صنّفت الولاياتالمتحدة اسامة بن لادن عدواً اول. نشرت صوره. وضعت جوائز لمن يرشد اليه. حاولت قتله. ضغطت على حركة "طالبان" لتسليمه. استخدمت علاقاتها مع باكستان لتطويقه. ويقال انها ارسلت فرق كوماندوز لاعتقاله، وانها تحوم حوله وترصد خطواته وتراقب هاتفه. ولا يزال "الملياردير الاصولي" متوارياً عن الانظار. وهو، حسب القول الشائع، موجود في "مكان ما" في افغانستان. وربما تابع بدقة "رحلة التيه" التي قام بها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان قبل ان يستقر في سجن تركي بعد ان ضاقت به الأرض. يحاول ابن لادن ان يبقى على صلة بأنصاره. وهو يستخدم في سبيل ذلك هاتفه المحمول والبريد الالكتروني، اي ادوات عصرية جداً لا تتلاءم، من حيث الشكل، مع مشروع الدولة التي يريد بناءها. وربما دفعته غربته عن هذه التقنيات، ووجوده في اودية افغانستان وجبالها، الى الاعتقاد بأنه في مأمن. اذا كانت هذه تقديراته فهو مخطئ. ثمة رجل يطارد ابن لادن في كل مكان وهو مكلف القبض عليه حياً او ميتاً. وهذا الرجل اميركي بالطبع ومن المشكوك فيه ان يكون ابن لادن شاهد صورة له وأدرك حجم الامكانات الموضوعة بتصرفه. هذا الرجل اسمه ريتشارد كلارك وهو يتصرف في موازنة سنوية تبلغ حوالى عشرة ملايين دولار. يسمونه في واشنطن "قيصر مكافحة الارهاب في البيت الأبيض" لأنه على صلة مباشرة بالرئيس ويمكنه الا يرفع تقاريره الا اليه متجاوزاً اجهزة المخابرات الاخرى. كلارك 48 عاماً رجل سري جداً، وقد عاش حياته في الظل. قليلة هي المعلومات المتداولة عنه ولكن من المؤكد انه كان في مكتب الكولونيل اوليفر نورث في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان يوم خرجت الى العلن فضيحة "ايران غيت" الشهيرة. وهي اذا كانت تعطي فكرة عن مغامرات الكولونيل فانها تعطي فكرة اخرى عن العقل التنظيمي لدى كلارك وكيف يتصرف كأن العالم كله مسرح عمليات واحد. فمن ضواحي بيروت، الى طهران، مروراً بتل أبيب ونيكاراغوا، ومن ادغال هذه الاخيرة الى المصارف السويسرية، من تجار السلاح الى تجار المخدرات، يستطيع كلارك ان يتصرف وأن يربط الحلقات المعقدة لشبكة واسعة من العلاقات. عندما خسر نورث موقعه، انتقل كلارك الى وزارة الخارجية في مهمة ذات صلة بمكافحة الارهاب. ولكنه هنا ايضاً لم يستمر طويلاً لتورطه في قضية اكثر تعقيداً من الأولى، لها صلة بسوء الاستخدام الاسرائيلي للتكنولوجيا الاميركية العسكرية. ولكن هذه الخسارة دفعت به الى ترقية غير محسوبة، اذ صادف حصولها وصول بيل كلينتون الى البيت الأبيض. وهكذا انتقل كلارك الى مجلس الأمن القومي الملحق بالبيت الأبيض قبل ان يتحول سريعاً الى المسؤول الأول عن مكافحة الارهاب. ويقول اليوم انه يعمل من دون اي رقيب مستفيداً من الثقة الاستثنائية التي يوليه اياها كلينتون. يحضر كلارك كل الاجتماعات الامنية المهمة في البيت الأبيض ويجلس الى جانب وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ووزير الدفاع وليام كوهين، ويملك حق التصويت. ويوازي صوته صوت رئيس الاركان او مدير وكالة الاستخبارات المركزية. وفي هذا وحده ما يدل على مكانته المرموقة. وعندما طرح موضوع الرد على تفجيري السفارتين الاميركيتين في افريقيا لعب كلارك دوراً ترجيحياً في اعتماد "الحل الصاروخي" على افغانستان والسودان. وكانت كلمته مسموعة لأن "ابن لادن من نصيبه" ولو امكن له ان يتغلب على تحفظات واردة من وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات. وضع، بتكليف من كلينتون، اربع مذكرات حول "مكافحة الارهاب" اقنعت الرئيس بتخصيص موازنة سنوية قيمتها 10 بلايين دولار أو اكثر لذلك الغرض. ويقول خصومه انه يتمتع بذلك جيداً لأن حبه للسلطة يوازي حبه للمال، وهو بات يتمتع بالامرين معاً، ويستطيع ان يتصرف بهما من غير ان يستطيع احد المس بنزاهته. لقد طور كلارك الاستراتيجية الاميركية ل"مكافحة الارهاب" مستفيداً من ان الادارة وضعت ذلك في طليعة اهتماماتها الخارجية وباتت تعتبر التصدي لهذه "الآفة" علة وجود لحلف الاطلسي نفسه. ومن الافكار الجديدة التي نجح، مع غيره، في فرضها: - أولاً، ان الارهاب في حد ذاته خطر على المصلحة الوطنية الاميركية وعلى انتشار الجيش الاميركي اوحلفائه في العالم، سواء كان مصدر الارهاب اشخاص او مجموعات او دول. وأسلحة الدمار الشامل هي ايضاً خطر كبير. غير ان الخطر الأكبر يتمثل في حصول "زواج" بين الارهاب وأسلحة الدمار الشامل. وتطبيقاً لهذه النظرية فانه تعمد الدفع باتجاه القصف على مواقع ابن لادن في افغانستان ومصنع "الشفاء" في السودان. وحتى لو كان هذا المصنع "بريئاً" فان القصد هو الفعل الرمزي الذي يحدد مكمن التهديد المتمثل في امكان وقوع اسلحة كيماوية او جرثومية في ايدي شخص مثل ابن لادن. - ثانياً، يعتبر كلارك ان الأرض الوطنية الاميركية لم تعد في منأى عن الارهاب. وقد خلص الى هذا الاستنتاج بعد تفجير مركز التجارة الدولي في نيويورك. ويوافقه وزير الدفاع الاميركي وليام كوهين على ذلك، اذ صرح قبل اشهر امام مجلس العلاقات الخارجية بأن اميركا "لم تعد تواجه عدواً واحداً وقوياً كما في الحرب الباردة. لم تعد تعيش توازن رعب. ولكنها تواجه ارهابيين. وتواجه الاحتمال المرعب بأن تنجح دولة او مجموعة باستخدام اسلحة كيميائية او بيولوجية قاتلة ضد قواتها او اراضيها الوطنية". هكذا امكن كلارك اقناع البيت الابيض بضرورة تنظيم الدفاع عن اميركا. كان الرأي الاول الذي اقترح هو تعيين جنرال قائداً لمسرح العمليات في الولاياتالمتحدة على غرار ما يقوم به الحلف الاطلسي في اوروبا. غير ان الفكرة اثارت مخاوف كبيرة، فتم التراجع عنها، خصوصاً انها تتضمن دوراً مباشراً للجيش في الحياة الداخلية. وعوضاً عن ذلك، وضعت خطة بُدئ بتنفيذها وتقضي باشراك الحرس الوطني في مهمات دفاعية للرد على اي طارئ. وكان رأي كلارك ان ندع المخاطر قد يكون مفاجئاً: قنابل بيولوجية في مترو وول ستريت، قنابل كيميائية في مرآب البنتاغون، غاز سام في محل تجاري كبير، الخ… ولذلك وجد ان عليه ادخال مؤسسات محلية في المنظومة الدفاعية مطافئ، مخافر، مستشفيات، سيارات اسعاف، الخ….وبالفعل جرى تدريب عشرات الآلاف في اكثر من 30 مدينة على حالات طوارئ وذلك في سياق خطة يفترض تعميمها على الولاياتالمتحدة كلها. - ثالثا، لا شك في ان الفكرة الجديدة التي تنبه اليها كلارك تتمثل في احتمال تعرض الولاياتالمتحدة ل"بيرل هاربور تكنولوجي"، ولذلك نقل عنه القول ان اختراق انظمة الكومبيوتر لتعطيل شبكات الهاتف والمواصلات في مدينة ما، قد يكون اشد خطراً من انزال بري. ويتعزز ذلك اذا قرر الرئيس الاميركي تحريك قوات "فوجد ان اجهزة الانذار مطفأة، والهواتف لا ترن، والقطارات لا تسير". وعندما سئل عن الاهداف المحتملة ل"ارهاب" من هذا النوع اجاب: "لابتزازنا. لارهابنا. لجعلنا نتخلى عن سياستنا الخارجية كأن نتخلى عن اسرائيل مثلاً". كان كلارك عنصراً فاعلاً وراء تشجيع كلينتون على اصدار ما يسمى "القرار التنفيذي الرئاسي الرقم 63 الخاص بحماية البيئة الاساسية الحساسة". وضع كلينتون مقدمة هذا القرار التي تقول: "ان اميركا هي القوة الاقتصادية الاولى في العالم وهي القوة العسكرية الاولى. القوتان مترابطتان ومستندتان الى بنية اساسية تكنولوجية: الاتصالات، الطاقة، المصارف والمالية، النقل، انظمة المياه، خدمات الطوارئ … ونظراً الى قوتنا العسكرية، فان اعداء محتملين سواء اكانوا دولاً او مجموعات او افراداً قد يحاولون الاضرار بنا بوسائل غير تقليدية، بما في ذلك شن هجمات داخل الارض الاميركية. ان اقتصادنا متزايد الاعتماد على بنية اساسية تكنولوجية ومتداخلة، ولذا فان هجمات غير تقليدية على بنيتنا الاساسية وانظمة معلوماتنا يمكنها ان تلحق اضراراً جسيمة بقدرتنا العسكرية واقتصادنا". وبناء على ذلك وضعت خطة حماية ستنفذ على مدى خمس سنوات باشراف كلارك ومشاركة القطاعين لعام والخاص. وقد وضع القرار الرئاسي الاطار العام لها بما في ذلك التنسيق مع الكونغرس، والتنسيق الدولي، وتكييف الاجراءات الدفاعية مع التقدم التقني، ووضع طاقات الحكومة المخابراتية والمادية والدفاعية في خدمة المشروع. وكذلك اتفق على بنية تنظيمية تشمل عشرات الوكالات العامة والخاصة والفيديرالية والوطنية تنتظم كلها في "المجلس الوطني لضمان البنى الاساسية". ان هذه بعض الاضافات التي ساهم في احداثها "الرجل الهادئ ذو النظارتين الفضيتين" ريتشارد كلارك. والواضح انها تتضمن مواجهة حالات تمتد من الارهاب البدائي الى الارهاب السيبرنتيكي. واذا كان النوع الثاني ينتمي الى عالم افتراضي حتى الآن والرد عليه اقرب الى الوقاية من العلاج، فان النوع الاول في المنظور الاميركي داهم وقد سبق له ان ضرب وهو يمضي وقته، طبقاً لمدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينبت، في الاعداد لضربات جديدة. ان اسامة بن لادن، هو نموذج هذا النوع من الارهاب ولذلك فان ريتشارد كلارك يعطي الاولوية المطلقة لمطاردته