إذا كانت هناك ظاهرة تصح عليها عبارة وحدانية الزمن وتعددية التواريخ، فهي ظاهرة العولمة التي غدت القضية الشاغلة لفكر نهاية القرن. على ما بينهما من تناقض ظاهر، يتلازم وجها العبارة ويتفاعلان. فإذا قلصت تكنولوجيا المعلومات والاتصال حدود المكان وفواصله الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فارضة تقاسماً - غير متكافئ بالضرورة - في مجالات الانتاج والاستهلاك المادي والمعرفي، فإنها، في المقابل، وسعت مجال الوعي بالهويات الثقافية وبالخصوصيات المحلية... وبشكل مواز لتجانسها المتزايد الحاصل عبر عالم الوسائل المجسدة في الحاسوب وشبكات الانترنيت والفضائيات ومطاعم الوجبات السريعة وماركات السلع التجارية التي تنافس المثل الأفلاطونية في عليائها، أدركت خطابات الذات والهوية منافذ فعلية أو متخيلة، للخروج من قبضة التاريخ الشامل الذي رسخته فكرة الحداثة الغربية. لكن ما الذي يبرر الآن الحديث عن التاريخ بصيغة الجمع إذا لم يحسم أو يسوَّ ذلك التعارض القديم/ الجديد بين العقل العلمي و"العقل" الثقافي، بين عالم الأدوات وعالم القيم، وبين خطاب الشمولية وخطاب الخصوصية؟ للوهلة الأولى، يبدو أن ظاهرة العولمة تخطت مثل هذه التعارضات الحادة، محققة وضعاً يسمح باختلاط الشيء ونقيضه، باستساغة المأثور والوافد، وباندماج المحلي والعالمي. ألسنا اليوم، حداثيين أو تقليديين، أكثر ميلاً إلى المفاهيم النسبية في ادراك الواقع، للتعددية في تصوّر المستقبل، وللتسامح في تقدير الاختلاف؟ رأي كهذا لا يقنع كاتباً مثل تركي الحمد الذي يعود في "الثقافة العربية في عصر العولمة" الصادر عن "دار الساقي" في لندن وبيروت، الى قراءة الاشكالية من أسسها وأصولها. فإذا كانت العولمة قد فضحت اختلالات ثقافتنا المعاصرة، فذلك لأن الأخيرة لم تتمكن في وقت مبكر من استيعاب صدمة الحداثة الغربية الوافدة اليها منذ القرن الماضي. لكن ما هو الشرط اللازم لاستيعاب التاريخ وصنع هوية ايجابية؟ انه يتمثل، بنظر الكاتب السعودي، في تحقيق نقلة معرفية صريحة وحاسمة لمصلحة الأخذ بمنطق التفكير العلمي التجريبي، لا بنتائجه فقط. لذا يؤكد الحمد أن "الحداثة ليست مجرد غشاء مادي، بل حالة عقلية إما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها، والتحديث عملية متكاملة، وغير ذلك هو المسخ". ويواصل ان تحديات العولمة، كونها مرحلة متقدمة للحداثة، هي بالأساس تحديات معرفية تقترن بالتحول من التكنولوجيا الصناعية الثقيلة الى تكنولوجيا المعلومات والاتصال. لذلك لا خيار لنا إلا بمجاراتها على أرضيتها الفعلية من دون وهم أو مراوغة. ويلزمنا هنا التسليم مسبقاً بأن مصير الثقافات هو الانفتاح. أي ان ارتكاز الثقافة على محور ثابت ونقطة جوهرية، لا يعيق تفاعلها وتلاقحها مع سواها من الثقافات. والتجربة اليابانية في الجمع بين الحداثة والتقاليد، هي الدليل الحي الذي يتكرر ذكره مراراً في متن الكتاب. بل ان جدل الثبات والتغير، التقليد والمخالفة، والتأثير والتأثر هو لب الثقافة منظوراً إليها من زاوية تاريخية ارتباطاً بحركة المجتمع، من جهة، وبمنجزها على مر العصور، من جهة أخرى. تترتب على نظرة كهذه، زعزعة المفاهيم السكونية للهوية التي تسبغ عليها تماثلاً وتماسكاً وتعالياً على التاريخ وعلى الغايات الفعلية للنظر والتفسير. فهي تغفل أن نصيب الهوية والثقافة من التاريخ هو التباين والتعارض والآنية، وتتفادى ما يحمله الماضي، الذي يمثل مرجعها اليقيني الأخير، من أوجه واحتمالات متعددة لقراءته وإعادة تشكيله. مصدر التصورات المشوهة للهوية يكمن، في نظر الكاتب، في الايديولوجيات التي لم تكف عن اختلاق مشاريع وممكنات جانبت التمثيل الصحيح للواقع، وبثت أوهاماً ذاتية وأحلاماً رغائبية لا جدوى منها. لكن ما هي الايديولوجيات التي كانت وما زالت مصدر تجربة نسيان طويل ومقصود لنبض التاريخ ومتغيرات الواقع والمعرفة، ان لم تكن أفكار المثقفين الذين مارسوا الوصاية على المجتمع باسمها، وعمقوا هواجس الانعزال الثقافي بوحي منها، وسطحوا المشاكل الفعلية بسلطتها؟ في الحقيقة، لم يبخل كتاب "الثقافة العربية في عصر العولمة" في نقد المثقفين العرب، مرة لتسيّسهم المفرط، وأخرى لنخبويتهم الافلاطونية، وثالثة لسلفيتهم وجمودهم، ورابعة لاختزاليتهم وعدم جذريتهم. فكل هذه الأدوار عفا عليها عصر العولمة. إن المطلوب برأي تركي الحمد مثقف يلعب "دور المحلل والناقد، لا دور الحاكم والمقرر في القضايا والأمور"، أي مثقف يعرف، أولاً، أن موقعه هو بين السلطة والمجتمع من دون انحياز مسبق لطرف على حساب آخر، وثانياً، أن عدته هي المعرفة الموضوعية وليس الاسقاطات الذاتية. وعلى أنقاض نموذج المثقف ذي الرؤية الشمولية والطموح المثالي والرسالة الشعبوية، يطمح هذا التصوّر إلى ولادة مثقف جديد يواكب الواقع وينتمي الى حركته... مثقف، هو مشرِّع ومفسِّر في آن، تقع على عاتقه مسؤولية إحداث النقلة أو القطيعة المعرفية التي يدعو اليها الكاتب. لكن ما يصعب هضمه في فكرة القطيعة المعرفية التي هي أسّ قراءة تركي الحمد للثقافة العربية في سياق العولمة، هو أن تخيّلها واقتراحها أسهل بكثير من اقناع الآخرين بها ناهيكم بتحقيقها عملياً. فهي وان فاضلت، ابتغاء للحقيقة دون سواها، بين المعرفة والاعتقاد، أو بين العلم والايديولوجيا، لا تملك ما يعفيها تماماً من المصادرات والتحيزات التي تم تشخيصها في كتابات داعيتها الأبرز وهو المفكر محمد عابد الجابري. فمن بين المؤاخذات عليه يمكن ايراد بخسه العقل العربي مقارنة بالعقل الأرسطي، ومنطق المغاربة مقارنة بمنطق المشارقة. بذور نقلة معرفية المسألة هنا لا تتعلق بالانتقاص من قيمة فكر الجابري، بل للتدليل فقط على أن إرادة المعرفة الحقيقية غير كافية لبلوغها فعلياً. فهي، أي القطيعة المعرفية، مفهوم بعدي لا يتجلى رهانه في أولوية الوعي الذاتي لإعادة التأسيس الثقافي إلا في طور لاحق حيث تسود رؤية محددة للعالم على حساب أخرى. وهو ما حصل في الحداثة الأوروبية بعد أن أتت الجهود الفكرية لعلماء وفلاسفة مثل كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت وهوبس ومفكري التنوير ثمارها المتمثلة بتبنيها الواسع كإطار لانتاج المعرفة والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لا يمكن لأحد هنا أن يماري في عدم امتلاكنا هذه الروافع الفكرية، حيث ساد الفكر العربي الحديث قدر كبير من الانتقائية والتلفيقية التي يشير اليها الكتاب ويدلل عليها بالأمثلة والشروح. في الوقت نفسه، لا أحد يستطيع أن يجزم مسبقاً أن صدمتنا بالحداثة والغرب، بما نجم عنها من رجّات فكرية واستجابات عملية وممانعات ايديولوجية، لا تنطوي على بذور نقلة معرفية. يلزمنا، في هذه الحالة، أن نأخذ تاريخنا في عموميته كسياق للتراكم والازاحة معاً، وأن لا نراهن على بداية جديدة هي ألصق بالخطابات الذاتية التي لم يكف الكاتب عن تعرية عقمها وتهافتها. ولعل ما نقوله لا يتعارض مع ما يدعو اليه الكاتب نفسه بضرورة تبني الانفتاح الثقافي كبديل للانغلاق والتقوقع على الذات. فمجتمعاتنا وسياسات نظمنا الحاكمة تبدي، بشكل متزايد، قدراً غير قليل من الروح العملية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع العلم واستيراد التكنولوجيا، وبالتمثيل السياسي والشرعية، وبتطوير نظم الادارة وفرص الاندماج في الاقتصاد العالمي. ومن البديهي أن أثر عملية كهذه يتجلى بصورة تراكمية وليس بقرار فوقي، وأن شكلها النهائي، ان صح ذلك عند الحديث عن التاريخ، محكوم بثوابت عامة ومتغيرات ظرفية. بعبارة أوضح، إن الانفتاح الثقافي الذي يدعو اليه الكاتب ردّاً على التصورات الايديولوجية للهوية والخصوصية، لا يمثل فكرة لما ينبغي أن يكون، بل واقع حالنا الراهن. وهو حال محدد بعواقب اللا تزامن إزاء الحداثة، وبممكنات الاستجابة والتأجيل إزاء العولمة