قصائد سيف الرحبي الجديدة تنضح بخيبة ومرارة، وتضجّ بأقوام انقرضوا، وقبائل اندثرت، وعوالم من الخيالات والاحلام اضحت "كباقي الوشم في ظاهر اليد". فالزمن بالنسبة إلى هذا الشاعر العماني هاوية تبتلع كل شيء، لذا تراه يلوذ بالقصيدة، يعيد فيها ترميم حكايات مضت عاشها على امتداد أعوام التسكّع بين المدن والأقطار... قبل أن أن يلوّح لنا بيده من بعيد، وكأنّه يطلب المعذرة، أو يدعونا إلى وليمة مستحيلة. جميع الدواوين التي أصدرها سيف الرحبي حتّى الآن، تبدو كأنها تؤرخ لحياة هذا الشاعر العماني، عبر الأمكنة والمدن التي عاش متنقلاً بينها على امتداد قرنين، قبل ان يتخد قراره بالعودة الى الوطن، والاستقرار في مسقط حيث يدير مجلة "نزوى" الادبية. وحين قرر العودة إلى المرحلة التي سبقت حياة التيه، أصدر الرحبي، قبل سبعة اعوام كتاباً نثرياً بعنوان "منازل الخطوة الاولى"، واصفاً بأسلوب جذاب، ولغة مكثفة نادرة في جيله، طفولته في الريف العماني حيث الصخور والجبال العارية والحكايات الخارقة والاحلام المتوحشة توحّش الطبيعة في شكل تلك الامكنة. في مجموعاته الخمس الاولى نجد اصداء، قوية أحياناً، خافتة أحياناً أخرى، لحياة الشاعر متنقلاً بين القاهرةودمشقوبيروت والدار البيضاء وأمستردام وباريس ومدن اخرى كثيرة، تأتي مرة على شكل صورة تكاد تكون فوتوغرافية، ومرة على شكل لمحة خاطفة. أما في مجموعتي "جبال" و"يد في آخر العالم" الصادرتين حديثاً عن دار "المدى" في دمشق، فكأننا بالرحبي يستعرض ما ولدته عودته الى الوطن الام، بعد غياب طويل، من أفكار وأحلام وذكريات مرة أو عذبة، وأيضاً من أسئلة وهواجس وأوهام. غربة الروح واذا كانت المجموعة الأولى مكونة من قصائد متفاوتة في الحجم، فإن الثانية جاءت على شكل قصيدة طويلة لها نَفَس يكاد يكون ملحمياً، إضافة إلى مقاطع ثلاثة أحدها بلا عنوان، والآخر حمل عنوان "عمرو بن قصيئة" الذي كان رفيق امرئ القيس في رحلته الشهيرة، والأخير يحمل عنوان المجموعة برمتها، أي "يد في آخر العالم". منذ البداية، يضعنا الشاعر في قلب موضوعه من خلال بيت لبدر شاكر السياب، به يفتتح ديوانه الأخير. فيقول: "يا غربة الروح في دنيا من الحجر". وهكذا يكشف لنا سيف الرحبي عن غرضه الأساسي من خلال "يد في آخر العالم". وهو غرض يتمثل في التعبير عن خيبة ما، اثر العودة الى الوطن الام بعد غياب طويل، وعن غربة تعذب روحه في نفس ذلك المكان الذي فيه ولد ونشأ، والذي يفترض ان ينعم فيه بالاستقرار، ويشعر فيه بالأمان والطمأنينة والسعادة. غير ان هذه الخيبة وتلك المرارة لا تخصان الشاعر وحده، وانما تشملان أيضاً أقواماً انقرضوا، وقبائل اندثرت وعوالم من الخيالات والاحلام اضحت "كباقي الوشم في ظاهر اليد". ذلك ان الزمن بالنسبة إلى الرحبي هاوية تبتلع كل شيء: "ليكن بهاؤك ايتها الآفاق طريدة اشباحهم/ منابر اطياف عميقة لنسور عابرة وهاويات: كم انت سعيدة ايتها الهاوية". ومن اعماق هذه الهاوية ذات "الظلام البهيج"، والظلام "الممطر نيازك"، يطلع الماضي القديم بوجوه اقوام "كانوا هناك يرتبون العُزلات والعوافف/ ألا يفصلهم عن الابدية إلاّ قوس ضارب في البحر واساطير بحارة غرقوا واقفين امام الله يتامى/ يخبط الموج اقدامهم امام شمس نازفة في العيون". ولكن ما الشيء الذي يؤثث الهاوية؟ انها السكينة. سكينة الصحراء المترامية الاطراف، تلك التي "تذرف الموسيقى كثيراً" و"تعاشر الموتى". لذا نرى الشاعر يتضرع لتلك السكينة ان "تمنح ارواح الغرقى بعض الهدوء"، وان "تحل رتاج العواصف عنها". ويمضي سيف الرحبي في نبش الماضي البعيد، الغارق في الهاوية المعتمة، فيقدم لنا صوراًً عن نفسه وعن أمه: "وجه أمي الذي لا اجرؤ على النظر اليه كأنما اهرب من جنتي المستحيلة، الذابلة حتى التلاشي. جنة لم تكن لأحد غيري قبل ان يتصرم جدلها"، وعن وجوه آخرين "الوجوه حين تنفجر هكذا أدمغة واحدة فاتحةً جدول النحيب". ارتطام الصباحات وفي لحظة معيّنة، تتراءى صور من طفولة بعيدة، كان الشاعر يعيش فيها "بين البحر والجبل،" في "مكان قصي يتبدى مثل كهف مقذوف في العاصفة". في هذا المكان تعلم الشاعر السباحة في البحر، وفي عيني أسماك القرش، وكان يحدق ملياً في سجناء "الجلالي" الذي كان من أفظع السجون في عمان، وقد أسماه البرتغاليون قلعة "سانت غوا". هناك في ذلك المكان الموحش شاهد الشاعر "العناق الاول بين الجبل والبحر"، وشاهد "ارتطام الصباحات ببعضها كالنيازك"، ورأى ايضا "ميلاد الابدية". وتبرز في لحظات أخرى من المجموعة صور من سنوات التيه بين المدن: "صخب الهنود والمكيفات/ مومسات وسكارى/ النداء الوهمي لباعة متجولين/ شرطة بجنازير وبذلات أنيقة/ يتنزهون في الحي اللاتيني/ مصحوبين بالضباب المحتدم والمشردين يعلكون اللبان على حافة المترو". والشاعر الذي تاه طويلاً عبر العالم يتماهى مع الباشق "شقيق الهجران"، الباشق "الشريد، قنفذ المتاهة الذي لا يفصله عن الابد الا ارخبيل قزحي يتنزه في مرآة عدم كاسر... عدم يرتب المكان والبشر والحيوات المسرفة في الغواية". وفي وطنه، يظل الشاعر يحلم بالماضي، وبالمدن التي عبرها خلال تسكّعه الطويل، آملاً كل صباح ان يأتيه خبر من ربوع المغرب، من بغداد أو القاهرة أو بيروت، ولا طموح له سوى ان يكتب قصيدة "تأكل نفسها بمرايا جبال غسقية". وهنا يتماهى الرحبي أيضاً مع عمرو بن قصيئة الذي "سافر في دجة الصحراء مع الملك الضليل وحيداً من غير أدلة ولا حاشية ولا خيل". وبعد هذه الرحلة الطويلة عبر الماضي الذاتي، وماضي شعوب وقبائل انقرضت، تطل علينا يد : "وحيدة تلوح في البعيد"، "وحيدة من غير مسافرين ولا ارصفة، او قطارات". يد "وحيدة جاثمة بوحشتها تلوح في ليل الاحداث". انها يد الشاعر الذي يعيش الآن استراحة المحارب القديم... يلوح بها الى ماض إمحى او يكاد، والى اصدقاء بعيدين، والى مدن لا تزال تسكن قلبه وذاكرته، والى عوالم عاشها ذات يوم، وأضحى لها الآن طعم الرماد. مرة اخرى يقنعنا سيف الرحبي بأنه شاعر، بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة. ومرة اخرى، يضع لنا من احجار بلاده وجبالها وبحرها قصائد عذبة، تمتعنا وتجرحنا في الوقت نفسه مثل الورود.