تنشر وسائل الاعلام الملحية في الجزائر اخباراً طريفة عن زيارات مباغتة يقوم بها رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة للإدارات العامة والمرافق الرسمية، وترمي هذه الزيارات الى التأكد من حسن سير العمل والدوام، وضبط المخالفين بالجرم المشهود، والاطلاع مباشرة على حقيقة ما يدور في الدولة وأجهزتها. وتنتشر أخبار هذه الزيارات بواسطة الإشاعات بما يفيض كثيراً عن حجمها وتغدو احياناً كمنبّه لضرورة الالتزام بالقوانين والقواعد، اذ من يدري، "ربما يهبط الرئيس في اي لحظة"، على حد تعبير معلق محلي. وما يُثير الانتباه ان السلطات الجزائرية لا تنقل صوراً ووقائع عن زيارات الرئيس المفاجئة، ولا تنفي كما لا تؤكد حصولها، مما يضفي عليها طابعاً ملتبساً، ولعل المقصود بذلك تعزيز هاجس حضور بوتفليقة في مخيلة المواطنين وإحداث صدمة داخلية وبالتالي الايحاء بأن الرئيس الجديد يختلف جذرياً عن غيره من رؤساء الجزائر. واذا كان اسلوب بوتفليقة في التعاطي المباشر مع مواطنيه يشبه اسلوب الرئيس الراحل هواري بومدين، ويلقى استحساناً من الجزائريين، فإن "الصدمة" التي أحدثها الرئيس الجديد في الداخل، قد تكون اقل اهمية من "الصدمة" التي احدثها في علاقات بلاده الخارجية. اذ بالكاد مرت اسابيع على انتخابه وتنصيبه، حتى انقلبت المعطيات الخارجية التي برزت غداة انتخابه. فعلى الصعيد العربي زار الجزائر للتهنئة مسؤولون عرب كبار، وأثار الرئيس الجديد قضية الصحراء في محاولة لتأكيد حضور بلاده في هذه القضية المركزية بعدما غابت عنها بسبب الحرب الاهلية خلال السنوات الماضية. وعلى الصعيد الدولي انقلبت المواقف السلبية والمتحفظة التي رافقت انتخاب بوتفليقة وسادت الواقعية السياسية بعد تسلمه مهامه. ففرنسا التي طالب بعض مسؤوليها بتأجيل الانتخابات الرئاسة وأعلن بعضهم الآخر عن قلقه وانتقد بعضهم الثالث بقوة رئاسيات نيسان ابريل الماضي، انقلبت مواقف السلطات فيها رأساً على عقب. اذ ارسل جاك شيراك رسالة تهنئة حارة لبوتفليقة يوم ادائه القسم الدستوري واعلن ليونيل جوسبان ان تغييراً سياسياً وقع في الجزائر وان باريس مستعدة لاقامة علاقات تعاون ممتازة مع هذا البلد، واتخذت وزارة الخارجية مبادرة ايجابية عندما قررت ان بإمكان الجزائريين ارسال طلباتهم للحصول على تأشيرة دخول الى القنصلية الفرنسية في حيدرة بدلاً من ارسالها الى مدينة نانت الفرنسية او الى العاصمة التونسية علماً بأن توفليقة شكا من هذا الامر خلال حملته الانتخابية. اما بريطانيا التي امتنعت عن التعليق على سير الانتخابات الرئاسية الجزائرية واعتبرت ان هذا الامر شأن داخلي جزائري فإنها رحبت هي الاخرى بالرئيس المنتخب وعبرت عن استعدادها لتعزيز التعاون بين البلدين. وكذا الامر بالنسبة الى الولاياتالمتحدة التي اعربت عن "خيبة املها" تجاه الانتخابات، فإنها عادت وأكدت ضرورة التعاون الثنائي. ولاحظ نائب وزير الاقتصاد الاميركي ان انتخاب بوتفليقة يؤمل منه ان يؤدي الى انفراج في العلاقات المغربية - الجزائرية خصوصاً في مسألة الصحراء الامر الذي حمل الرئيس المنتخب على تصويب تصريحاته حول هذه القضية وبالتالي التأكيد ان الجزائر تؤيد مشروع الاممالمتحدة لحل قضية الصحراء. ويلاحظ هنا ان نظرة اميركا الى منطقة المغرب العربي تتلاقى الى حد كبير مع مشاعر بوتفليقة. فواشنطن ترى ان هذه المنطقة "يجب ألا تكون حكراً على المصالح الاوروبية وحدها". ولعل التنافس الاميركي - الاوروبي في شمال افريقيا من شأنه ان يوسع هامش المناورة امام الرئيس المنتخب. مجموعة الستة هذا الانقلاب السريع في المواقف الخارجية، زوّد بوتفليقة بأوراق داخلية مهمة، فهو لم يعد بنظر الرأي العام الداخلي رئيساً "مختاراً" وبات واثقاً من ان مجموعة المرشحين الستة المنسحبين من الانتخابات الرئاسية احمد طالب الابراهيمي، مولود حمروش، حسين آيت احمد، يوسف الخطيب، عبدالله جاب الله، المقداد سيفي لن تجد من يصغي اليها في الخارج ناهيك عن ان المجموعة نفسها فقدت زمام المبادرة في الداخل، وبات من الصعب عليها تشكيل تيار يستند في تحركه السياسي الى الطعن في شرعية رئيس تنهمر عليه برقيات التأييد والترحيب من كل صوب. لذا عدّلت المجموعة خطة تحركها وأعلنت عن جملة مبادئ عامة تتمحور حول "الحرية" في الحياة العامة الجزائرية. ومن بين الاوراق الداخلية الاخرى التي تتجمع تدريجياً بين يدي بوتفليقة ورقة تتصل بالعسكريين الذين دعموا خصومه في الانتخابات الرئاسية، او الذين تحفظوا عن ترشيحه، فهؤلاء بات عليهم من الآن فصاعداً ان يصوّبوا مواقفهم الامر الذي من شأنه ان يعيد ترتيب ميزان القوى داخل المؤسسة العسكرية لمصلحة الذين صوتوا على ترشيح بوتفليقة. وتعتقد مصادر جزائرية بأن مبادرة الرئيس المنتخب بايكال "التوقيع نيابة عنه في وزارة الدفاع" للجنرال محمد العماري، تنطوي على نية صريحة باطلاق يد الرجل القوي في الجيش، وبالتالي وضع حد للتجاذب الذي شهدته المؤسسة العسكرية في اواخر عهد الرئيس السابق اليمين زروال والذي كاد يتحول الى صراع مكشوف بين وزير الدفاع الرئيس وبين رئيس الاركان القوي، ولا تستبعد هذه المصادر ان تشهد المؤسسة العسكرية جملة من التعيينات والتغييرات في المناطق الكبيرة في الصيف المقبل. واذا كان بوتفليقة يوفر للمؤسسة العسكرية قوة اضافية ولا يستمد كامل قوته منها على غرار الرؤساء السابقين، فإن الانفراج الذي ترافق مع انتخابه لا يمكن ان يتعزز ويصبح وطيداً الا اذا وضع الرئيس الجديد، الملف الامني، على رأس الاولويات في عهده. وتفيد المؤشرات الاولى انه يعتزم فعلاً الانصراف الى معالجة هذا الملف وفق تصور ربما كان قد اتفق عليه مسبقاً مع الجنرالات الذين دعموا ترشيحه للرئاسة. ومن بين المؤشرات على ذلك، الحديث الذي تداولته الاوساط السياسية الجزائرية عن لقاءات ومفاوضات اجراها بوتفليقة مع قادة "الجبهة الاسلامية للانقاذ" المنحلة والتي لم يرشح شيء عنها، علماً ان السلطات لم تكذب هذا الحديث ولم تؤكده، بخلاف ما كان يحصل من قبل. والمؤشر الثاني يتصل بمهرجان نظمته مجموعة "نداء السلم" بمشاركة زعيمين بارزين في "الانقاذ" هما عبدالقارد حشاني الذي قاد الجبهة الى الفوز في انتخابات العام 1991 النيابية وعلي جدي فضلاً عن المحامي علي يحيى عبدالنور والدكتور عبدالعزيز المهري احد موقّعي وثيقة سانت ايجيديد وعبدالعزيز بلخادم وآخرين. وقد طالب منظمو المهرجان بالمصالحة الوطنية واعادة دمج "الانقاذ" في الحياة السياسية الجزائرية. ومن بين المؤشرات ايضاً ما صرّح به بوتفليقة نفسه عن المصالحة خلال اللقاء العام الاول مع الطلاب الجزائريين 19 أيار/ مايو حيث قال ان اولوية الاولويات بالنسبة اليه هي "المصالحة الوطنية". غير ان نظرة بوتفليقة للمصالحة تختلف عن نظرة "الانقاذ" فهو يشترط ان يوافق الاسلاميون على "الدستور" ونبذ العنف واحترام "قوانين الجمهورية" ويستبعد المصالحة مع "اولئك الذين لوّثت الدماء ايديهم" في حين ترى "الانقاذ" ان المصالح تبدأ باطلاق سجنائها ورفع حالة الطوارئ... الخ. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، يرى المراقبون، ان اساس المصالحة يستمد من الاتفاق الذي تم بين الرجل الثاني في المخابرات الجنرال اسماعيل العماري و "جيش الانقاذ الاسلامي" ويرجح ان يتدخل العماري في هذا الملف وان يمهّد للحوار والمصالحة باطلاق زعيم "الانقاذ" عباسي مدني وتسهيل شروط اعتقال الرجل الثاني فيها علي بلحاج، ولن يكون لدى الرئيس الجديد مخاوف من الدول الاجنبية المتعاطفة مع الاسلاميين طالما ان السودان يسعى لانتهاج سياسة تقارب مع الولاياتالمتحدة، بينما ايران تعيد النظر، مع خاتمي، بمجمل سياساتها الخارجية، ناهيك عن التراجع الذي يشهده المد الاصولي في كل مكان. واذا تمت المصالحة مع "الانقاذيين" فإن التيار الاسلامي المسلح يفقد التغطية السياسية وتصبح اعمال العنف ظاهرة امنية بحتة. حكومة جديدة الراهن ان فتح ملف المصالحة من شأنه ان يثير حفيظة الاستئصاليين والتيار العلماني الفرانكوفوني، لذا تتردد اشاعات قوية عن احتمال اشراك هذا التيار في الحكومة الجزائرية المقبلة، على ان تكون مشاركته كبيرة ثمة حديث عن تعيين رئيس وزراء مقرّب من هذا التيار ولربما تفتح هذه المشاركة باب المصالحة من طرفين اصولي واستئصالي. هكذا تبدو التطورات السياسية التي اعقبت انتخابات بوتفليقة وكأنها تتركز على استيعاب الآثار الناجمة عن هذا الحديث وتأطيرها في وجهة تقود الى اعادة رسم الخريطة السياسية والعسكرية في البلاد باتجاهين كبيرين: الاول يتصل بإعادة ترتيب مراكز القرار في الجيش بما يخدم الكتلة العسكرية التي انتصرت لبوتفليقة والثاني يقضي بحل مشكلة الجبهة الاسلامية للانقاذ المنحلة، واعادة دمجها في الحياة السياسية الجزائرية في اطار مصالحة عامة تحيل الجماعات المسلحة الى طرف هامشي يطرح وجوده مشكلة امنية محضة وغير سياسية. في ضوء ذلك سيعمد الرئيس الجديد الى تشكيل حكومته الاولى بعد القمة الافريقية 12 - 20 تموز/ يوليو المقبل وهي حكومة ستضم شخصية بارزة تتولى حقيبة وزارة الخارجية، وتكون على مستوى الآمال التي يعلّقها الرئيس الجديد على اعادة بلاده الى المسرح الدولي. ويؤكد مصدر جزائري مطلع ان اسماء بارزة تطرح لتولي هذه الحقيبة من بينها جمال رمضان سفير الجزائر في واشنطن ومحمد بجاوي محكمة العدل الدولية وادريس الجزائري حفيد الأمير عبدالقادر الجزائري، اما رئيس الوزراء فيرجح ان يكون من "جبهة التحرير الوطني" التي لم يتخل عنها الرئيس حتى في الظروف الصعبة التي مرت بها، ومن المتوقع ان يكافئ الذين أيّدوه حماس والنهضة والتجمع الوطني الديموقراطي بممثلين في الحكومة، غير ان الحصص الكبيرة التي يطالب بها هؤلاء قد تحمل الرئيس على حل البرلمان واجراء انتخابات نيابية مبكرة تتيح له الحصول على غالبية خاصة به وبالتالي الحؤول دون وقوعه أسير الغالبية البرلمانية الراهنة.