هل كان جيل جاكوب، المفوض العام لمهرجان "كان" السينمائي، جاداً كل الجدية، حين اكد ان من مزايا مهرجانه لهذا العام تركيز الافلام على العلاقات العائلية، واتسامها بأقل قدر من العنف مقارنة مع افلام الدورات السابقة؟ تبدو غرابة الامر، ليس من وجود او عدم وجود العنف في الافلام - فهنا يبدو جاكوب اكثر علماً، لانه شاهد، كما يقتضي الامر، افلام الدورة كلها قبل ان يشاهدها أي شخص آخر - ولكن انطلاقاً من وجود المخرج دايفيد كروننبرغ على رأس لجنة التحكيم، فالحال ان كروننبرغ يتميز، هو، بكونه واحداً من كبار صانعي افلام العنف - الجسدي والذهني - في سينما اليوم. وحسبنا ان نشاهد فيلمه الجديد المعروض حالياً "اكزيستانز" للتيقن من هذا. من هنا اذا كان صحيحاً ما يقوله جاكوب عن افلام مهرجانه، لا شك ان كروننبرغ سيجد نفسه ذات لحظة وهو يتثاءب متسائلاً: ما الذي أتيت لأفعله هنا حقاً؟ ولكن من المؤكد ان المخرج الكندي الذي سبق ان قدّم "الذبابة" و"الحفل العاري" سيكون الوحيد الذي سيطرح على نفسه مثل هذا السؤال خلال المهرجان. فالالوف الذين يرتادون صالات السينما في كان، والفنادق والمقاهي والمطاعم والشواطئ والارصفة للمرة الثانية والخمسين، اعتباراً من يوم بعد غد، الاربعاء، يعرفون تماماً ما الذي جاؤوا يفعلون: جاؤوا ليعيشوا اياماً سينمائية حافلة، ليروا افلاماً، ليقتربوا من النجوم، ليسيروا على هدى وعلى غير هدى. جاؤوا ليعيشوا السينما من داخلها، في لعبة تتأرجح بين ما يشبه الواقع وما يشبه الحلم، تماماً مثلما هو حال ابطال فيلم دايفيد كروننبرغ الاخير. ازاء هذا كله، قلائل هم النقاد واهل المهنة الذين يهمهم حقاً ما قاله جيل جاكوب، في المؤتمر الصحافي الذي عقده في قاعة باريسية يوم 22 نيسان ابريل المنصرم، ليعلن فيه اسماء الافلام التي اختيرت اخيراً لتعرض في شتى تظاهرات المهرجان. ومن المعروف عادة ان تظاهرات المهرجان تنقسم الى اربع رئيسية: "المسابقة الرسمية" وتتضمن عروضاً تعتبر خارج التسابق على أية حال "نظرة ما…"، "اسبوع النقاد" و"اسبوعا المخرجين". ومن المعروف ايضاً ان الاهتمام، كل الاهتمام، يتركز عادة على "المسابقة الرسمية" و"نظرة ما…". وفي العادة ايضاً ان يكون فيلم الافتتاح - والاختتام - لكل من التظاهرتين، خاصاً. واللافت في هذا العام، ان يكون فيلم افتتاح المسابقة روسياً بتمويل فرنسي هو "حلاق سيبيريا" لنيكيتا ميخالكوف العائد بعد غياب طال منذ عرض فيلمه السابق "الشمس الخادعة"، وفيلم افتتاح "نظرة ما…" مصرياً وايضاً بتمويل فرنسي جزئي هو "الآخر" ليوسف شاهين الذي يعود الى كان بعد ان كان قد فاز قبل عامين بالجائزة الخاصة الخمسينية ل"كان"، حين عرض فيلمه السابق "المصير" في المسابقة الرسمية. ميخالكوف وشاهين ليسا غريبين عن "كان". فهما سبق لهما ان شاركا مرات عدة في مسابقاتها الرسمية او في تظاهراتها الاخرى. بل يمكن القول ان قلة من المخرجين المشاركين هذا العام تعتبر جديدة، وكأن المهرجان بات اشبه بناد مغلق لعدد معين من السينمائيين، وعدد معين من البلدان. ومع هذا لم يفت جيل جاكوب ان يلفت الى ان ثمة 13 مخرجاً يشاركون في المسابقة الرسمية من بين 22 مشاركاً لم يسبق لأي منهم ان شارك في هذه التظاهرة الكبرى من قبل، ومن اشهر هؤلاء الاسباني بيدرو المدوّر، والاميركي تيم روبنز، والياباني تاكيشي كيتانو، والفرنسي ليوس كاراكس. اضافة الى ان ثمة مخرجين يشاركان في المسابقة الرسمية بفيلم اول لكل منهما - وهذا في حدّ ذاته، امر نادر الحدوث - وهما الفرنسي جاك مايو، والصيني - من هونغ كونغ - يو ليكواي. ولئن كانت تظاهرة "المسابقة الرسمية" ستفتتح بفيلم "حلاق سيبيريا"، فانها ستختتم ب "الزوج المثالي" لأوليفر باركر، عن مسرحية اوسكار وايلد. ومن اسبانيا يأتي فيلم المدوّر غريب الاطوار "كل شيء عن امي"، فيما يعرض الايطالي ماركو بيلوكيو فيلمه الجديد "لا باليا". تشين كيغي، الصيني الذي كان فيلمه السابق "وداعاً خليلتي" فاز بالسعفة الذهبية قبل سنوات، يعود هنا بفيلم تاريخي ملحمي عنوانه "الامبراطور والقاتل" فيما يعرض مواطنه يو ليكواي "الحب سوف يمزقنا". الولاياتالمتحدة حضورها شبه محدود، اذ يقتصر على جيم جارموش - احد معتادي المهرجان منذ اول افلامه - الذي يعرض "درب الساموراي"، ودايفيد لينتس "الحكاية الحقيقية"، وتيم روبنز "المهد سوف يهتز" وجون سايلس "ليمبو". بريطانيا ترسل جديد بيتر غريناواي "ثماني نساء ونصف" ومايكل ونتربوتوم "ارض العجائب". اما روسيا اضافة الى فيلم الافتتاح بتوقيع ميخالكوف، فانها ترسل "مولوخ" من اخراج الكسندر سوكروف. ايران التي اعتادت المشاركة في "المسابقة الرسمية" كما في غيرها، تشارك هذه المرة عبر فيلم حققه ثلاثة مخرجين، في ثلاثة اجزاء "حكايات كيتس" بتوقيع محسن ماخمالبوف، ناصر طاغواي وابو الفضل الجزيري. والجديد من الشرق الاوسط هذه المرة هو اسرائيل التي تشارك عبر فيلم "قدوش" للمخرج المنشق عاموس غيتاي. اما فرنسا، البلد المضيف، فان لها في المسابقة الرسمية فيلماً واحداً يحمل عنوان "بولا اكس" من اخراج ليوس كاراكس الذي سبق ان حقق "دم فاسد" و"عشاق الجسر الجديد" واعتبر يومذاك دماً جديداً في السينما الفرنسية قبل ان يهمد صوته لسنوات يعود بعدها بهذا الفيلم الذي يراهن عليه الفرنسيون كثيراً. واليابان في المسابقة الرسمية يرفع لواءها تاكيشي كيتانو بفيلمه الجديد "صيف كيكوجيرو". اما كندا فيأتي منها الارمني الاصل توم ايغويان بفيلمه الجديد "رحلة فيليسيا"، فيما يأتي الاخوان داردين من بلجيكا بفيلم "روزيتا" ومانويل دي اوليفر الذي يحمل سنواته التسعين ليشارك بفيلمه "الخارطة". ومن اميركا اللاتينية يأتي المكسيكي ارتورو ريشتاين بفيلم مقتبس عن رواية غابريال غارسيا ماركيز "ليس للكولونيل من يكاتبه" ونعرف ان ولع ريشتاين بالأدب كان ساقه من قبل لاقتباس فيلم بات اليوم شهيراً عن رواية "بداية ونهاية" للكاتب العربي نجيب محفوظ. في المسابقة الرسمية ايضاً، ولكن خارج التباري، هناك حفلة خاصة لتكريم شين كونري جيمس بوند السابق الذي اضحى اليوم، في كهولته، بطلاً من ابطال الاستقلال الاسكوتلندي، حيث من المعروف انه يساند حزباً اسكوتلندياً يدعو الى الاستقلال عن لندن، ويسعى الى توظيف 60 مليون جنيه في نهضة سينمائية في مسقط رأسه، مع انه - حسب مأخذ الصحافة البريطانية عليه - يعيش في جزر الباهامس، وبالكاد يزور اسكوتلندا مرة في العام. هذا السجال البريطاني حول شين كونري، لن يهم اهل "كان" كثيراً، ما يهمهم هو ان شين كونري سيكرم، شخصياً او عبر عرض فيلم "التفخيخ" خارج المسابقة الرسمية، الى جانب الفيلم الالماني "عدوي الحميم" من اخراج فرنر هرتزوغ العائد، هو الآخر، بعد غياب طويل، والى جانب ثلاثة افلام انغلوساكسونية "تلفزيون اد" لرون هوارد "والتحري" لستيفن سودبرغ و"دوغما" لكيفن سميث، ناهيك بفيلم "وداعاً لليابسة" للمخرج الجيورجي اوتار يوسلياني وهو انتاج مشترك مع فرنسا. النجوم في كل مكان اذاً، في المسابقة الرسمية وخارجها حفلات خاصة 29 فيلماً تأتي من 16 بلداً، وهو تنوع يرضي طموح المهتمين بفن السينما في العالم، ويعلنه جيل جاكوب بكل فخر، وهو يؤكد انه، ولجنة الاختيار، شاهدا نحو 140 فيلماً قصيراً وطويلاً طوال شهور قبل ان يقر رأيهما على ما سوف يعرض، وهذه الافلام أتت من 69 بلداً. ولكن، مهما كان عدد البلدان وعدد الافلام، ومهما كانت جدة او جدية مخرجيها، فان امراً واحداً يبدو مؤكداً: 80 في المئة من اهل كان البالغ عددهم بين 25 و30 ألفاً في كل عام، هو عدد زوار كان لمناسبة المهرجان لن يهمهم سوى النجوم الذين يتوزعون على فنادق المدينة ومراكبها ومطاعمها وداراتها الانيقة. وهذا ما يجعل الاعلان عن حضور النجوم، جزءاً من سياسة المهرجان، ومن هنا، اضافة الى شين كونري، الذي سيحظى بتكريم رسمي، سيكون هناك فاي دونواي وسوزان ساراندون، كريستين سكوت - توماس وكاترين زيتا جونز، اميلي واطسون وكيت بلانشيت وفكتوريا ابريل وكيارا ماستروياني وسلمى حايك وجون مالكوفيتش اضافة الى عدد لا يحصى من النجوم الفرنسيين. اذ ان مهرجان كان هو - قبل اي شيء آخر - مهرجان للنجوم، حتى وان كان اهل النقد والمهنة يحبون ان يعتبروه كذلك مهرجاناً للسينما الجادة. ما يجعل من الممكن القول، في النهاية، ان لكل طرف ما يروق له. وفي النهاية يتجاور هنا كل شيء: النجوم والمخرجون، الافلام والالعاب، الملصقات والصور، من جو الطرقات ومغنو الساحات، المتنزهون وهواة السينما الحقيقيون. العرب، كالعادة، سيكونون موجودين، حتى وان كانوا، سينمائياً، يشعرون هذا العام بشيء من الظلم، لا يخفف منه الا اختيار فيلم يوسف شاهين الجديد لافتتاح تظاهرة "نظرة ما…" فالحال انه، على غير ما كان يحدث في السنوات السابقة، لن يكون الحضور السينمائي العربي كبيراً: فيلم شاهين، ونصف دزينة من افلام اخرى تعرض على الهامش، في صالات مستأجرة وفي سوق الفيلم. ومع هذا فان حضور السينمائيين العرب لن يكون هامشياً، من مخرجين شاهين، طبعاً، واسامة فوزي، وغسان سلهب من لبنان والطيب الوهيني من تونس وربما محمود بن محمود ويسري نصر الله وخالد يوسف الى ممثلين محمود حميدة ولبلبة، ليلى علوي ويسرا الى اعلاميين نقاد وتلفزيونيون وكالعادة سيرافق العرب الحاضرون بدعواتهم عرض فيلم "الآخر" لشاهين، وسيرصدون ردود فعل الآخرين عليه. ما يعني ان شاهين سيكون من جديد نجم المهرجان العربي، ما سيمكن هذه المرة نبيلة عبيد، بطلة فيلمه، من ان تصبح نجمة "كانية" كما فعل من قبل مع ليلى علوي ونور الشريف ومحمود حميدة ومحسن محي الدين وسيف الدين وهاني سلامة وخالد النبوي …الخ. تظاهرة "نظرة ما…" التي تفتتح بفيلم شاهين، هي ثانية تظاهرات المهرجان من حيث الاهمية، وثمة من النقاد واهل المهنة من يفضلها، لانها، اقل من المسابقة الرسمية، عرضة للمناورات والمساوامات ولعبة المحاصصة التي تحكم التظاهرة الاساسية. بالنسبة الى هؤلاء تعبّر تظاهرة "نظرة ما…" عن واقع السينما، لانها، اصلاً، اقيمت، لكي تعوض اي نقص لضرورات غير منظورة، في المسابقة الرسمية. افلام "نظرة ما…" عددها 22 فيلماً، ل22 مخرجاً، منهم 14 مخرجاً لم يسبق لأي منهم ان شارك في أية مسابقة في "كان" من قبل. وفي هذه التظاهرة ستة افلام هي الاولى لاصحابها. من ابرز افلام "نظرة ما…" الى جانب فيلم الافتتاح، التركي "سوار الحريم" لفرزان اوزبيتيك، والياباني "طريق الزعران الصغار" لمازاهيرو كوباياشي، و"شرق ونسلو" لدافيد ماميت الولاياتالمتحدة، و"مارانا سيمهاسانام" للهندية مورالي نايير، و"التكوين" للشيخ عمر سيسوكو من مالي، و"صقلية" لجان - ماري شتروب ودانيال هوييه …الخ. واضافة الى التظاهرتين الباقيتين وهما "اسبوع النقاد" و"اسبوعا المخرجين" تنظم دورة "كان" لهذا العام تظاهرة خاصة تحت عنوان "فيلم الحب" وتضم عروضاً لأشهر افلام الغرام التي حققتها السينما العالمية منذ العام 1921 "كاميل" لراي سمالوود وحتى العام 1967 "بوني وكلايد" لآرثر بن، ومن بين ابرز افلام هذه التظاهرة "اضواء المدينة" لتشابلن، و"الشيطان امرأة" لفون شترنبرغ، و"جسر واترلو" لمرفن ليروا، و"اورفيوس" لجان كوكتو و"مونيكا" لانغمار برغمان و"الليل" لانطونيوني، و"غرترود" لدراير. ولتتويج هذه التظاهرة الخاصة سوف يتم تكريم الاميركية فاي دونواي بطلة "بوني وكلايد". وتكريم فان دونواي، فضلاً عن تكريم شين كونري، سيكونان من اهم الاحداث التي ستشهدها دورة "كان" لهذا العام، اضافة للحضور الطاغي لاكثر فيلمين ينتظرهما جمهور السينما لن يعرض اي منهما في كان على الارجح، لكن ملصقاتهما وصورهما والحديث عنهما سيكون شغل الناس الشاغل هنا ونعني بهما فيلمي "الشبح يهدد" وهو حلقة من "حرب النجوم" يعود بها جورج لوكاس الى السينما بعد غياب عشرين عاماً، و"عيون مغلقة على اتساعها" فيلم ستانلي كوبريك الاخير. ولسوف يكون لكوبريك، الراحل حديثاً، تكريم خاص عبر معرض صور عنه وعن افلامه يقام في صالة لومبار الكبرى طوال ايام المهرجان. ومن احداث الدورة ايضاً تكريم خاص لميشال بيكولي عن مجمل اعماله ولفرانسيس فيبر. اما "درس السينما" المعتاد فسوف يلقيه هذه المرة اليوناني ثيو انغلوبولوس الذي فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان "كان" العام الفائت عن فيلمه "الابدية ويوم واحد" اما المفاجأة الكبرى فستكون يوم 17 أيار مايو في عرض فيلم للهندي الراحل ساتياجيت راي لم يسبق عرضه قبل الآن وعنوانه "كانشنجوغا". بعد يومين، اذاً، يبدأ هذا كله. البعض يعرف شيئاً عن قلة الافلام المعروضة، لكن معظم الافلام لا يزال مجهولاً. و منذ الآن تدور التخمينات، ولا سيما منها ما يتعلق بأفلام "الكبار" من امثال شاهين وميخالكوف وغريناواي وهرتزوغ وجارموش ولينتس. فالحال ان هذه الاسماء وغيرها من تلك التي الى سنوات قليلة كانت لا تزال تشكل جيلاً جديداً، وبالكاد دخل بعضها الموسوعات السينمائية ، هي الاسماء الكبيرة في سينما اليوم، اميركية كانت ام غير اميركية. ومهرجان "كان" يأتي في دورته الجديدة ليقول لنا هذا، وليؤكد انه "البديل" من الكبار الذين كانوا يملأون دنيا السينما ويشغلون ناسها خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبالكاد بقي احد منهم، فالموت غيّب الكبار الكبار والنسيان يلفّ الباقين، اما الجيل الذي وصل الى كهولته اليوم، والى ذروة تألقه بالتالي فهو جيل كانت دورات "كان" المتعاقبة شهدت شبابه وبداية حبه السينما. من هنا، فان هذه الدورة الثانية والخمسين لمهرجان "كان" عبر اسماء المشاركين فيها، تكاد تكون صورة عن تكريم المهرجان ل... نفسه، عبر تكريمه لأسماء معظمها لمع بفضله، بل لم يلمع الا بفضله