"مكثت 8 سنوات في سجون تبليسي وكييف. وهناك صرخوا في وجهي، وسخروا مني، وعذبوني". بهذه العبارات وصف الفنان الأرمني الأصل سيرجي بارادجانوف، صديق مارشيللو ماستروياني و"معلم" اندريه فايدا، شطراً من حياته التي طوي فصلها الأخير في 1990 حين نهش السرطان رئته بعد 66 عاماً قضاها في أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق، متنزهاً بين هذا النمط الابداعي وذاك. السجن والمذلة يكملان صورة الفنان "الملعون" بامتياز، الذي تحتفي به لندن حالياً للمرة الأولى. فرسومه وأعماله التشكيلية وأزياؤه - سنعود اليها في عدد مقبل - معروضة على امتداد شهر بدءا بتقديم أربعة من أشهر أفلامه في صالة "سينما لوميير" التابعة للمعهد الفرنسي في العاصمة البريطانية. والحديث عن "اللعنة" هنا ليس خارجاً على السياق، اذ كادت تكون توأماً لفن بارادجانوف. وسر حظوته هذه يكمن في عوامل عدة تأتي عائلته في طليعتها. فالأسرة تمتعت بدرجة من الثراء وكدست تحفاً فنية عادت عليها بتهمة "البورجوازية" المؤذية في الزمن السوفياتي. أما "لسانه الطويل" فقاده الى السجن مرتين على الأقل في 1973 حين انتصر لزملاء فنانين، وفي 1982 عندما أكد في مقابلة مع صحافي غربي انه "أرمني حتى العظم". لكن اذا كانت هذه أسباباً مباشرة لمصادرة حريته، فللعداء بينه وبين المؤسسة البيروقراطية السوفياتية جذور أعمق، في مقدمها تمرده الذي لا يعرف حدوداً. ووجدت الدولة العملاقة في الحاح بارادجانوف على انتمائه القومي المقموع خصماً عنيداً. أما فنه، فكان سباحة في عكس تيار الجدانوفية و"الواقعية الاشتراكية". وبدلاً من أن يؤدي عمله الفني الى تقنين الفهم للعالم والأشياء وتفصيل الرؤية المتفائلة على قياس التعليمات الايديولوجية، كانت رسوم وأفلام المبدع الأرمني عصية على الفهم تفتح العيون على آفاق جمالية رحبة، وما بعد حداثية قبل ولادة ما بعد الحداثة. بين فن بارادجانوف وحياته وشائج قوية. فثمة تقابل وتوازٍ في أمثلة عدة، بين اللحظة التي عاشها فنان الحياة الكبير والصورة التي نسجها. صحيح ان البحث عن علاقة مباشرة بين ذات المبدع وسيرته ونتاجه محكوم بالخيبة، خصوصاً لدى الحديث عن فنان، مثل بارادجانوف، عمل دائماً على تكسير الحدود المألوفة للصورة وفتح الأبواب على الدلالات. وهو نأى عن أساليب الرصد "الواقعي" للحياة مكرساً طريقة للرؤية العفوية التي تنفح الصورة بقدر وافر من النضارة. لكن كيف لنا ان نتجاهل الشبه بين حياته المتشظية وأفلامه التي تبدو سلسلة كولاجات مقطعة الأوصال؟ ثم ألا يجد تشرد أبطاله الدائم صدى في نزوحه الطويل عن الوطن؟ وهل يذكر ألم ايفان في فيلم "ظلال جدودنا المنسيين" لدى موت حبيبته بنت العائلة المعادية لعائلته، بالحرقة التي اعتصرت قلب بارادجانوف عندما ألقى أهل زوجته التتارية الأولى بها أمام القطار لأنها تجرأت على الاقتران بشخص غريب انتماء وديناً؟ سيرته مليئة بالمفارقات الصارخة التي لخصها مرة بقوله: "أنا أرمني ولدت في تبليسي، واعتقلت في سجن روسي بتهمة أني ناشط قومي أوكراني". وتوجب عليه، كمواطن سوفياتي صالح، ان يستبدل اسمه الأرمني الأصلي سركيس بارادجانويان بآخر روسي صار يعرف به. ولئن كانت بدايته الأكاديمية عادية نسبياً في مدارس تبليسي فهي سرعان ما أخذت تسلك طريقاً متعرجة. وبعدما التحق بمعهد هندسة السكك الحديد، طريق باب الكونسرفاتور حيث تعلم الموسيقى وتخصص بآلة الكمان. ثم أغواه الرقص لفترة انتهت بدخوله معهد السينما في موسكو العام 1948 لتعلم الفن الذي ملك عليه نفسه. وفي غضون 6 سنوات خرج متأبطاً شهادته يبحث عن عمل. لم تسنح الفرصة له بتقديم فيلم لافت حتى العام 1964، حين أثار "ظلال أجدادنا المنسيين" اهتماماً لا بأس به داخل البلاد وخارجها، خلافاً للأفلام الثمانية التي سبقته، وكان بارادجانوف كتب نصوصها وأخرجها. لكن النجاح في الخارج لم يكن جواز سفر الى قلوب السلطات السوفياتية ورقابتها. ولم يمض وقت طويل حتى بدأوا يرفضون تنفيذ أفلامه المولعة ب"الشكل" والاسطورة المحلية. غير أن الجفاء الرسمي والسجن والاهانة لم تحول نظره عن الكاميرا، ورحل وهو منكب على آخر أفلامه الذي أطلق عليه عنوان "اعترافات" وبث فيه نتفاً من سيرته الذاتية. التشرد الذي عاشه في أرجاء الاتحاد السوفياتي نظير لعدم الانتماء الذي كان دليله في عالم الفن. وها هي نائبة مدير متحف بارادجانوف في يريفان تلاحظ انه "لم يقلد أحداً قط. فهو لم يُطق التزام صيغ جاهزة" ولم يتبع سوى خياله الخصب. إلا أن هذه العفوية، التي اعتبرها صديقه المخرج الروسي الشهير اندريه تاركوفسكي، علامة فن بارادجانوف الفارقة، لم تطمس آثار مدارس ونزعات فنية شتى، لا بل الأرجح أنه وصل الى ذات الغايات وتقاطع مع تلك المدارس بفضل عفويته، لا عن طريق النسخ أو التماهي. ولعل ذلك يضفي مزيداً من الأصالة على عنايته، مثلا، ببنية الفيلم وحرصه على جعله خارطة لعلاقات التقابل والتوازي، وتعزيز استقلالية العمل الفنية بحيث لا يكون نسخاً للواقع، مايذكر بالشكلانيين الروس وكثير ممن أتوا بعدهم. وفي بعض أفلامه ينتهي حيث يبدأ، ولو أن الكثير يحصل بين النقطتين خلافاً لعبارة بيكيت الشهيرة في مسرحية "بانتظار غودو": "لا شيء يحصل، لا أحد يأتي ولا أحد يذهب"، التي تصلح مثلا لمقدمة - خاتمة لعمل ساكن لا فعل فيه. هكذا تفصل أحداث كثيرة بين سؤال وجهه ايفان لحبيبته ماريشكا في بداية "ظلال أجدادنا المنسيين" قائلاً "هل سنصبح زوجين؟"، أعاد السؤال قبيل نهاية الفيلم عندما تخيل نفسه قريبا من فتاته الراحلة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فالشاب يمضي في مشروع الزواج على رغم معارضة أمه، ويسافر لجمع المال اللازم. إلا أن حبيبته تموت غرقاً فيهيم على وجهه حتى يقترن بامرأة أخرى. ولا يلبث ان يجد نفسه محاصراً بالحبيبة التي تلح صورتها عليه والزوجة التي يفقد التواصل معها، فتزيد هلوساته. وخلال مناوشة تلقى ايفان ضربة قاتلة تعيد الى البال مشهد الضربة التي وجهها أحد أفراد عائلة ماريشكا لأبيه وكانت سبباً للعداء المستفحل بين الأسرتين. تؤذن كل من الضربتين بطغيان اللون الأحمر على الشاشة، خصوصاً في مشهد ايفان الطويل نسبياً، حيث يتأرجح ببطء وسط هياكل قانية بين الموت والحياة. فضلاً عن هذا المشهد، اقتنصت الكاميرا التي تتحرك بخفة عجيبة صوراً لافتة كثيرة. وهي تبدو أحياناً أشبه بعين لاهية تبحث عن الجمال وحده، الذي اعتبره بارادجانوف بمثابة "الأفيون". ولا ننسى لقاء ايفان المتخيل بحبيبته الراحلة في النهر، والذي تلتقطه الكاميرا المخبأة في القاع. هكذا تبدو حركات أيديهما على سطح الماء شبيهة للغاية بالفيلم الوثائقي الشهير حيث نرى الفنان الأميركي جاكسون بولاك وهو ينفض فرشاته على لوح زجاجي ما جعل نقاط الألوان المتناثرة تظهر وكأنها تسقط مباشرة على الشاشة أو في عيون المشاهد. فهل اقتبس بارادجانوف اللعبة عن الفيلم الأميركي، أم انه اكتشفها بفضل موهبة فذة بعفويتها؟ وعدا مشاهد فنية عالية جعلت الشريط أشبه بحجر الزاوية في السينما الأوكرانية، يسلط المخرج الضوء بقوة هنا على ريف القوقاز وأزيائه وحياة ناسه وألوانهم ورقصاتهم. والفولكلور على اختلاف أنواعه، هو ولع بارادجانوف الأول. وربما كانت نزعة الفولكلور التمردية، وهو بديل عن الفن الرسمي ومجاف له، غالباً، أحد أسباب تعلقه بالفنون الشعبية. وقد غضبت المؤسسة السوفياتية منه حين صور ثقافته الأرمنية بحب جارف ودقة مرهفة كاد يمسك معهما بتفاصيل الألوان وعبق الروائح وعذوبة الأصوات في بلاده عبر شريط "لون الرمان" 1969. أصرت السلطات على حذف نصف مشاهد الفيلم تقريباً. ومع ان طوله غدا حوالي ساعة ونصف الساعة، فالشريط عبَّد على الأرجح طريق بارادجانوف الى وجهتين مختلفتين: السجن والشهرة العالمية. وقد حفز سينمائيين عالميين من قماشة بونويل وتروفو وسكوريسيزي وفيلليني وفيسكونتي للمساهمة في حملة لاطلاق بارادجانوف، الذي اعتبره اندريه فايدا "صديقاً ومعلماً". صحيح ان الفيلم يعب من الرموز الأرمنية، ما يجعل سرده أجزاء من حياة الشاعر الجوال سايات نوفا القرن 18 مغرقاً في الغموض أحياناً. لكن الشريط الذي قطعه المخرج، على عادته الى فقرات تحمل عناوين فرعية، طافح بالجمال. تبقى الكاميرا غالباً ثابتة فيما تتحرك الشخوص كأنها الريشة التي ترسم معالم الحياة الأرمنية. أما الصور القوية الأثر، فلعل أبرزها لقطة عصير الرمان القاني الذي ينسكب في المقدمة على شكل خريطة أرمينيا فوق نسيج أبيض يرتاح عليه خنجر. لا يخلو "لون الرمان" من سخرية قوية هي احدى سمات فيلم "عاشق غريب" 1988 الأساسية. وهنا أيضاً يتشرد الموسيقي الشاب في سبيل الحب. وبعد رحلة تستغرق 1000 يوم واجه فيها صعوبات ومفارقات مضحكة وخطيرة يعود محملاً بالمال اللازم على صهوة حصان أبيض قاده ملاك. هكذا تختلط الأسطورة بالفولكلور وتحضر السخرية في مواقف شتى، قد يكون لقاؤه مع الباشا ونسائه من أظرفها. ولئن تبارى "عاشق غريب" مع "ظلال أجدادنا المنسيين" على المرتبة الأولى في القدرة على الوصول الى المشاهد، فإن "لون الرمان" يجد في شريط "اسطورة قلعة سورام" منافساً قوياً من حيث الغموض والترف التصويري والجمالي. في الفيلم الأخير يتناول بارادجانوف مجدداً اسطورة فولكلورية يستعيرها هذه المرة من جورجيا، عن قلعة متهالكة لا بد لها من الحب والتضحية كي تنهض عالياً. ويتابع هنا سعيه القديم الى تسليط ضوء جديد على الأشياء لتغريبها عن أشكالها المألوفة. لذلك يخرج المرء من فيلم بارادجانوف عادة بباقة صور ترسخ في الذاكرة وتكون أبقى من الكلمات. وهو يوحي في الشريط الأخير بأن الأمر كله لا يعدو كونه لعبة لا تمت الى الواقع، كما دلّ بوضوح في خاتمة "عاشق غريب" حين تحط الحمامة البيضاء على الكاميرا التي تحتل الشاشة قبل أن يُسدل الستار. الكشف عن سر اللعبة مفارقة أخرى لفنان لم ترحمه التناقضات حتى عند موته. اذ دفن المتمرد والسجين في مقبرة "بانثيون" الى جوار مواطنه الموسيقار آرام خاتشادوريان الذي اتهم بمساومة السلطات السوفياتية، ولو على حساب ألحانه التي لم تطمح غالباً الى المفارقة والاختلاف