ما أن تعبر قدماك "باب النصر" لتصبح داخل هرر القديمة، حتى يعتريك الشعور بأنك ولجت لتوك احد كتب التاريخ الاسلامي القديم. وكلما التفت بعد ذلك الى ناحية من نواحي المدينة، ستشعر بالتأكيد كأنك تتصفح اوراق ذلك الكتاب وتقلبها بسرعة الالتفاتة نفسها. اما حين تصل الى قلب اسواق المدينة، فإن الكتاب سيختفي لتحس وكأنك هذه المرة تعيش احداث فيلم سينمائي حوِّر - ويا للمعجزة! - خلال القرون الأولى للاسلام. والحال ان هذا الشعور يبدو أقرب الى الواقع، فمدينة هرر القديمة وسورها وأسواقها ما زالت كما تحدثت عنها كتب التاريخ. حتى أن سلوك أناسها داخل اسوارها يختلف عن سلوك من يعيش خارجها. وتبدو المدينة متحفاً كبيراً متحركاً ما أن تخرج من إحدى بواباتها الخمس حتى ترغب حتماً بالدخول اليها ثانية. المنازل متلاصقة في وسط هرر تعلو وتهبط بحسب انحدار الارض وارتفاعها، فالمدينة مبنية على احد المرتفعات الجبلية وينتشر في اسواقها الباعة والشارون. البضائع توابل وبخور ولُبان ومسك تعرضها نساء هرريات، بدت الوان بشرة وجوههن شبيهة بالوان التوابل المعروضة أمامهن. على مسافة قريبة اصطف بائعو القات يدللون على قاتهم الاخضر ويرشونه ماء بين فينة وأخرى ليحافظوا على نضارته في قيظ ذلك النهار. في زاوية اخرى يظهر مدخل دكان صغير، تدخله فإذا به كهف كبير داخل جبل تعمل فيه آلة خشبية قديمة على طحن الدقيق الذي ينتشر غُباره في المكان ليزيد من عتمته. وفي كهف مقابل رُصت عشرات الأكياس وفيها انواع عدة من أعلاف الحيوانات يقايض البائع بضاعته بسلع اخرى او بأموال. وفي مكان آخر بائعو الفحم يصطفون في ظل جهة من سور المدينة يبيعون الفحم وقوداً دائماً بسبب عدم وجود التيار الكهربائي او الآلات الحديثة داخل الاسوار. تنزل درجات قرب باب الفتوح لتجد سوق الماشية يعج بها، إبلاً وجمالاً وأغناماً وأبقاراً وماعزاً. تصعد درجات اخرى لتصل الى "باب حاكم" حيث الخضار والفواكه... فتاة صغيرة تجادل بائع المسواك نوع من الخشب الطري يستخدم كفرشاة اسنان وتحمل دجاجتين تفر احداهما.. تهرول الفتاة لاحقة بها فتفر الثانية، يستنفر الباعة والمتجولون ويحاول بعضهم الامساك بالدجاجتين فيصطدم احدهم بعربة فاكهة تقع محتوياتها بين ارجل المشاة. يتطلع فضوليون في كل الاتجاهات لمعرفة سبب الفوضى التي عمت سوق الخضار فجأة. تستعيد الفتاة دجاجتيها وترحل بهدوء، لكن فوضى السوق تستمر. تبعد مدينة هرر مسافة 550 كلم عن العاصمة الاثيوبية اديس ابابا و 110 كلم عن مدينة جقجقة عاصمة اقليم هررغي اوغادين او الصومال الغربي سابقاً. تأسست العام 1520 بعدما بناها السلطان ابو بكر محمد الذي اطلق عليها اسم هرر وجعلها من اهم المدن في القرن الافريقي، خصوصاً ان موقعها الجغرافي يحتل الجزء الشرقي من الهضبة الاثيوبية، لذلك كان يسهل الوصول اليها من اراضي الداخل الخصبة ومرافئ خليج عدن على حد سواء. ولم يعش السلطان ابو بكر طويلاً بعد تأسيس هرر، إذ قتله القائد الصومالي احمد بن ابراهيم الغازي الملقب ب"غران" اي الاعسر، ونصب مكانه شقيقه عمرالدين، لكن الحاكم الفعلي كان احمد غران الذي اُطلق عليه لقب امام عندما حط قفير نحل على رأسه. وبعد ذلك رفض دفع الديه الى الامبراطور الاثيوبي ونجح في فتح الاراضي المرتفعة حول هرر قبل ان يسيطر على معظم اراضي الحبشة. وبعد سلسلة من الفتوحات الناجحة استطاع غران توحيد الممالك الاسلامية المتناحرة آنذاك في منطقة القرن الافريقي كلها تقريبا. قتل الامام احمد غران العام 1543 في منطقة غوندر غرب اثيوبيا خلال معركة تحالف فيها ضده ملك الحبشة قلايدوس مع البرتغاليين. فصار غران احد الابطال المميزين في تاريخ ابناء هرر والصوماليين عموماً. وخلفه الامير نور بن الوزير مجاهد الذي شيد سور مدينة هرر ذا البوابات الخمس. يبلغ ارتفاع سور هرر نحو اربعة امتار وسماكته 90 سنتمتراً وطوله نحو الفي متر، او كما يؤكد ابناء هرر: 6236 ذراعاً،. ويوجد في السور خمسة ابواب تيمناً بأركان الاسلام الخمسة. والابواب هي "باب النصر" و"باب حاكم" و"باب السلام" و"باب الرحمة" و"باب الفتوح". ويوجد 90 مسجداً داخل السور و114 خارجه، ويبلغ مجموع المساجد في المنطقة نحو 770 مسجداً. أما عن علاقة المدينة الوثيقة بالاسلام، فتعود الى ايام الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ اعتنق اهل المنطقة الاسلام قبل هجرته الى المدينةالمنورة بثماني سنوات عندما ارسل 16 من المهاجرين الدعاة الى سلطنة زيلع الصومال التي كانت هرر من اعمالها. وبرزت هرر في القرن الثالث عشر كاقوى مركز اسلامي في شرق افريقيا، في شبه جزيرة الصومال وغيرها. ومرت المدينة في فترات تراجعت فيها الدعوة بسبب كوارث طبيعية كالقحط والجفاف اللذين تسبب بالمجاعة والامراض. وفي هذا الاطار يقول احد اعيان هرر، يوسف آدم مندري، ل"الوسط": "تحولت مدينة هرر اثر وصول احد الدعاة الاوائل اليها وهو الشيخ عبدالرحمن ابادر، الى أول متجر من نوعه في تلك الايام، وربما يوازي اكبر المتاجر المعروفة اليوم باسم "سوبر ماركت". وكانت القبائل الهررية، لدى وصول الشيخ ابادر الى المدينة متناحرة، فيما كانت المجاعة تفتك بالسكان. وكان اول عمل قام به الشيخ دعوته الى عقد مؤتمر كان الاول من نوعه في ذلك الزمان. فجمع القبائل الهررية في نهاية شهر رمضان ووحدهم على أساس الاكتفاء الذاتي، فبنوا مدينة هرر وشيدوا منازلها. وطلب من كل قبيلة ان يجمع تجارها ومزارعوها انتاجهم وحصادهم اليومي ويأتوا به الى داخل المدينة حيث خُصصت امكنة للخضار وأخرى للحبوب والماشية والاخشاب والالبسة وغيرها. وصارت عملية تبادل السلع والاغذية بين التجار والمزارعين تجري يومياً في اسواق هرر التي بدأت بالانتعاش والازدهار. وصارت هرر مكاناً يحرم دخوله على غير المسلمين". تطوير اللغات يتكلم اهل هرر لغة خاصة بهم هي الهررية التي تُصنف من طائفة اللغات السامية الاثيوبية الجنوبية، وتنقسم الى الهررية القديمة والهررية الحديثة، وهي متأثرة بالعربية والتغرينية والامهرية ذات الاصول السامية ايضاً ما اضفى عليها خصائص متميزة. وجذبت الهررية عدداً من المتخصصين بالالسنيات كان ابرزهم الايطالي انريكو سيرولي الذي اجرى دراسة مهمة وشاملة معتمداً نصاً تاريخياً من الهررية القديمة اسمه "كتاب الفرائد"، واظهرت هذه الدراسة جمال اللغة الهررية لغير المتحدثين بها. وقبل العام 1990 كان تطوير اللغات المحلية في اثيوبيا جريمة يعاقب عليها القانون في ظل النظام الماركسي الذي قاده الكولونيل منغيستو هايلي مريام وقبله النظام الاقطاعي في عهد الامبراطور هيلاسيلاسي. لكن هجرة عدد كبير من سكان مدينة هرر، خصوصاً منذ العام 1977، أدت الى فتح فصل جديد في لغتهم التي تطورت مع ظهور مطبوعات جديدة اهمها مطبوعة "شاهان" التي ساهمت في إغناء مفردات اللغة الهررية واعطتها عمقاً. وتعزز ذلك مع سقوط نظام منغيستو ومجىء نظام جديد بقيادة رئيس الوزراء الاثيوبي الحالي ملس زيناوي الذي اعتمد التعددية الحزبية وسمح بإصدار صحف باللغات المحلية. وصارت هرر إقليماً بعدما كانت محافظة تابعة لاقليم هررغي، وساعد ذلك في فتح آفاق جديدة للغة الهررية بدأت في تخصيص برامج إذاعية يومية تُبث باللغة الهررية، ثم ظهرت سلسلة من الكتب والدوريات والمطبوعات علناً للمرة الاولى، مثل "سقطي كتاب" و "مخمخة" و "وريق زمان" و "هرر جي فكر". واستطاعت اللغة الهررية مجدداً مقاومة قمع منهجي، متعمد استمر اكثر من قرن عادت بعده الى النمو والتطور. وفي هذا الاطار عرض مندري، وهو مؤسس منظمة "عصبة هرر" ل"الوسط" التي زارته في منزله وسط المدينة القديمة، مجموعة من المخطوطات قال ان عائلته اخفتها جيلاً بعد جيل خشية إتلافها من قبل الانظمة السابقة. وأضاف: "كانت هناك شعوب وقوميات عدة في اثيوبيا لم تتلفظ بلغتها يوماً ما. ولكن مع مجيء الحكومة الجديدة بدأ كل من القوميات المختلفة يتحدث بلغته من دون خوف. وهذه الحرية لم تكن موجودة في اثيوبيا". ويضيف: "اما عن الادب الهرري، فيشمل في غالبيته بعض الاغاني وقصصاً ونصوصاً من الشريعة. ومن بين المفردات العربية الواضحة في اللغة الهررية تلك المرتبطة بالطعام والزراعة واللباس، اضافة الى الكلمات المستقاة من القرآن الكريم". ومع هذا يبدو ان هذا التراث الهرري، كان السبب الرئيس الذي حدا بالشاعر الفرنسي أرثور رامبو الى العيش في هرر، السبب الرئيس كان بعيداً عن التراث والشعر، بل كان نقيضهما وهو التجارة بالاسلحة. إذ قرر رامبو في العام 1879 وهو في الخامسة والعشرين من عمره السفر الى الشرق، وختم آنذاك آخر اعماله الشعرية "فصل في الجحيم"، ودع فيه فرنسا وكتب عما يمكن ان يخبئه له المستقبل، قائلاً: "يومي انتهى، سأغادر اوروبا. سيلهب هواء البحر رئتي وستحرق المناخات المفقودة بشرتي. سأسبح واطئاً العشب واصطاد، وفوق كل هذا سأدخن. وسأعود برجلين من الحديد، وبشرة برونزية وعينين ثاقبتين. ومن قناعي سيعرف الجميع اني من جنس جبار. وسأحصل على الذهب". وفي رحلته الى الشرق حط رامبو رحاله لفترة في مدينة عدن، لكنه سئم هذه المدينة حيث تعرف الى تاجر فرنسي اسمه بيار باردي يملك شركة "فياني وباردي"، واتفق معه على ان يعمل وكيلاً لشركته في مدينة هرر التي حط رحاله فيها في الثمانينات من القرن التاسع عشر. وكتب يصف المنطقة: "البلد ليس مزعجاً ... ونجد انفسنا احراراً هنا". عمل رامبو تاجراً في هرر حيث كان يشتري البن الهرري والعاج والمسك واللبان والجلود من سكان الداخل، ويبيعهم في المقابل البضائع الاوروبية خصوصاً القماش القطني. وكان رامبو الفرنسي الوحيد في المدينة قبل ان ينضم اليه رب عمله باردي واثنان من المبشرين الفرنسيين هما الاب تورين كاهان والاب جاروسو الذي درس الشاب تفاري مكونن الذي صار لاحقاً الامبراطور هيلاسيلاسي. وداخل مدينة هرر، عبر أي من ابوابها الخمسة، لا يمكن للزائر ان يتوه عن "منزل" رامبو المميز بين المنازل الاخرى. حتى اطفال هرر يوحون امامك بانهم من محبي الشاعر الفرنسي وقراء شعره، وهم يتخيلون ان كل اجنبي يصل الى المدينة إنما هو آت من بلاد رامبو ليزور منزله. يهرولون امامك وخلفك يرددون .. رامبو .. رامبو .. رامبو ويشيرون بأيديهم الى اتجاه الطريق الذي يؤدي الى منزل الشاعر. وتسير في اتجاه المنزل في طرقات ما زالت كما وصفها المستكشف البريطاني ريتشارد بيرتون العام 1854، بقوله: "شوارعها ضيقة وبيوتها متلاصقة مبنية من احجار الغرانيت التصقت بها حجارة رملية بواسطة الصلصال". بعد برهة يطل منزل رامبو من بين الازقة في شارع مرتفع قليلاً عنها، ويقال لك ان الشاعر الفرنسي استأجره من تاجر هندي شيده ليكون طرازه قريباً من المنازل في بلده. لكن طابعه العام يحمل زخرفات هندسية تشبه طابع المدينة الاسلامي، خصوصاً النوافذ وزجاجها الملون الشفاف. امام المنزل فسحة يلهو فيها اطفال، ثم درجات تؤدي الى شرفة عريضة يتوسطها الباب الرئيسي. داخل المنزل بهو كبير تحتل جانبه درجات خشبية تصل الى طابق اول فثانٍ. وكل ما في المنزل مُشيد من خشب، بما في ذلك تقسيم الغرف الكثيرة فيه، وهي غير صالحة للسكن. فالخشب القديم متآكل او مكسور في معظم اجنحة المنزل. لكن هناك مشروع لاعادة ترميمه بتمويل فرنسي - اثيوبي مشترك. اهتم الشاعر الفرنسي خلال اقامته في هرر بصيد الفيلة، واستورد لذلك اسلحة من فرنسا، لكن سرعان ما استهوته فكرة الاتجار بالاسلحة بعدما انفصل عن باردي العام 1885 وصار شريكاً لتاجر فرنسي آخر اسمه لاباتوت. وحاول رامبو بيع اسلحة للملك منيليك مؤسس اثيوبيا الحديثة، وكتب في العام 1886: "سيصلني الاف عدة من البنادق آتية من اوروبا، وسأقود قافلة لنقل هذه الشحنة الى منيليك... الطريق طويل جداً، وسأحتاج الى السير لفترة شهرين على الاقل .. وسنعبر صحارى بشعة، لكن المكان الذي نقصده يتمتع بمناخ جيد، والناس هناك مسيحيون ومضيافون، ونفقات المعيشة زهيدة لا تُذكر". وبعدما وصل رامبو الى عاصمة الملك منيليك في جبل انتوتو الذي تقع على سفحه مدينة اديس ابابا، فوجىء بان منيليك كان اشترى اسلحة من مصدر آخر ولم يكن يرغب في دفع مبالغ كبيرة من الاموال لشراء اسلحة رامبو. وخابت آمال الشاعر - التاجر، وشعر بالاحباط وسرعان ما غادر اثيوبيا الى عدن والقاهرة. وفي العام 1889، عاد رامبو الى هرر بعدما عقد اتفاق شراكة مع تاجر فرنسي آخر اسمه سيزار تيان. وصار منزله مزاراً للاصدقاء ولعدد من التجار الفرنسيين بينهم شينيو الذي ساهم في تمويل خط السكة الحديد الذي يربط اديس ابابا بجيبوتي ويمر في درداوا القريبة من هرر. ومن بين زوار رامبو الرحالة الايطالي روبكي بريكتي والجوالة الهنغاري الكونت تيليكي. وينقل اعيان من هرر التقتهم "الوسط" عن آبائهم ان رامبو تزوج من حبشية استقرت في منزله، لكن الزواج لم يستمر اكثر من ستة اشهر هجرها بعدها. وينقلون ايضاً، ان رامبو صادق من سكان المدينة صبياً هررياً اسمه يامي كان خادمه المخلص ورفيقه الدائم وكان يتحدث عنه باعجاب بقية حياته. وفي العام 1891 اصيب رامبو بمرض اضطره الى مغادرة هرر نهائياً الى باريس حيث بُترت ساقه. لكنه واصل الكتابة الى اصدقائه في هرر وحافظ على علاقاته التجارية فيها. كان رامبو يتحدث دائماً عن العودة الى المدينة التي عاش فيها طويلاً، لكن تدهور وضعه الصحي منعه من تنفيذ رغبته، ومات في العام 1891، وثمة من يؤكد أن اسم الفتى الهرري يامي كان يتردد على شفتيه في الساعات الاخيرة قبل وفاته