الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    سياسات أقطاب «النظام العالمي» تجاه المنطقة.. !    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    انطلاق أولى سباقات ميدان فروسية الجبيل للموسم الحالي    إعلان برنامج انتخابات الاتحادات الرياضية    ألوان الأرصفة ودلالاتها    الارتقاء بالتعاون السعودي - الفرنسي في العُلا لمستويات أعلى    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    ختام مزاد الصقور السعودي    الإعلان عن أسماء الفنانين العالميين في «نور الرياض» ومشاركة «18» سعوديًا    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    زيلينسكي يفضل الحلول الدبلوماسية.. ومجموعة السبع تهاجم روسيا    أسعار اليوريا العالمية تتباين في أعقاب الركود وتأمين المخزون في أميركا والهند    إحباط تهريب (32200) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي في جازان    «إنسان».. خمس جوائز وتأهل للعالمية    المملكة تقدم مساعدات إنسانية وإغاثية ب133 مليار دولار ل170 دولة    تحقيق يكشف الدهاء الروسي في أوكرانيا    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ضبط 20124 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل    التواصل الحضاري ينظم ملتقى التسامح السنوي    "ديوان المظالم" يقيم ورشة عمل لبوابة الجهات الحكومية    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    إمام المسجد النبوي: استبصار أسباب الفلاح يؤدي إلى السعادة    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    اتحاد القدم يحصل على العضوية الذهبية في ميثاق الاتحاد الآسيوي لكرة القدم للواعدين    الاخضر يدشن تدريباته في جاكرتا لمواجهة اندونيسيا    تدريبات النصر: بيولي يستدعي 12 لاعبًا شابًا    74 تشكيليا يؤصلون تراث وحضارة النخلة    توقيع مذكّرة تفاهم بين السعودية وتونس لتشجيع الاستثمار المباشر    المملكة تتسلم رسمياً استضافة منتدى الأمم المتحدة العالمي للبيانات 2026 في الرياض    ضبط يمني في الدمام سكب الأسيد على آخر وطعنه حتى الموت    الزفير يكشف سرطان الرئة    تطوير الطباعة ثلاثية الأبعاد لعلاج القلب    القهوة سريعة الذوبان تهدد بالسرطان    مسلح بسكين يحتجز عمالاً داخل مطعم في باريس    قوافل إغاثية سعودية جديدة تصل غزة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    الأحساء وجهة سياحية ب5 مواقع مميزة    «هلال نجران» ينفذ فرضية الإصابات الخطيرة    خطأ في قائمة بولندا يحرم شفيدرسكي من المشاركة أمام البرتغال بدوري الأمم    حسن آل الشيخ يعطّر «قيصرية الكتاب» بإنجازاته الوطنيّة    المواصفات السعودية تنظم غدا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    تطبيق الدوام الشتوي للمدارس في المناطق بدءا من الغد    "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    «سلمان للإغاثة» يوزّع 175 ألف ربطة خبز في شمال لبنان خلال أسبوع    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربع قرن من الغناء وتعتبر نفسها "امتداداً للمدرسة اللبنانية" . ماجدة الرومي : أنا امرأة تعيش على حدود جسدها علمتها الحرب أن تحب الحياة
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 1999

إطلالتها الفنية الأولى كانت عبر التلفزيون اللبناني، من خلال برنامج "ستديو الفن" الشهير الذي أطلق طاقات ومواهب عدّة. كان ذلك العام 1974، ومن يومها لم تغب ماجدة الرومي عن ساحة الغناء. فهذه المطربة الاستثنائية، يعود عهدها بالغناء والموسيقى والابداع إلى طفولتها البعيدة، إذ درجت على الفنّ في كنف والدها الموسيقي الكبير حليم الرومي، وتلقنت على يده أصول الطرب الأصيل. واليوم، بعد أن وجدت ماجدة لصوتها شخصية تؤاتيه، وتجاوزت شهرتها حدود بلادها إلى العالم العربي الواسع، ما زالت كما هي: قلبها على الأصالة وعينها على المستقبل. أما أغلى أحلامها، فهو أن تصبح رمزاً من رموز لبنان، واحدى مناراته الحضارية.
ماجدة الرومي بين أبرز الأسماء التي طبعت الأغنية اللبنانية والعربية بشخصيتها، خلال الربع الأخير من القرن العشرين. وهي تحتفل هذه السنة باليوبيل الفضي لمسيرتها الغنائية التي بدأت مع اطلالتها في "ستديو الفن" أواسط السبعينات، وسارت في خط تصاعدي الى ان بلغت الذروة، وتربعت على القمة. وما زالت مشدودة الى أعلى، عيناها شاخصتان إلى المستحيل، شغفها بالجمال لا يعرف حدوداً، ولا تزال تعد بعطاء لا يعرف حدوداً.
لم تفطن، حين قابلتها "الوسط"، الى ذكرى اليوبيل، ربما لأن المجد الذي قطفته على مسارح العالم، أرقاها وأوسعها، يجعلنا نعتبر أن كل إطلالة لها يوبيل في ذاته. فوجئت بالمناسبة، وكأننا بها استعادت، في تلك اللحظة، شريط ذكريات، مذ أطلت مع والدها الفنان حليم الرومي، من خلال "تلفزيون لبنان" في برنامج لنجيب حنكش. كان ذلك مطلع السبعينات، ولما تبلغ الثانية عشرة، لمكنّها تحدثت بثقة، وغنت لفيروز "شايف البحر شو كبير"، فانطبع حضورها في أذهان الناس... وما زالت حاضرة الى الآن .
ماجدة الرومي، في هذا الحديث، تكشف جوانب في شخصيتها، ربما للمرة الأولى. تحكي عن صوتها، "صديقها القديم"، هذا الخيط الذي يربط الماضي بالمستقبل، ويتلمّس طريق الحقيقة. تنصح السائرين على درب الغناء بما نصحها به والدها. تصف نفسها بالمحارة المتحركة بين الشاطئ وعمق البحر. وتحكي عن نضالها لوقف "محاولات تغيير وجه لبنان"، ولمحو الندوب التي تركتها الحرب في وجدان الناس..
ليس من السهل أن يجتاز الفنّان مسيرة عمرها ربع قرن...
- كثيرة هي المحطات التي تسعدني في تلك المسيرة، منذ الإنطلاقة في برنامج "ستديو الفن" 1974. أتذكّر اليوم تجربة العمل في فيلم "عودة الإبن الضال" 1977، مشاركتي في مهرجان جرش 1986 الذي أعتبره نقطة تحول. وثمة ما يحزنني في تلك المسيرة، خصوصاً تلك الحرب الطويلة التي عبرت، وأكلت من عمرنا سنوات ثمينة. إنطلقت الحرب بعد سنة من بدايتي الفنية، وتعثرت مسيرتي طويلاً فلم أقدم في البداية إلا القليل. لكنني لم أخضع للظروف التي أملتها علينا الحرب. كنت على ثقة بأن لدي ما أقدمه، فرحت أنتظر فرصة أنطلق منها الى كل العالم العربي، وأفلت من السجن الذي حصرتنا فيه الحرب. وجاءت مشاركتي في مهرجان جرش، تعويضاً كبيراً لكل ما أضعته خلال الحرب إذ فُتحت لي الأبواب على مصاريعها، ودخلت إلى كل بيت .
لكنّك جئت إلى جرش برصيد لا يمكن انكاره...
- نعم، فعلى رغم قلّة أعمالي آنذاك، كان بعض أغنياتي حقق نجاحاً واسعاً، مثل "خدني حبيبي" و"عم يسألوني" و"مطرحك بقلبي".
قلت إن الحرب أخّرت انطلاقتك، لكن الحروب تفجر طاقات الفنان عادةً. فهل ساهمت الحرب في إنضاج تجربتك؟
- طبعاً أنا مدينة بالكثير لهذه التجربة المؤلمة، على المستوى الشخصي، فقد أغنت مشاعري ودفعتني إلى النضج، كما أعطت لرؤيتي الابداعيّة مزيداً من الجذريّة. فالإنسان عندما يلمس الموت من قرب، تصبح قيمة الحياة كبيرة لديه، ويفهم معنى الألم، ويصير الفرح من مرتكزات حياته. لذا أعتبر أنني سجلت انتصاراً على الحرب. لكن الأمر يختلف على مستوى الأوضاع والظروف المحيطة بنا. الامكانات المادية لم تكن تسمح لي مثلاً بانطلاقة مسرحية كبيرة، فاكتفيت بما توافر، ضمن توجهي الذي رسمته من الأساس، وهو أن أغني على مسرح وأن يرتدي العمل شخصيتي الفنية لا شخصية الآخرين. ولو لم أعِ هذه النقطة منذ البدء، لأخذت مسيرتي اتجاهاً آخر.
كنت تدركين الى أين ستصلين منذ البداية؟
- حتّى الآن لا أعرف الى أين سأصل. أُمنيتي أن أذهب أبعد ما يمكن في تحقيق الحلم الذي يسكن خيالي وقرارة نفسي.
أي حلم؟
- أن أكون رمزاً من رموز لبنان. ولتحقيق هذه الغاية، عليّ أن أعمل على نفسي أكثر فأكثر. وضعت منذ البداية غاية لنفسي هي أن أوحي للناس بالثقة، وأن أقدم أصدق ما عندي، وألتزم الجدية وأقوم بكل ما يساعدني في المحافظة على زخمي الجسدي والصوتي وحتى النفسي، كي أتمكّن من الاستمرار. حرصت على أن تكون الصورة التي تحيط بصوتي واضحة ليراها الناس. أحبّ دائماً أن تكون صورتي واضحة، وأن يكون صوتي شفافاً إلى حدّ التعبير عن نفسيّتي وشخصيّتي. وبهذا المعنى كنت مدركة ماذا سأفعل، ولكن لم أقرر سلفاً أنني سأصل الى مكان معين. فكل مرة كنت أعتبر أن ما بلغته هو الأفضل، وأسأل نفسي ماذا يمكن أن تكون المرحلة التالية؟ ولا بد من الاشارة إلى أن "اللاوصول" أمر طبيعي بالنسبة إلى أي فنانة أو فنان، لأن الحياة ليس فيها نقطة نهاية. ولا أظنّ أنني قد أضع نقطة نهائية. كل ما في الأمر أنني سأصل الى مكان، فينطلق منه غيري ليكمل الرحلة...
هل أكملت أنت مسيرة فنان سبقك؟
- أنا أعتبر نفسي امتداداً للمدرسة اللبنانية التي تمثّلها فيروز والمؤسسة الرحبانية، ويمثّلها زكي ناصيف وحليم الرومي ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وغيرهم. فنحن استمرار للمدرسة التي كانت قبلنا، وأوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم. وأتمنى أن تشكّل تجربتي مشروعاً فنياً يأتي من يكمله بعدي.
يقال إن الشاعر الذي لا "يفرخ على كعبه" شاعر آخر، ليس عظيماً.
- طبعاً. فالحياة بالنسبة إليّ مشروع بنيان عظيم، مرتكز أساساً الى نقطة جوهرية، اسمها الحقيقة. ونحن أفلاك تدور حول هذه الحقيقة، وكلّ منّا يحمل خيطه. ثمة خيوط لا تصل الى مكان، ولا تربط شيئاً بشيء. وأمنيتي أن أكون خيطاً من الخيوط التي تربط الماضي بالمستقبل، وتتلمّس طريق الحقيقة.
هل هذه صورتك المنطبعة في أذهان الناس؟
- كل شخص يملك عنّي صورة تخصّه. فعندما تكون الصورة في أذهان الناس، تصبح ملك الناس كلهم.
ماذا عن الهالة الطوباوية التي تحيط بك في وسائل الاعلام؟
- أسأل كثيراً اذا كانت هذه الصورة حقيقية أو مزيفة، وأجيب بأني أتمنى أن تكون حقيقية. هذا أصدق ما عندي، لكنني لا أعرف هل هو أصدق ما يمكن. ولا أدعي الطوباوية، في أي حال من الأحوال. أنا أمرأة تعيش على حدود جسدها، على مشارف بدايات أخرى. أحيا بين كتب المتصوفين وأحب هذا الجو، وأنتمي إليه بكل جوارحي.
هناك خيط واحد يجمع بين الملحنين والشعراء والمسرحيين والكتّاب والمخرجين الكثر الذين تعاونت معهم طوال مسيرتك. هذا الخيط هو أنت. هل تتصورين أنك الأساس، ومن حولك يكملون مشروعك الفني؟
- أنا الأساس، والآخرون ساعدوني في تطوير نفسي. ولم أتردد في أن أتبع أي انسان شعرت، في لحظة من اللحظات، أن لديه ما يضيفه إلى عالمي الفنّي.
ألا تعتبرين ذلك تنازلاً منك؟
- كلا. نادراً ما ألتزم آراء الآخرين، خصوصاً تلك التي تعتبر أن هذه الطريق أفضل من تلك أو العكس. هل تتخيل لوحة يرسمها ألف شخص؟ يجب أن يكون ثمة مصفاة : روح حساسة، ونظرة معيّنة إلى الوجود. لذا استهديت دائماً بمشاعري وطبيعتي الدفينة: تعاملت مع الحب كما أراه، وكذلك الألم والأمل والوطن... لكنّني إلتقيت أشخاصاً أقنعتني آراؤهم، وكان التعامل معهم إضافة الى مسيرتي، وتعلمت منهم بملء ارادتي. وعندما أتصرف بعدئذ، فمن تلقائية روحي الحاملة بصمتي وإسمي، وإلا أكون شبيهة بمئة ألف فنان غيري. دائماً أريد أن أكون، ولو تلة، تعلو قليلاً عن الأرض، أن أكون أنا من خلال بصمة خاصة... على أن أتشارك مع ذوي الطاقات والمواهب، شعراء وملحنين، في ما يتطابق ومشاعري.
والدك حليم الرومي، أسهم في النهضة الغنائية العربيّة. كم أثر فيك قبل أن تصبحي نجمة؟ وماذا أعطاك منذ انطلاقتك الفنية وحتى وفاته، علماً أنه كان زمناً قصيراً نسبياً؟
- حليم الرومي مدرسة كبيرة رافقتني منذ ولدت. حضّرني والدي لما سأكون عليه لاحقاً من دون أن يقصد ذلك، ومن دون أن أحس بأنني أتعلم. في بيتنا لم نكن نسمع إلا أصواتاً مختارة، والآراء الفنية التي كانت تطرح فيه مدرسة في حد ذاتها. أسلوبه في العمل كان مدرسة. فتشربت كل ذلك، ما شكل لي قاعدة ثابتة ومتينة لأنطلق منها فنياً في الحياة.
ما كانت نصائحه وملاحظاته لك، حين اشتهرت، كي تتجنبي ما وقع فيه هو أو الكبار الذين عايشهم؟
- علّمني والدي ألا أقف في الصفّ خلف أحد. ولعلّها أهم نصيحة تلقيتها منه، وأسديها بدوري للعاملين في مجال الفن. وأرى أنني عملت بها، الى حد بعيد. جميع الملحنين والشعراء والمبدعين الذين تعاملت معهم، حاولت "أن أجعلهم أنا". لم آخذ منهم إلا ما يتوافق ومشاعري، حتى لو فرق الأمر على سطر أو جملة موسيقية. سعيت دائماً الى تقديم أعمال صادقة، تخوّلني حين أقف على المسرح أن أتفاعل مع الناس. وأتمنى أن تحقق أعمالي العالمية، كما حدث مع الفيلارمونيك أوركسترا في القاهرة، بقيادة الدكتور مصطفى ناجي. وأنا أعتز كثيراً بهذه التجربة المتكررة.
تقصدين بالعالمية ألا يكون العمل محصوراً بطابع لبناني أو شرقي، خصوصاً أن أغنياتك بأبعادها التأليفية تستطيع أن تعزفها فرقة سمفونية، وهذا ما سمعتُه من الدكتور ناجي...
- نعم، هذا ما أثبته الواقع. أنا لم أخترع شيئاً، إنما اتبعت طبيعة الصوت. صوتي يقع بين الشرقي والغربي، وقد حتم علي أن أفتش له عن شخصية تؤاتيه، فلا أزرعه في تربة لا تناسبه.
أوّل اطلالة لك على الجمهور اشتهرت بأغاني طرب لأسمهان وليلى مراد...
- صحيح. واستمر هذا الخط الطربي في أغان من مثل "سمراء النيل" و"كل يغني على ليلاه" و"يا مكحل رمشك". فكما قلت صوتي خليط من جوين. وهذا ما سمح لاحقاً بأن أقدم أعمالاً مع أوركسترا القاهرة.
أين أنت من "الموضة" الغنائية الدارجة؟
- أنا محارة متحركة بين الشاطئ وعمق البحر. أترك مجالاً لأن يأتي البحر إليّ، فتعليني أمواجه لأستشرف آفاقاً جديدة، وأفسح له في المجال كي يأخذني الى عمقه. لا أريد أن أكون حبيسة الماضي، ولا أن أستبق عصري بمئتي سنة، فهذه وظيفة آخرين. أحس أن قلبي على الأصالة، وعيني على المستقبل.
لكن لك خطاً معيناً لم يتغير...
- لم تفقدني الحركة شخصيتي، لأن نيتي أساساً أن أكون متحركة. صحيح أنني أنطلق ضمن منطقة الصوت نفسها، آخذة في الإعتبار كل سماته، لكنني أعطي هذا الصوت، ضمن إمكاناته، ما يستطيع أن يلبسه ويستوعبه ويتفاعل معي. عندما غنيت "القلب المفتوح" و"سيدي الرئيس" و"طوق الياسمين" و"كلمات"... كنت واعية أن مواضيعها لا تدور في فلك الماضي. أحس فيها أنني منطلقة من نفسي، ومنفتحة على كل الإمكانات، لأعود الى ذاتي.
ما ردك على الذين يعتبرون أن صوتك، عندما تطلقينه نحو الطبقات العالية، لا يؤدي الرسالة التي تريدين ايصالها؟
- هذه مسألة ذوق. وأنا أتفهم هذه النقطة. ولكن أشك في أن يكون صوتي في أي من أغنياتي وصل الى حِدَّة غير مقبولة. فصوت بهذه المواصفات، يلعب في القرار والجواب والوسط، ومساحته ثلاثة "أوكتافات". لا يمكنني أن أحتمل سجنه في دائرة ضيّقة تحددها نوطات قليلة، فيصير مثل أي صوت. وأنا لا أقصد أن يؤدي دائماً النوطات العالية، لأنه يتجاوب مع عملية التلحين، فأنا أطلب من الملحن دائماً أن يعطي من قلبه للقصيدة التي بين يديه، فإذا وجد أن صوتي قادر على استجابة كل المسافات، لا يمكنني منعه، ولا يمكن إلغاء هذه الطاقة من صوتي، خصوصاً إذا لم تكن تؤذي الأذن. وهناك في المقابل من لا يحب في صوتي الطبقات الخفيضة. وثمة من يحبّ سماعي وأنا أؤدي الصوت المقلوب، صوت الرأس، الأوبرالي.
وهذا ما يميزك ربما...
- لا أريد الكلام على تقسيمات مساحة صوتي. فمواصفاته موجودة في خدمة الملحن عندما يعمل. والمهم أن تصل الأغنية بتلقائية، من دون أن نقصد الحد من قدرة الصوت. والمسألة ليست مسألة "عرض عضلات"، بل خدمة اللحن من خلال إمكانات الصوت. ولمَ تريدني أن أخسر هبة إلهية؟
أتحبين صوتك؟
- أجل أحبه. صديقي القديم هو.
أتسمعينه؟
- حسب وضعي النفسي وظروف نهاري. فإذا كنت منصرفة الى التمارين الصوتية، ساعات عدّة في النهار، لا يمكنني ربما أن أسمعه في سهرة غنائية، في اليوم نفسه.
ألا تسمعين أغانيك؟
- قليلاً ما أقصد ذلك. فأنا أعمل يومياً على صوتي، وأحب أن أخرج من جوه، فألجأ، في أوقات الفراغ، الى سماع موسيقى متنوعة، لأستطيع العودة اليها. ليس صوتي "سيرة" من أول العمر الى آخره.
ألا تصغين، كمستمعة، إلى أغنية لك جرت على الألسن؟
- بلى، يحدث ذلك أحياناً. وقد استمتعت، بهذا المعنى، بأغان كثيرة كان لها الصدى الحسن لدى الناس.
عندما تختارين قصيدة ما، هل تحاولين إرضاء ذاتك؟ أم الجمهور؟ أم تأدية رسالة؟
- الثلاثة معاً. لكنني أبدأ المعادلة بذاتي. فإذا هزني العمل أعتبر أنه يفترض به أن يهز غيري. وإذا هز غيري، وكنت أساساً أحمله رسالة، أكون على الخط الصحيح. فأين أهميتك إذا كنت حاملاً رسالة ولا تستطيع إيصالها إلا الى أقرب الناس إليك فقط؟ الأهمية أن توصل الرسالة الى كل الناس.
سؤال تقليدي ربّما: كيف تستطيعين التوفيق بين مسيرة فنية تتطلب التزاماً يومياً شاقاً، وحياتك العائليّة؟
- نظّمت وقتي. أتمرن حين تكون ابنتاي هلا ونور في المدرسة، وأتوقف عن التمرين الثانية بعد الظهر، فأنصرف الى تدريسهما أو الإهتمام بفروضهما ونشاطاتهما، حتى أن نور ستة أعوام لا تنام إلا إذا قرأت لها، وصلينا معاً. وبعد السابعة والنصف أعود الى اهتماماتي الخاصة مع زوجي، سهراً أو التزامات فنية أو اجتماعية. وجميع من حولي يعرف أن الجزء الأوّل من النهار خاص بي، لا أحد يطرق باب الغرفة حيث أتمرن. أما بعد الظهر فالوقت للأولاد، ولا كلام في الفن. ولو لم أكن أحب صوتي كثيراً، وأُريد أن أحقق ذاتي من خلاله الحلم الكبير، وأحب عائلتي وأود أن أكون ناجحة في بيتي، لكانت ثمة صعوبة كبيرة في التوفيق، وفي العودة إلى ذاتي كلّ مرّة...
خلال ربع قرن من العمل الفنّي، تعرّضت لصعوبات كثيرة، وطاولتك اشاعات لا تحصى. هل فكرت يوماً في اعتزال الغناء؟
- قبل أن أحقق انتصاري على مصاعب المهنة، نزلت الى عمق أعماق المرارة، حتى لم تبق خلية فيَّ لم تحترق. تعرضت لمتاعب كثيرة، خصوصاً في البدايات، وكنت أستنفر وأفكر في الرد على مطلقي الإشاعات أو مسببي المشكلات، وأبكي وأُقهر... ولم أتجاوز هذه المحنة إلا العام 1992، بفضل صديق كبير وقف دائماً الى جانبي ليجنّبني التصرّف الخاطئ، إنّه زوجي أنطوان. لقد ساعدني في تخطي هذه الصعوبات، وعلّمني أن أتجاوزها، وقد تطلّب الأمر سنوات. قبله، كنت أعيش ضمن اللعبة، وأفتقد الإطراء إذا لم يأت، وأثور على الكلمة البشعة والنقد الجارح الهدام. تألمت كثيراً حتى وصلت الى الإقتناع الآتي: إذا قوبلت بالكلمة الحلوة فالأمر يسعدني لأنني أحب الناس والناس يحبونني. وإذا لم أقابل بها، فسأواصل الطريق على رغم كل شيء. أما النقد بقصد إنهائي أو تحطيمي فصرت أعتبر وجوده في الحياة طبيعياً، لأن الحياة فيها الحلو وفيها المر، وأنا أتعامل مع النقد ضمن لعبة النجاح التي أعيشها منذ سنوات طويلة.
هناك إشاعات كثيرة تطاول فنانين لبنانيين. لماذا؟
- ثمة محاولة لتغيير هوية لبنان، فلا تستغرب إذا كان ضمن المطلوب لذلك، تغيير وجهه الفني. هناك من يريد أن يحول دون استرداد لبنان المكانةالتي كانت له قبل الحرب. وهدف الحرب الأساس في رأيي، تهشيم هذا الوجه. لأن القائمين بذلك يدركون تماماً أن الثقافة والفنون أخطر سلاح بيد شعب من الشعوب. هناك من يحاول أن يحصر لبنان في كليشيهات سياحيّة واستهلاكيّة رخيصة، بعيداً عن روحه ورسالته الحضاريّة، ودوره النهضوي في المنطقة. لكن هناك أيضاً من يسعى إلى اعادة الاعتبار إلى لبنان كمنارة للثقافة والفن. أنا أرفض أن يكون وطني مجرد ملهى للعالم العربي. لبنان أرض قداسة. وطبيعة الشعب، لا يمكن أن تتغيّر. يمكنهم حبسنا في قمقم بعض الوقت، لكن المستقبل لنا في نهاية المطاف.
هل لك اهتمامات في القراءة غير الشعر؟
- أنا محاصرة بكتب المتصوفين. وقد يبقى كتاب واحد منها معي سنوات قبل أن أرتوي منه، لأن ثمة ما يتخطى إدراكي. أقرأ للقديسة تيريزا دي أفيلا وجلال الدين الرومي، مع انّه ليس قريبي تضحك، والحلاج وابن عربي. كتبهم أعيش معها وأتعمق فيها فتصبح مصدر لذة، وحافزاً للبحث عن آفاق بعيدة. أسرق الوقت لأقرأ، منذ صغري أهتم بهذه الكتب، متأثرة بأمي وعمتي.
إلى أي نوع موسيقى تستمعين؟
- أحب الموسيقى المجردة عموماً. وأحب شارل أزنافور وآماليا رودريغز وفيروز وعبدالحليم حافظ وغيرهم من الكبار. وأحب طبعاً أسمهان الاستثنائية، فعلاقتنا الروحية حميمة لأن أول آه أطلقتها كانت عبر "يا طيور". وما زال الإبهار الأول الذي جذبني إليها، على حاله مع مرور السنوات. والسر أن صوتها يختصر مليون صوت. أميرة تغني، بكل معنى الكلمة. وأسمع أيضاً الموسيقى الكلاسيكية، خصوصاً شوبان الذي توازي مكانته لدي في هذا المجال، مكانة أسمهان في الموسيقى العربية. وأحس بروعة موسيقاه، الى درجة أنني أميزها بين كم كبير من المقطوعات الكلاسيكية. وكذلك أحب رخمانينوف، وأستمع أيضاً الى الموسيقى التركية، وتحديداً تسابيح وأناشيد "الدراويش".
تلك الأناشيد امتداد لعلاقتك بالمتصوّفة...
- أكيد. أنا مسكونة بهذا العالم.
لماذا لا تغنين قصائد المتصوّفة؟
- أعتبر التصوف غذاء روحياً لصوتي الذي لا أعتقد أنه بعيد كثيراً عن تلك المناخات الروحانيّة. إذا غنيت مختارات من شعر المتصوفين، قد لا يكون بالنسبة إليّ ذلك أهم من أن أغني "بيروت ست الدنيا" أو "سيدي الرئيس" أو غيرهما، لكنّني سأعتبره صلاة أو رسالة، مقطوفة من مكان آخر، في دعوتها الى الخير والسلام.
ما الجديد الذي ستطلين به على الناس؟ وأين ستغنين قريباً؟
- أحضر لشريط جديد. وسأحيي حفلات في دول عربية عدة، وآمل بتصوير أغنية "فيديو كليب" من الشريط الأخير "أحبك وبعد"، غير "سيدي الرئيس" للمخرج رالف دفوني، لأن المشكلة في هذا النوع أنني أصور أغاني بطريقة سينمائية، وهي مكلفة جداً. وآمل بتصوير "طوق الياسمين" مع المخرج السويدي ستان وولغرين.
هل تعتقدين أن كليب "سيدي الرئيس" خدم الأغنية؟
- طبعاً. وعرف رالف كيف يجسد الفكرة التي طرحتها القصيدة، فصوّر واقع الحال في لبنان والعالم العربي بتوترهما، بالقلق الذي لدى الشعب، بالخوف الذي يعتريه. لبنان صورة عن العالم العربي وإن اختلفت الأزمات ودرجة تأججها. وأنا أرى أن العالم العربي كله مهدد، ويجب أن نطرح على أنفسنا السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ وأتمنى أن نعمل، كل في مجاله، على قلب صفحة البشاعة المفتوحة.
ماذا تحضرين لربع القرن المقبل؟
- هل سأعيش خمسة وعشرين عاماً؟ من يدري؟ وكيف ستكون حياتي؟ لا أعرف. لكنني مدركة تماماً أنني سأستخدم أفضل ما يتوافر لي، خدمة لصوتي ولمشروعي. ويجب أن نعرف أن المادة تتحكم بحجم الحلم.
أنت مستمرّة إذاً...
- ثمة لذة في التأمل بوجوه مع يعملون معي، شعراء على القصيدة، ملحنين على الألحان، عازفين خلال التمارين أو على المسرح، وكلهم استمتاع بما يعملون. أشعر أن صوتي يعبّر عن كل مشاعرهم. وهذا الشعور وحده كاف كي أشعر بقوّة وتصميم، وكي أجد الطاقة الكافية للتطوّر والاستمرار ورفع التحدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.