في كتابه الجديد "يد في آخر العالم" دار المدى - 1998، وهو الحادي عشر في مسيرة كتابته الشعرية والنثرية، يظل سيف الرحبي وفياً لعوالمه التي شكّلت قاموس مفرداته ورؤاه وهمومه الفنية والإنسانية، هذا القاموس الذي بات يمتلك خصوصية تميزه وسط تجارب قصيدة النثر العربية، خصوصية يجسدها الحفر المركّز في أرض عذراء، والتعمق في تجربة الحفر الى امداء جديدة دائماً، في كل مجموعة جديدة، بحثاً عن معاني ودلالات جديدة للأشياء، للصور وللكلمات، للتجربة المعيوشة والمحلومة، وللشعر أيضاً - الشعر في القصيدة، لا الشعر المطلق - حيث حلم من أحلام الشاعر أن يكتب قصيدة "لا تنسف العالم لكنها تزيح قليلاً صخرة الحنين". لم يعد الشعر قادراً، كما كنا نراه في مراهقتنا، على تغيير العالم، فلا أقل - إذاً - من أن يخفف من وطأة الحياة وأعبائها... وأن يمنحنا قوة تحمينا من الانهيارات المجانية والعبثية التي تدهمنا. وإذا لم تكن كتابة القصيدة تمتلك هذه القدرة - على الأقل - فما جدوى الكتابة إذاً؟! ما جدوى الشعر؟ هل يكون بلا جدوى، من أجل العبث مثلاً؟ لا، ليس بلا جدوى... تقول نصوص وقصائد سيف الرحبي. تقوله في صور شتى، هاجسها بناء رؤية شاملة الى هذا الكون، تنبثق من وعي شعري في الأساس، وتتكىء على تجربة فردية تحتشد بالرؤى والأفكار وشهوات البوح والكشف والتمرد وروح المغامرة والتجوال. في هذه المجموعة الجديدة، ثمة تواصل حميم مع عوالم المجموعات السابقة، وخصوصاً مع مجموعة "جبال" التي كانت مشغولة بهاجس المكان الأول - مكان الطفولة و"طفولة المكان"، بوصفه حيزاً للعلاقات الدافئة ولمتاعب العيش أيضاً، وبما طرأ عليه من تحولات جعلت العودة إليه كما لو أنها لقاء مع مكان آخر، وبارد، ومحايد. من هذا المكان الذي يحتفظ له الشاعر بذكريات وأحلام مكسورة، تبدأ عين الشعر جولتها في آفاق وإمداء مفتوحة على خرائب ومقابر وكوابيس، على هذيانات وأشباح وعزلات وكهوف... على وحشة وهاويات يهدر فيها صوت الموت والموتى الماضين والقادمين. تجمع العين الرائية والبصيرة الشعرية صورهما الممزوجة من المشاهد والمحلوم والمتخيل، وتصوغانها في صور تحكي حيناً، وتوحي حيناً، وتعبر بالإشارة أو بالعبارة حيناً ثالثاً. وهي صور تسعى - في كل الأحيان - الى بناء خطابها أو مقولتها في شكل صدمة أو هزة تصدم أو تهز وعي القارىء - المشاهِد لما يسمع ويرى من أصوات وصور في النص المحتشد بالمحسوسات، والموجّه الى الحواس كلها. ربما كانت واحدة من سمات عمل سيف الرحبي الأبرز، انه عمل ينتمي الى روح التجريب والمغامرة، ويبتعد عن المنجز والسالف. ويتجسد هذا التجريب في دفع الكتابة الى متاهات الحياة وكواليسها، الى عتمتها وكهوفها، من أجل الكشف عن الغريب، واستخلاص المجهول. ومن مظاهر التجريب هذا، أن نصوص الرحبي تكاد تخلو من بؤرة أو مركز. وفيما عدا الإنسان الذي هو هاجس النص ومركزه، فإن القصيدة، وهي تتدفق وتتشعب وتنشطر و... تعود الى الإنسان، تفتقد المرجعية كما تستغني عن النهايات والمطالع والأشكال المحبوكة. إنها نص مفتوح لكل المعاني والاحتمالات، مفتوح للسرد والحكي، وللومضة واللقطة والصورة والحكمة والأسماء... أسماء الأماكن والأشخاص خصوصاً، ولا يتورع عن تسمية عناصر تخريب العالم، وكل ما يؤرق النشر ويؤلم الكائنات من طبيعة وأشجار وحيوانات. وبحسب جملة تتكرر في مطلع عدد من مقاطع النص الطويل الذي يضمه الكتاب، فإن الشاعر يطلق "سراح النظر الى آخره" فيرينا مشاهد من الحياة اليومية، من كفاح البشر وهمومهم وآلامهم. نراها وهي مرفوعة - عبر اللغة والصورة - إلى صعيد الأسطورة حيناً، والى مستوى الطقس حيناً آخر، على رغم كونهم بشراً من زماننا، إلا أنهم يحملون روائح التاريخ والخرافة ولهم ملامح غريبة، غامضة. نرى أقواماً يزحفون على بطونهم، وآخرين يرتبون الأيام والشعاب، صامتين ثكالى... نرى المدن تتقافز من صباحات محاصرة تحمل متسكعين وغرقى. تحمل مقاهي ربما جلس فيها عشاق ومقاتلون في حروب عبثية. ونقف على صور من الذكريات والمحن والعلاقات بين عناصر ملتقطة من أزقة الحياة ودهاليزها، من عوالم متباينة، متصارعة. نرى الراحلين والآتين، من فرش الأرض بالدولارات والجثث ومن مات جوعاً. من... كتب قصيدة طليعية ومن احتمى بخيام الأسلاف. من هذه المسافة بين أطراف هذه العلاقات تتولد لحظة التفجر الشعري، لحظة المفارقة المحتشدة بصراع الأضداد... وبرؤية الى هذا الصراع ينحاز فيها الشعر الى الإنسانيّ والنبيل والتقدمي ضد التخلف والبشاعة والجشع... ضد الرجل الأشقر الذي يرمي اللحم للنسور ويلحق بها لتقوده الى مواطن الألماس. ضد المنافي وملوك الطوائف وطغاة الأقاليم. ضد عربات الجلادين الذين شاخت الطرقات تحت أقدامهم. ضد الكراهية، ضد صمت العنادل وذبول الأزهار. ضد الجفاف والعري والتشرد... إلخ. وعلى محور آخر تتدفق الشاعرية من رصد حالات الغياب، حيث "الغياب إقامة في الروح" حيناً، أو إشارة الى الموت والفقد والخسارة غالباً. هناك الوجوه الغائبة. والتحولات المأسوية للبشر وللمكان، للمدن والأصدقاء: في القاهرة أو بيروت أو دمشق، في الأماكن التي وصلت اليها خطى الشاعر وأقام معها صلة ما. في جولته هذه يطل الشخص على ذكريات تبدأ من حكايات الطفولة التي بددها النسيان، ومنها حكاية مقصوصة الجناحين، مروراً بذكرى مشاهدة العناق الأول بين الجبل والبحر، ومشاهدة القادمين من بلدان المتروبول وهم يطلون من شرفاتهم ذات الطرز الهندية حين "كنا صبية الوادي الأشقياء/ وعصابة الجبال التي تصطاد الفجر والقطا"، ثم ذكرى حرب الأيام الستة، وقسوة المنافي والحنين الى الأوطان الأولى والأحبة الغاربين، وصولاً الى "الأربعين / تلهث من غار الى غار / ومن مدينة الى أخرى / وعْلاً فاجأه هياج القناص..."، وليس انتهاء بهذه المشاهدات والعلاقات الغائبة. بواب الإسكندرية العجوز، طيور هيتشكوك. ذرية الأحقاف. برذون الخليفة. فراء الأميرة. جان دمو. مقهى "اللاتيرنا". مصارعو ثيران قدماء. جلبة الذئاب والقطارات... إلخ. وكأن هذه المفردات هي كل ما تبقى لنا من هذه الحياة البائسة... ولهذا يقبض عليها النصف ويرفعها الى مستوى الجوهري والدافىء والباقي. في النصوص - المقاطع، ثمة روح أخرى، ثمة ميل الى التشخيص والتكثيف، وذهاب للاشتباك مع شخصيات تاريخية، في التاريخ البعيد أو القريب، أبرزها حالة استلهام - أو استعارة - شخص عمرو بن قميئة، لنرى من خلالها رحلته مع الملك الضليّل "وحيداً من غير أدلة / ولا حاشية ولا خيل..."، وكيف بكى حين رأى الدرب دونه، وحيث "الصحراء تمتد والطريق أبعد من سهيل..."، ولنرى معه استحالة لقاء الثريا - سهيل، وأن موته منجز منذ الولادة. وثمة قراءة ذاتية للعالم، رؤية الى مرآة الذات، تتواصل فيها النظرة الحادة الى الإنسان والكائنات كوحدة واحدة. من هذه القراءة تنبثق رؤي حكيمة وانطباعات مكثفة في عبارات قليلة تختزل العالم، وتعرّي مظاهر زيفه، من جهة، وتبرز جمالياته من جهة ثانية. في هذه القراءة مجموعة أيدٍ تمتد من آخر العالم ملوّحةً بالحلم وبالمحبة... بالفرح، بالذكرى. و"يد في آخر العالم" القصيدة الأخيرة في المجموعة، وعنوانها في آن، تشف عن وجود أمل ما، لكنها لا تلبث أن تقتله. ان يد الشاعر أو القرصان أو بائع اليانصيب، اليد النحيلة، يد الغرباء، يد اليأس والندم والمحبة... لا تلبث أن تنتهي الى "يد الهذيان الذي تجرفني وديانه كل ليلة على أبواب الربع الخالي"، فتتكشف اليد التي "تلوّح في البعيد / نحو جزر مستحيلة / ومدائن، لم يبق من أرومتها / غير طعم الغياب" لنعود الى المحور الأساس في نصوص الرحبي وقصائده: الغياب الذي يشبه الموت، أو يجسّد صورة من صور هذا الموت. وربما كان الغياب في المكان الأول، المتحول الى مقبرة وكوابيس، وحشد من العزلات، هو أقسى أشكال الغياب / الموت... خصوصاً لشاعر لم يعرف السكينة والإقامة، ويرى أن "ليس للبحر نكهة خارج اضطرابه المقدّس"... ومن دون هذا الإضطراب يغدو مستنقعاً... فهل يتحول "توأم البحر والغروب" الى السكون والموت؟! إنه يتعلق ب"يد في آخر العالم" حتى لا يستسلم للمكوث والإقامة. وحتى يظل على صلة ما مع ال"هناك"، مع البعيد والمجهول وحتى المستحيل. وهو يحشد طاقة الحلم وقوة الهدم والرغبة بالغيير، وشهوة الحياة... في مواجهة أشكال الموت والظلام والهاويات السعيدة. فالحياة لديه ليست نقيض الموت وحسب، وهي ليست العيش كيفما اتفق. إنها - أصلاً - الطريقة في العيش. الأسلوب المختلف في معايشة الكون مغامرة وتحدياً ورفضاً للسائد، وركوباً للموج والأهوال، ودخولاً في حقول الأسرار وكهوف الرعب، وافتضاضاً للأقفال، وكشفاً للماوراء، والماتحت. هذه الروح القلقة هي ما يفجر ينبوع الشعر في تجربة سيف الرحبي