خشي اللبنانيون على الدوام من توطين الفلسطينيين المقيمين على أرضهم، اي من بقائهم عليها متمتعين سواء بحقوق المواطنية كاملة وأهمها على الاطلاق الجنسية اللبنانية او بحقوق الاقامة كرعايا اجانب يحملون هوية دولة اخرى تسمح لهم بالعمل في كل المجالات وفقاً للقوانين والانظمة التي تساعدهم على تحسين مستوى عيشهم ونوعيته وتمكنهم من الخروج من المخيمات التي عاشوا فيها عقوداً عدة، وهي مخيمات افتقرت ولا تزال تفتقر الى ابسط الشروط الصحية او على الاقل من "نفضها" لتصبح لائقة، وهي ليست كذلك حالياً. وقد أعرب قسم منهم، معظمه من المسيحيين، عن هذا الخوف 1975 عندما حملوا السلاح، كما قالوا، للتصدي للوجود الفلسطيني المسلح الذي بدأ في التكون عام 1970 بعد احداث الاردن التي ادت الى تهجير كادرات الفصائل الثورية المؤمنة بالكفاح المسلح ضد اسرائيل الى لبنان الذين نجحوا، على مدى خمس سنوات، في تحويل المخيمات الفلسطينية المنتشرة في العاصمة وضواحيها وفي سائر الاراضي اللبنانية قلاعاً حصينة على اي قوة، وإن تكن رسمية. ثم أعرب قسم آخر منهم، معظمه من الشيعة، عن ذلك عندما حمل السلاح بدوره بعد سنوات ضد الفصائل الفلسطينية بعدما كثرت تجاوزات اعضائها وبعدما بدأوا يمارسون حكماً مباشراً جعل الخوف يدب في القلوب من ان يقيم الفلسطينيون دولة داخل الدولة، ومن ان يؤدي ذلك لاحقاً الى توطينهم في لبنان بسبب عجز الدول العربية والثورة الفلسطينية عن إلحاق الهزيمة بإسرائيل غاصبة أرضهم، وبسبب رفض الاخيرة اعادتهم الى اراضيهم طوعاً في حال حُلّت سلمياً "قضيتهم". وأثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982 بدأ قسم ثالث من اللبنانيين، معظمه من السنّة، يدرك مخاطر استمرار الوجود الفلسطيني المسلح في البلد على رغم اعتقاده في بداية الحرب بأنه جيش المسلمين، وانه يساعدهم في ازالة الغبن اللاحق بهم في النظام اللبناني، وعبرت عن ذلك قيادات اساسية له، خصوصاً في حصار بيروت عبر مطالبتها قادة الوجود المذكور بالانسحاب من لبنان تنفيذاً لطلبات المحتل . هل زال الخوف من التوطين المشار اليه اعلاه أم خف أم أنه زاد؟ لا شك في انه زاد منذ ان بدأت عملية السلام في مدريد العام 1991. وقد تفاقم في الاشهر الأخيرة لأن هذه العملية التي تعثرت بين عامي 1996 و1999 بسبب تصلب حكومة اسرائيل ورئيسها السابق بنيامين نتانياهو بدأت تنتعش في اعقاب خروج نتانياهو من السلطة وحلول ايهود باراك مكانه، ولأن باراك وحكومته يرفضان رفضاً قاطعاً عودة اي لاجئ فلسطيني الى الاراضي التي احتلت عام 9481، وكذلك عودة الفلسطينيين الذين نزحوا، سواء الى لبنان والى دول عربية اخرى من الضفة الغربية وغزة اللتين احتلتا العام 1967، وكذلك لأن الولاياتالمتحدة الاميركية الراعي الاوحد لعملية السلام تتفهم الرفض الاسرائيلي، بل تتبناه، الامر الذي يجعل الموقف العربي والموقف الدولي وتحديداً الاوروبي المتفهم وضع اللاجئين ضعيفين وخجولين . وقد أعرب العرب عن تفاقم الخوف من التوطين. الا ان الصوت اللبناني كان الاقوى، ربما لأن الخوف اللبناني كان ولا يزال الأكبر نظراً الى الانعكاسات السلبية للتوطين على كل الوطن اللبناني. فهذا الوطن محكوم بتوازن هش بين ابنائه المسيحيين والمسلمين. وهذا التوازن يزيد هشاشة مع الايام بسبب ارتفاع عدد المسلمين، نظراً الى ارتفاع نسبة المواليد وبسبب نقصان عدد المسيحيين لانخفاض النسبة المذكورة، ولهجرة كثيرين منهم الى بلدان الاغتراب اثناء سنوات الحرب وبعد انتهائها. وسيضيف اي توطين للفلسطينيين رصيداً للمسلمين، الامر الذي يجعل المسيحيين اكثر اقلية مما هم عليه الآن، ويهدد النظام اللبناني والصيغة اللبنانية بالخطر. والطوائف الاسلامية في هذا الوطن محكومة ايضاً بتوازن دقيق بين اكبر فريقين فيها: السنّة والشيعة. واي توطين للفلسطينيين في لبنان سيغلب السنّة عددياً على الآخرين، ومن شأن ذلك جعل التوازن بينهما هشاً وجعل الوضع الداخلي اقل استقراراً. وقد رفع الصوت اللبناني المشار اليه رئيس جمهورية لبنان العماد إميل لحود قبل اسابيع عندما ربط مباشرة، في موقف رسمي علني، التسوية مع اسرائيل او بالاحرى استئناف المفاوضات معها بتنفيذ القرار الدولي الرقم 425، وبإيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على الاراضي اللبنانية. وأيده في موقفه اللبنانيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية والفكرية. واذا كان المعنيون بعملية السلام تفهموا رفع لبنان صوته تعبيراً عن خوفه من التوطين وعن رفضه له، فإنهم ابدوا استغرابهم لعملية الربط المشار اليها، ذلك ان التسوية صارت، بعد غياب التضامن العربي الذي ادى الى تجزئة المسارات العربية، شأناً لبنانياً وشأناً سورياً. وكذلك نظراً الى تلازم مساريهما التفاوضيين مع اسرائيل الذي قررته بيروت ودمشق منذ اعوام، وجوهر هذه التسوية انهاء حال الحرب والعداء واقامة علاقة سلمية عادية تؤمّن للبنان وسورية عودة اراضيهما المحتلة وتؤمن لإسرائيل الامن. اما السلام الشامل فيبقى رهناً بالمفاوضات المتعددة الأطراف التي يفترض ان يشارك فيها لبنان وسورية بعد تحريرهما اراضيهما المحتلة والتي لا بد ان تشمل قضايا عدة مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين او مصيرهم، والمياه والتسلح والبيئة الى آخر ما هنالك من قضايا وسيبقى رهناً، في اطار المفاوضات المذكورة، بمحادثات عميقة وجدية مع اسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، المعنيين بموضوع اللاجئين. وفي هذا الاطار يستطيع لبنان ان يستعين بأصدقائه على الساحة الدولية، لا سيما الذين يشاركون في المفاوضات المتعددة الأطراف وكذلك بأشقائه لإبعاد كأس التوطين عن شفتيه، ولديه كل المبررات الكفيلة بالاقناع اذا احسن استعمالها. فأما ان يتخلص من التوطين نهائياً او يتحمل نسبة ضئيلة من الوجود الفلسطيني لا تؤثر على توازنه الوطني والطائفي والمذهبي، خصوصاً اذا حصل افراده على هويات وفتحت امامهم ابواب العمل والرزق سواء داخل لبنان او خارجه. غير ان احاطة موضوع التوطين بضجيج كبير من المسؤولين اللبنانيين مؤذية لأسباب عدة، ابرزها اثارة الحساسيات والنعرات الطائفية والداخلية الموجودة اساساً، فهي من جهة تجعل المسيحيين الخائفين دوماً، عن حق حيناً وعن غير حق حينا آخر، اكثر خوفاً لأن التوطين يجعلهم اقلية دائمة ومتناقصة باستمرار. وقد يحيي في نفوس بعضهم اقتراحات تقسيمية قابلة للتحقق بعدما تحققت اقتراحات ألبان كوسوفو أخيراً. وهي من جهة اخرى تذكي النعرات والحساسيات بين السنّة والشيعة في البلاد، خصوصاً اذا حاول بعضهم توظيف التوطين في الصراعات الداخلية الدائرة، وتحديداً اذا اتهم في وسائل اعلامه شخصيات سنّية تستقطب حالياً معظم الوضع السني في البلاد بالتواطؤ مع الرئيس ياسر عرفات لتحقيق التوطين لتعزيز وضع طائفتها مقابل الوضع المقرر للطائفة الاسلامية الاخرى. هل يوطّن اللاجئون الفلسطينيون في الدول العربية التي يقيمون فيها منذ عقود؟ وهل يمكن ان يتخلص لبنان من هذه المشكلة أولاً؟ قبل الجواب عن هذين السؤالين، تلفت مصادر ديبلوماسية غربية مطلعة الى ضرورة تعريف كلمة "توطين" وشرح معناها، ذلك ان بعضهم يعتبر ان التوطين يتحقق بحصول اللاجئين الفلسطينيين على جنسيات الدول التي يقيمون في أرضها. ويعتبر آخرون ان التوطين يتحقق بحصول هؤلاء اللاجئين على هويات فلسطينية من دولة فلسطين التي سيعلن قيامها بعد حل ازمة الشرق الاوسط، وان كانت لن تمكنهم من العودة الى ارضهم الا في اطار ضيق ومحدود جداً، وهو اطار جمع الشمل او الحاجة الى عدد من الكفاءات، وعند حصولهم في الوقت نفسه على اقامة دائمة في الدول المضيفة لهم تمكنهم من العمل بكل جدية من دون ممارسة الحقوق السياسية لمواطني هذه الدول. وهناك من يرى ان التوطين يتحقق عندما تفتح دول العالم، خصوصاً المحتاجة الى يد عاملة، ابوابها للاجئين الفلسطينيين، الامر الذي يمكِّنهم من الاستقرار والحصول على جنسية هذه الدول بعد بضع سنوات كما تنص قوانينها. وتشير المعلومات المتوافرة للمصادر نفسها الى ان المعاني الثلاثة للتوطين ستطبق كلها تبعاً لحالات اللاجئين وحالات الدول المضيفة لهم. وذلك يعني ان لبنان الذي لن يستطيع الهرب من موضوع التوطين لأنه اكبر منه، ولانه سيكون نتيجة قرار دولي، سيكون عليه ان يقبل اللاجئين على ارضه كرعايا لدولة فلسطين وحاملين لهويتها، مع منحهم حق العمل وكل الحقوق التي يمارسها اللاجئون في دول عربية اخرى مثل سورية ومصر وغيرهما. الا ان العدد الذي سيقبله سيقتصر على الفلسطينيين الذين لجأوا اليه عام 1948 أي عام النكبة. وعدد هؤلاء كما هو مسجل في سجلات وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين زهاء 267 ألفاً. الا ان عدد الموجود منهم في المخيمات هو في حدود 225 ألفاً، وهكذا فإن التوطين بالمعنى المشروح اعلاه سيشمل الأخيرين أيضاً، علماً ان بعض الجهات الدولية تعتقد بأن هذا العدد سينخفض الى 175 ألفاً بسبب وجود قسم من اللاجئين في الخارج وحصول بعضهم على هويات الدول الاجنبية التي يقيمون فيها. هل من اشارات عملية للتوطين الذي يخشاه الجميع فعلاً والذي يواجهه الجميع رسمياً والذي يعرف الجميع ضمناً انهم بسبب الاوضاع العربية والاقليمية والدولية الراهنة لا يستطيعون ان يواجهوه بنجاح؟ المصادر الديبلوماسية الغربية المطلعة رصدت اشارات كثيرة، ابرزها الآتي: 1 - في الاردن كانت السلطات تمنح فلسطينييالضفة الغربية جوازات سفر مدتها خمس سنوات لأنهم كانوا رعايا المملكة الاردنية بعد الاحتلال الاسرائيلي لها عام 1967. وبعد ظهور مؤشرات على تسوية سلمية يمكن ان تفرز كياناً فلسطينياً مستقلاً او حكماً ذاتياً، قلصت هذه السلطات مدة جوازات السفر الى سنتين. وقد عادت الآن الى المدة السابقة أي خمس سنوات عند تجديد او اصدار اي جواز سفر جديد. وفي الاردن ايضاً هناك وزارة خاصة تتولى رعاية الضعفاء ومنهم اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، موازنتها 350 مليون دولار نصفها تقريباً مخصص للاجئين الفلسطينيين. وفي الاردن ايضاً وضع 20 مشروعاً قيد التنفيذ لتحسين ظروف الحياة والمعيشة، فكان نصيب المخيمات الفلسطينية الشرعية في الاردن 12 مشروعاً. وكان نصيب المخيمات غير الشرعية - اذا جاز التعبير - سبعة مشاريع. وكان نصيب الاردنيين المحتاجين الى رعاية مشروعاً واحداً. 2 - في لبنان وسورية قوبلت دائماً محاولات وكالة غوث اللاجئين وعدد من الدول المهتمة مثل كندا لتحسين حياة الفلسطينيين في المخيمات بنى تحتية - مدارس - طبابة بالرفض دائماً من المسؤولين وباتهام اصحابها بأنهم يعملون لتثبيت هؤلاء تمهيداً لتوطينهم ولم يغيروا موقفهم على رغم التحذيرات من امكان تحول المخيمات بؤر اجرام وفساد متنوع يؤذي البلدين، خصوصاً لبنان باعتبار انه سائب، خلافاً لسورية . وفي الآونة الأخيرة تغير هذا الموقف، اذ تجاوبت سورية وكذلك لبنان، مع مشاريع تحسين الاوضاع في المخيمات لكنهما طلبا في الوقت نفسه مشاريع لشعبيهما. وفي هذا الاطار يمكن وضع مشروع اقامة بنية تحتية في اكبر مخيم فلسطيني في شمال لبنان. علماً ان المبرر اللبناني والرسمي لذلك هو الحفاظ على البيئة. قد نفذ القسم الاول منه، ونفذ قسم من الجزء الثاني. وينتظر تنفيذ الجزء الثالث. وفي الاطار نفسه يمكن وضع خطة بناء 50 منزلاً لمهجرين فلسطينيين، وفي الآونة الاخيرة تغيرت الاجراءات المتعلقة بتنقل الفلسطينيين بين لبنان وسورية، اذ صارت اكثر سهولة من السابق. كما سهلت اجراءات سفر الفلسطينيين الى الخارج وعودتهم أيضاً