يبدو ان الحكومة الإيرانية شرعت بمراجعة سياستها الخارجية التي جنحت إلى التطرف بعد فوز الجناح المحافظ في النظام ممثلاً بالرئيس محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية صيف 2005. وفيما يبدو أنها محاولة لإعادة الملف النووي إلى الجناح المعتدل ممثلاً بالرئيسين السابقين هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي أوردت صحيفتا"لوموند"الفرنسية و"ذي صنداي تايمز"البريطانية معلومات مفادها ان المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي شكل"خلية أزمة"بعضوية الرئيسين السابقين ل"تصويب"اندفاعة أحمدي نجاد وحماسته المفرطة في الملف النووي، إضافة إلى محاولة احتواء الآثار التي قد تترتب على عقوبات واسعة يفرضها مجلس الأمن على إيران. المراجعة الإيرانية قد تصل إلى درجة الموافقة على تعليق البرنامج النووي قبل انقضاء مهلة الستين يوماً التي منحها مجلس الأمن لإيران والتي تنتهي في 23 شباط فبراير الجاري، ما ينم عن تغير ملحوظ في السياسة الإيرانية التي ظلت تصر خلال السنتين الماضيتين على حقها في امتلاك التكنولوجية النووية ورفض تعليق برنامجها أو إجراء التخصيب خارج إيران وهو الاقتراح الروسي الذي لم تعترض عليه واشنطن. ويمكن تفسير ملامح التغير في السياسة الإيرانية بعوامل عدة بعضها داخلي، وأكثرها خارجي. فقد تبين لإيران فشل رهانها على موقف روسي وصيني داعم في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أي قرار بفرض عقوبات عليها. لقد اكتشفت إيران، على رغم المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الكبيرة التي تربطها بكل من الصين الطاقة وروسيا استثمارات وصفقات ببلايين الدولارات ان الدول العظمى لها حساباتها وقوانينها الخاصة، وهكذا جاءت الموافقة على القرار 1737 بالإجماع بمثابة نكسة كبيرة لإيران. السبب الأخر الذي دفع طهران إلى مراجعة حساباتها هو فشل الرهان على تقرير بيكر - هاملتون الداعي، من جملة توصياته، إلى إجراء حوار شامل مع إيران يقوم على أساس المصالح المتبادلة. الرئيس جورج بوش لم يكتف برفض توصيات اللجنة بل اخذ موقفاً أكثر تصلباً، حيث أعطى تعليماته بملاحقة وقتل من أسماهم"عملاء"إيران في العراق ووضع استراتيجية شاملة لاحتواء النفوذ الإيراني من أفغانستان إلى فلسطين. وفي خطاب حال الاتحاد الذي ألقاه بوش في شهر كانون الثاني يناير الماضي وعرض فيه استراتيجيته الجديدة في العراق بدا ان هذه الاستراتيجية تتمحور حول احتواء النفوذ الإيراني أكثر مما تركز على تحقيق الاستقرار في العراق. وكان هذا الأمر مبرراً بالنسبة الى الكثيرين في واشنطن باعتبار ان احدهما يؤدي إلى الآخر. التشدد في خطاب واشنطن السياسي تجاه طهران ترافق مع تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الخليج، إذ قرر الرئيس بوش نشر قوة ضاربة في المنطقة، بينها حاملة الطائرات"يو اس اس جون سي ستينيس"وكتيبة للدفاع الجوي مجهزة بأنظمة صواريخ"باتريوت"المضادة للصواريخ. وفي حين كان متوقعاً ان يأخذ وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت غيتس موقفاً أكثر اعتدالاً باعتباره عضواً في"مجموعة دراسة العراق"ومن المتحمسين لإجراء حوار مع إيران، إذا به ينحو بعد تسلمه منصبه إلى مواقف لا تقل تشدداً عن مواقف سلفه دونالد رامسفيلد. الرهان على قدرة الكونغرس الذي سيطر عليه الديموقراطيون أخيراً على تعطيل قدرة الرئيس على شن حرب جديدة، تبين هو الآخر انه عقيم. فالرئيس الأميركي استبق نتائج الانتخابات النصفية بجهد واضح لإفهام الكونغرس أنه وحده من يقرر السياسة الخارجية. كما هدَّد باستخدام حق النقض في وجه الغالبية الديموقراطية في حال سعت إلى تعطيل قراراته في هذا الشأن. زعماء الكونغرس تلقوا رسالة بوش وفهموها وهم لذلك سعوا إلى تصويت رمزي على رفض قرار الرئيس إرسال المزيد من القوات إلى العراق. الديموقراطيون فعلوا ذلك من باب تسجيل موقف على الإدارة في حال فشلت الاستراتيجية الجديدة في العراق وهم على أي حال لا يخفون توقهم إلى ذلك استعداداً لإخراج الجمهوريين من البيت الأبيض بعد أقل من سنتين الى الآن. فضلاً عن ذلك، شاع في واشنطن أخيراً ان بوش أخذ يقرأ التاريخ السياسي الأميركي بنهم غير معهود. ويقال انه أُعجب كثيراً بالطريقة التي تعامل بها الرئيس تيودور روزفلت مع الكونغرس المعارض لسياساته أواخر القرن التاسع عشر. ففي عام 1898 قرر روزفلت إرسال قواته إلى الفيليبين مستخدماً حقه الدستوري في إعلان الحرب مدة 60 يوماً من دون الحصول على موافقة الكونغرس. القوات الأميركية احتلت الفيليبين في أقل من شهر توجه بعدها روزفلت إلى الكونغرس متحدياً المشرعين ان يرفضوا توفير الاعتمادات المالية لجنود بلادهم، وهي سابقة توافق تفكير بوش وقد تدفعه إلى تكريس هذا التقليد. الموقف الأوروبي أثر أيضاً في الحسابات الإيرانية. فقد أعلنت دول الاتحاد الأوروبي، بعد اجتماعها في بروكسيل في كانون الأول ديسمبر الماضي على مستوى وزراء الخارجية، عزمها على تطبيق العقوبات التي اقرها مجلس الأمن ضد برنامجي إيران النووي والبالستي"كاملة وبلا إبطاء". السبب الأخير الذي دفع القيادة الإيرانية إلى مراجعة سياستها هو الانتقادات الداخلية المتزايدة لإدارة الرئيس نجاد للملف النووي وفشل سياساته الاقتصادية. فقد استغل الاصلاحيون نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، والتي مني فيها أنصار نجاد بهزيمة كبيرة، خصوصاً في العاصمة طهران، لتوجيه سهامهم إلى الرئيس الذين اتهموه بتسهيل مهمة إدارة بوش في عزل إيران بعد تصريحاته النارية، خصوصاً المتعلقة بالمحرقة اليهودية وحول الملف النووي. لا بل واجه نجاد سخرية غير معهودة في وسائل الإعلام الإصلاحية في بلاده على خلفية زيارته إلى أميركا اللاتينية وعناقه الشهير مع الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز. وما زاد الطين بلة بالنسبة الى نجاد هو خروج آية الله حسين منتظري عن صمت دام عشر سنوات منذ فرض الإقامة الجبرية عليه عام 1997 لينتقد وبشدة سياسات نجاد داعياً إياه إلى"درس القدرة الأميركية في شكل يتجاوز الشعارات اليومية"و"عدم إطلاق كلام يحرّك شعوب المنطقة ضد إيران". التحول في الموقف الإيراني لم يأت مفاجئاً، في ضوء التجارب التاريخية التي برهنت على ميل إيران الدائم إلى إهمال العناصر الأيديولوجية والدينية في حال تصادمها مع المصلحة الوطنية. ففي عام 1989 وقبل وفاته ببضعة اشهر وجه المرشد الروحي للثورة الإسلامية آية الله الخميني خطاباً إلى رئيس الجمهورية في ذلك الوقت علي خامنئي أوصاه فيه بأنه"إذا حدث تعارض بين مصلحة الأمة ونص قرآني فعلى الإمام ترجيح مصلحة الأمة على النص". الممارسة السياسية الإيرانية منذ انطلاقة الثورة لم تكن عملياً أكثر من ترجمة لهذه العبارة. فقبل عودته إلى طهران وإعلان انتصاره، استقبل الخميني في مقر إقامته في ضاحية باريس وزير العدل الأميركي رمزي كلارك مبعوثاً من الرئيس جيمي كارتر. وأبلغ كلارك يومها الخميني استعداد واشنطن للاعتراف بنظام الثورة واستئناف شحنات الأسلحة الأمريكية التي جرى التعاقد عليها في عهد الشاه بشرط الحفاظ على علاقات الصداقة مع أميركا، وهو ما كان. واستؤنفت الشحنات كما جرى ورفع مستوى الاتصال بين الطرفين في لقاء جمع مستشار كارتر لشؤون الأمن القومي زبغينيو بريجنسكي ورئيس الوزراء الإيراني مهدي بازركان في العاصمة الجزائرية. لكن هذا التقارب تعثر بسبب اقتحام السفارة الأميركية في طهران. في كتابه"بقوة السيف: أميركا وإسرائيل في الشرق الوسط"، يتناول ستيفن غرين الاتفاق التي جرى التوصل إليه بين فريق المرشح للانتخابات الرئاسية الأميركية رونالد ريغان والحكومة الثورية في طهران. تضمن الاتفاق ان تؤخر إيران إطلاق سراح الرهائن الأميركيين إلى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية حتى لا يستفيد كارتر من الزخم الذي قد ينتج من نجاحه في إطلاقهم في مقابل وعود من ريغان بأنه سيقوم، في حال فوزه، باستئناف صادرات الأسلحة إلى طهران. في ذروة الحرب مع العراق كانت إيران في حاجة ماسة الى قطع الغيار لسلاحها الأميركي. ولأكثر من ثلاث سنوات، ظلت إيران تحصل على هذا السلاح من الولاياتالمتحدة في مقابل المساعدة في إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان وتحويل ثمن الأسلحة إلى مقاتلي الكونترا الذين كانوا يحاربون الحكومة اليسارية في نيكاراغوا. ولم تتوقف شحنات الأسلحة الأميركية إلى طهران إلا عندما اتسعت التسريبات لتتحول إلى ما أصبح يعرف لاحقاً بفضيحة"إيران غيت"التي هزت إدارة ريغان عام 1986. ونظراً الى انعكاسات الفضيحة انقطعت كل أشكال التواصل بين طهرانوواشنطن حتى عام 1990 عندما أعلنت إيران وقوفها على الحياد في حرب تحرير الكويت، مع أنها لم تخف غبطتها لرؤية الأميركيين يدمرون فلول الجيش العراقي الذي اجبرها على"تجرع كأس السم"في آب اغسطس 1988. في عام 1993 تجددت الاتصالات الأميركية - الإيرانية بسبب الحرب في البوسنة، حيث قامت طائرات أميركية بنقل عتاد ومتطوعين إيرانيين عبر تركيا لمساعدة المسلمين البوسنيين في مواجهة التطهير العرقي الذي مارسه الصرب بحقهم. لكن ذلك توقف أيضاً مع توقيع"اتفاق دايتون"عام 1995 ثم وقوع انفجار الخبر عام 1996 الذي أدى إلى نكسة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد ان اتهمت واشنطنإيران بالوقوف وراءه. مع وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة بدأت حركة غزل علنية بين واشنطنوطهران استهلها خاتمي في آب أغسطس 1998 عندما أدلى بحديث لمحطة"سي ان ان"أعرب فيها عن إعجابه وتقديره للشعب الأميركي. ردت إدارة كلينتون على لسان وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت بما يشبه الاعتذار"عن المعاناة التي تعرض لها الإيرانيون لأسباب قد يكون لسياسة الولاياتالمتحدة علاقة بها". في ذلك الوقت بدا ان المياه ربما بدأت تعود فعلاً إلى مجاريها بين البلدين، لكن المقاومة الشديدة للمحافظين في طهران وتردد كلينتون بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي أفشلا المحاولة. استمرت الحال كذلك حتى وقعت أحداث أيلول سبتمبر 2001. كانت إيران من أوائل الدول التي نددت بالعمليات وعرضت على واشنطن المساعدة في مكافحة الإرهاب. وعندما قرر الرئيس بوش غزو أفغانستان قدمت إيران مساعدات لوجستية منها السماح للطائرات الأميركية باستخدام أجوائها، وحتى نقل أسلحة إلى تحالف الشمال المعارض لنظام"طالبان". وساهمت إيران في مؤتمر برلين حول أفغانستان في عام 2002، الذي أرسى صيغة الحكم القائم حالياً في كابول. وبالمثل قررت إيران المساعدة في إطاحة نظام الرئيس صدام حسين عندما سمحت لعشرات الآلاف من مقاتلي"فيلق بدر"التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ومقاتلي"حزب الدعوة"بدخول الأراضي العراقية ومساعدة قوات التحالف على إسقاط النظام العراقي، كما لعبت طهران دوراً مهماً في منع أي مقاومة ضد الزحف الأميركي في المناطق التي كان لها نفوذ فيها. في عام 2003 وبعد بضعة شهور من احتلال العراق عرضت طهران على واشنطن صفقة شاملة لتسوية كل القضايا الإقليمية والثنائية العالقة بين البلدين. وقد نشرت تفاصيل العرض الإيراني في صحيفة"نيويورك تايمز"في تشرين الأول أكتوبر الماضي. لكن إدارة بوش، المنتشية بنصرها السريع في العراق، رفضت العرض، لا بل كافأت طهران على"المساعدة القيمة"التي قدمتها في العراقوأفغانستان بضمها إلى"محور الشر". ووجدت طهران، التي ساءها رفض إدارة بوش تسوية شاملة معها، ان السياسات الأميركية في المنطقة خدمتها في شكل كبير، فبفضل الجهد العسكري لواشنطن تخلصت طهران من عدوين رئيسين على حدودها الشرقية والغربية في آن. ومع ازدياد التعثر الأميركي في العراقوأفغانستان وجدت القيادة الإيرانية الفرصة سانحة لفرض تسوية على واشنطن بشروطها. لكن وصول احمدي نجاد إلى السلطة اضرّ بطهران أكثر مما خدمها سواء في ما يتعلق بالملف النووي أو بسياستها الإقليمية أوعلى صعيد علاقاتها الدولية. وهو ما وعته القيادة الإيرانية أخيراً وقررت على ما يبدو إدارة الدفة بالطريقة التي ألفتها:"قليل من الإثارة، قليل من الأيديولوجيا ومزيد من العمل، مزيد من البراغماتية". * كاتب سوري