أجرت "الوسط"، منذ أسابيع، حديثاً متعدد الوجوه مع أحمد عبدالمعطي حجازي. وأعطى الشاعر المصري الكبير في حديثه آراء مختلفة في مواضيع متنوعة، مسَّ في واحد منها ما يمكن أن يدعى ب "أجيال الشعراء". ومع أن حديث الشاعر ينبغي أن يكون سليماً كحال القصيدة التي ينطق باسمها، فإن ما جاء به عن "أجيال الشعراء" يستثير بعض الأسئلة. فقد أوحى حجازي بأن الشعراء مراتب، وأن كل مرتبة قصر منيف يغلق بواباته العالية، صباحاً ومساء، ولا يستقبل أحداً، كما لو كان الشاعر يستدفئ بإلهامه الخاص ولا ينفتح على قصائد الآخرين. ومع أن للشعراء "طبقاتهم" التي لا يماري فيها أحد، فإن في قول حجازي المقتصد ما يبعث على الارتباك، ذلك أنه تكلّم على "الطبقة الشعرية" ولم يُشر الى ماهيتها، تاركاً القارئ البريء يستنتج ما أراد. فقد تحيل "الطبقة"، كما أوحى بها الشاعر المصري، على العمر، كما لو ان عمر الشاعر وحده قيمة شعرية. وقد تستدعي المكان الذي ولد فيه، كأن عبقرية الشاعر جزء من "عبقرية المكان"، أو جزء من أقاليمه المتواضعة. وقد توحي بالمواضيع التي عالجها الشاعر والتي تنقسم، ربما، الى مواضيع مقدسة والى مواضيع أخرى ملقاة على هامش الطريق. ولذلك كله، فإن ما جاء به حجازي يبدو قولاً عابراً في أقوال عابرة، قريباً من انفعال عارض لا يأتلف مع روح شاعر جدير بالاحترام والتقدير. يثير قول حجازي المقتصد ارتباكاً، لأن الشعر لا وجود له إلا في "أجيال الشعراء"، اذ كل شاعر يتتلمذ على قصائد غيره، تاركاً قصائده لتلميذ قادم، يضيف الى قصائد معلمه قصيدة جديدة. "الشعراء يخترعون أسلافهم"، يقول بورخس. ولأن الشعر متجدد الولادة، فإن الشعراء يخترعون أحفادهم أيضاً، فمن لا أب له لن يكون أباً لأحد. ولعل علاقات الأبوة الشعرية المتجددة التي يكون الشاعر فيها أباً وابناً في آن، هي التي تشرح إحالات أدونيس المتعددة التي يحدد فيها آباءه الشعريين، منتظراً أن يكون بدوره أباً شعرياً لابن نجيب ينتظره في المستقبل. ولا يختلف الأمر كثيراً حين يقول محمود درويش: "ان قصيدتي اثر للقصيدة العربية كلها". فالشاعر دائماً هناك ينتظر، في لحظة، شاعراً آخر يأخذ بيده من ضفة الى ضفة شعرية أخرى، ليصبح، بعد حين، دليلاً صادقاً لغيره. وفي الحالات جميعها، وفي حدود القول الشعري، فإن الشاعر يحاور، دائماً، شاعراً آخر غيره : بعيداً عن العمر، لأن بين الأب والابن مسافة زمنية بديهية... وبعيداً عن المكان، عبقريّ الصفات كان أم أليفاً وبسيطاً في الفته. وإلا لما التفت أحد الى شاعر جاء من جزيرة مهجورة، ولا تكوّن شيء يدعى ب "الشعر الانساني"، بسبب هذا، يبدو قول الشاعر المصري الكبير سريعاً، ولا ينقصه الانفعال. إذا وضعنا الشاعر وشخصه جانباً، واكتفينا بكتابة مكتفية بذاتها، تدعى ب "القصيدة"، فإن المحاكمة السابقة لا تخسر من منطقها شيئاً كثيراً. يقول هارولد بلوم في كتابه "قلق التأثير": "الشاعر يكمل سلفه بشكل تضادي، حيث يقرأ القصيدة الأم بهدف استكمال شروطها، ولكن داخل سياق آخر...". يتراجع الشاعر، إن كان اسمر اللون أو شابَه الثلج في بياضه، وتتقدم القصيدة وحدها، وقد أخذت صفة جديدة هي "القصيدة - الأم" التي تتيح للأفكار صياغة جديدة. فإن كان الشاعر الحقيقي يخترع أباه وابنه أيضاً، فإن القصيدة الكبيرة لا تنتسب الى أم جديرة بها، إلا اذا كانت بدورها جديرة بأن تكون أماً لقصيدة لاحقة. فلا قصيدة خارج الحوار بين القصائد، كما لو كان كل الشعراء، ولو كباراً، يكتبون قصيدة واحدة، بدأها شاعر قديم وبالغ القدم... وترك سطورها ناقصة لشاعر يكمل بعض سطورها ويترك سطوراً لاحقة لغيره. هذا الحوار بين القصائد، وهو لا يختلف عن الحوار بين المعارف المختلفة، هو الذي يسمح للعاملين بالنقد الأدبي أن يركنوا الى مفهوم "التناص"، أو الى ما هو قريب منه، أو الى مفهوم "السلة الأدبية"، حيث التاريخ الأدبي هو تاريخ النصوص المبدعة التي يرمم بعضها بعضاً، أي تاريخ الأبناء الذين يأخذون، بلا انقطاع، مواقع آبائهم، محولين الأب - الأول، إن وجد، الى أحجية أو الى ما هو قريب من الأحجية. وبسبب هذا أيضاً، يبدو الشاعر المصري الجدير بالمحبة والتقدير، قد أخطأ سبيله في الكلام وطرق أبواباً لا ضرورة لها. قد يستطيع القارئ، أن يتأمل المعيار الغامض الذي مر عليه حجازي بشكل غامض أيضاً، بشكل مختلف، يرتكن الى معنى القصيدة ودلالتها. فالقصيدة جملة من العناصر المتحاورة، تتآلف وتتكامل كي تفضي في النهاية الى قول أخير، يرفض ان يكون أخيراً، لأن الحوار الذي شكله، ينتظر قارئاً يعرف الحوار، ويترك الأحكام الباترة والنهائية لأهل الاختصاص. كل قصيدة كبرى تحاور قرّاءها، يقال، غير أنها لا تحاور غيرها، الا بفضل الحوار الذي يوّحد عناصرها المختلفة. ولذلك شبّه الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه القصيدة بالسمفونية، حيث لكل نغم قوامه ودوره الخاص به ووجوده المستقل، وحيث تكامل الأنغام، أي حوارها، يبني القصيدة ويعلن عن لحنها الأخير. وفي الحالات جميعها، فالحوار قائم، ومركز المراكز لا وجود له، فالشاعر يحاور من سبقه ومن تلاه، والقصيدة الكريمة توزع حنانها على أولاد لا تعرفهم، انتظروها في مدن كبيرة أو في قرى متواضعة. والقصيدة التي توزع الحنان تستدفئ بدورها بعناصرها التي تنكر المرتبة. والمرتبة قائمة بالتأكيد، غير أنها قائمة بين البشر المأخوذين بطقوس المسافة ودرجات الألقاب. أما في الحقل الابداعي، فإن كبير المرتبة هو الذي يأخذ بيد تلميذ نجيب كي يرفعه إليه، كما لو كان الاعتراف بمساواة البشر هو المرجع الابداعي الأعلى الذي يحدد معنى الابداع، ومساحات الأسماء. يقول عبدالرحمن شكري، المجدد المصري الذي فتنته الرومانسية: "كل شيء في الوجود قصيدة والشاعر أبلغ القصائد". ينطوي قول الرومنطيقي المصري على تأويلات عدة، تحيل في النهاية على المحبة. والمحبة ليست غريبة عن قصائد عبدالمعطي حجازي التي دافعت عن الوطن والانسان، ورفدت النهر الشعري العربي المعاصر بماء عذب كثير، والتي ساوت بين جوهر الشعر وجوهر الحرية. ولذلك فإن القول الذي جاء على لسان الشاعر المصري في حديث "الوسط"، يذهب الى الانفعال والكلمات المحترقة، بعيداً عن ابداعه الشعري الذي يحترمه القراء العرب