكورسيسي، الذي سبق له ان اداره في فيلم "ملك الكوميديا" الذي مثله الى جانب روبرت دي نيرو. كل هذا في مهرجان واحد ولكن… اين السينما العربية.. و"البندقية" تقع على البحر المتوسط في مواجهة أمم عربية عديدة معظمها ينتج افلاماً تتوق لأن تعرض في مثل هذا المهرجان؟ الحقيقة اننا، منذ شهور عديدة سمعنا عن افلام عربية عديدة قال اصحابها انهم سوف يعرضونها في مهرجان البندقية، ولطالما اكد هؤلاء ان افلامهم قبلت بالفعل، وذلك حتى قبل زمن من مشاهدة لجان الاختيار لها. وهناك ما لا يقل عن اربعة مخرجين كانوا اكدوا انهم حجزوا لأنفسهم مكاناً في المسابقة الرسمية… لكن هذا كله تبخر ما ان اعلنت اسماء الأفلام التي تم اختيارها. ولم يرد اسم اي فيلم عربي في المسابقة الرسمية. ومع هذا فان العرب غير غائبين تماماً. هناك، على الأقل، فيلمان عربيان يعرضان ولكن… في التظاهرات الموازية. فمن لبنان تأتي رندة الشهال بفيلمها الجديد "متحضرون" وهو روائي طويل صورته خلال العام الماضي ومن المفترض ان تكون انجزته تماماً حتى يعرض في البندقية. ما شوهد من الفيلم حتى الآن يشي بأنه افضل من افلام الشهال الروائية السابقة، وبأنها هذه المرة عرفت كيف تصل الى درب يليق بتطلعاتها. والموضوع نفسه شائك ومرير، ويتناول حياة الخدم الملونين في لبنان ما بعد الحرب، وخلال مرحلة من الحرب، اصطدام عقلية اللبنانيين بهذا الوجود غير المتوقع. منذ الآن يقال ان الفيلم اثار اشكالات مع الرقابة اللبنانية، ولربما أثار اشكالات مع المدافعين عن "اخلاقيات المجتمع اللبناني" ايضا. غير ان ثمة من يقول ان قيمة الفيلم ليست في بعده المضموني المتمرد هذا فقط، بل في شكله ولغته السينمائيين ايضاً. ومحبو السينما اللبنانية يأملون هذا بالطبع. الفيلم العربي الثاني في المهرجان يأتي من مصر، وهو الروائي الطويل الاول للمخرج الشاب عاطف حتاتة، الذي كان لفت الأنظار منذ سنوات بفيلم "الكمان" القصير قبل ان يجد الطريق التي قادته الى تحقيق هذا العمل الطويل الأول. عنوان الفيلم "الأبواب المغلقة" وهو واحد من افضل الافلام التي حققت في القاهرة خلال السنوات الاخيرة. يجتمع فيه العمق والشاعرية، والقسوة وتداعيات الواقع، من خلال حكاية صبي في القاهرة خلال عامي 1990 - 1991، عند احتدام حرب الخليج، الصبي يعيش مع امه التي تفني حياتها في سبيله، غير ان المجتمع يتلقفه ويعيد تكوينه شيئا فشيئا، حتى يحرضه في نهاية الأمر ضد امه. وينتهي الأمر بفاجعة. مثل هذا الموضوع، وبالعناصر نفسها تقريباً، كان المخرج المغربي عبدالقادر القطع عالجه في جزء من فيلمه "بيضاوة" لكنه هنا، بين يدي مخرج، هو في الآن نفسه ابن الدكتورة نوال السعداوي، والكاتب شريف حتاتة، يتخذ ابعاداً مختلفة تماماً، يبدو اكثر شاعرية وقسوة. ويبدو في الوقت نفسه اشبه بصرخة استغاثة لمجتمع يفقد بوصلته. مشاركة عاطف حتاتة في مهرجان "البندقية" بعد مشاركة يسري نصر الله واسامة فوزي في مهرجان لوكارتو قبل ايام، وبعد الجوائز العديدة التي نالها "عرق البلح" لرضوان الكاشف، خلال سنة كاملة، تقول لنا ان السينما المصرية يمكنها ان تكون في خير، وان تقول، بعد اشياء كثيرة عالمياً.. ان لم يكن محلياً. والواقع انه من ضمن مميزات مهرجان "البندقية" على احدى سنوات ازدهاره، المتواصلة حتى الآن، هو حس الاكتشاف هذا، والعمل على تقديم مواهب من الصعب ان تتاح لها فرص اخرى. في هذا السياق علينا ان نتذكر ان امير كوستوريتسا، الذي يرأس اليوم لجنة التحكيم، ويعتبر من كبار السينمائيين الاوروبيين، كان مهرجان البندقية نفسه من قدمه للمرة الاولى حين كان لا يزال يافعا ومحلياً ويتلعثم كثيراً وهو يعرض فيلمه الأول