سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تكريم المسعدي والفخراني والجعايبي وأجومي وندوة عن المسرح والمدينة . جيل جديد من المخرجين يثبت حضوره في "أيام قرطاج المسرحية" : رامبو تونسي وواقع آسن لا خلاص منه إلا بالجنون
"أيّام قرطاج المسرحيّة" التي تقام كلّ عامين، بالتواتر مع مهرجان سينمائي، أكّدت موقع تونس كعاصمة للمسرح العربي والافريقي. وقد سلّط هذا المهرجان الضوء على مجموعة من التجارب والأسماء التونسيّة الجديدة التي تشقّ طريقها على الخشبة، طارحة أسئلة وتحديات على جيل السبعينات، وعلى المسرح العربي بشكل عام. هنا جولة على كواليس هذه التظاهرة البارزة التي شارك فيها "مسرح القصبة" فلسطين "ومسرح الناس" المغرب، إضافة إلى فرق من السعوديّة والعراق ولبنان ومصر وسوريّة والجزائر... في دورتها التاسعة تبدو "أيّام قرطاج المسرحيّة" وقد دخلت مرحلة جديدة، فباتت أكثر "تواضعاًَ" ووضوحاً ومقدرة على التعامل بدقّة وأمانة وعمق مع النتاج الابداعي وطرح الأسئلة المواكبة له، وأكثر انشغالاً باحتضان التجارب الابداعيّة ورعايتها، وخلق فرص تفاعل وحوار وتبادل خبرات... كأن هدفها البسيط والطموح في آن هو منح الجمهور المسرحي التونسي، وهو بين الأنضج عربياً، فرصة المشاهدة والمتعة والاطلاع. بعيداً عن البهرجة الاحتفاليّة والضجّة الاعلاميّة، وبعيداً عن مطبات الادعاء والتعالي، نجح الأكاديمي محمد المديوني وزملاؤه، وبرعاية وزير الثقافة عبدالقادر الهرماسي طبعاً، في تقديم الفرص لجميع التجارب التونسيّة - وما أغزرها ! - في حين سبق أن شاهدنا في كواليس دورات سابقة "تصفيات حساب" قاتلة بين فنّانين من جيل واحد وحساسيّة واحدة. كما نجح في خلق مناخات فكريّة وابداعيّة خصبة، استفاد منها أهل المسرح التونسي والعربي من مشاركين وضيوف. فمن لقاء شبكات التوزيع الذي احتضن أبرز منشطي المسارح الغربيّة، ومديري المؤسسات والفرق والمهرجانات في اوروبا، اضافة إلى عدد من المسرحيين... إلى الندوة المحوريّة حول "المسرح والمدينة" أشرف عليها فرج شوشان، المدير السابق للمركز الثقافي الدولي في الحمامات التي تختصر جوهر التحديات المطروحة على المسرح في العالم العربي، مروراً بطقوس التكريم التي حيّت بعض الأسماء العربيّة والعالميّة البارزة محمود المسعدي، الفاضل الجعايبي، يحيى الفخراني، محمد إدريس، خوسيه مونليون، سيد أحمد أجّومي، فاطمة ربعي... ووصولاً إلى حلقات نقاش العروض التي أدارها الصحافي والناقد عبدالحليم المسعودي.... بدا هذا المهرجان التونسي الذي يترقّبه أهل المسرح العرب والأفارقة كلّ عامين، مرآة حقيقيّة للراهن المسرحي، فكريّاً وجماليّاً واقتصاديّاً... وكالعادة كانت جوائز المسابقة الرسميّة محور اهتمام الفنانين والجمهور، وجاءت قرارات لجنة التحكيم الدوليّة التي ترأسها الممثل والمخرج البرازيلي، العربي الأصل، أمير حداد، حافلة بالمفجآت، إذ تساءل كثيرون عن السبب الحقيقي لفوز مسرحيّة "الجنة تفتح أبوابها متأخرة" للفرقة القومية العراقية للتمثيل بالجائزة الأولى : هل هي جدارة العمل وتميّزه؟ أم انعدام الأعمال الجيّدة؟ أم انزلاق إلى فخّ الديماغوجيّة بحكم التعاطف الهائل الذي يتمتّع به الفنانون العراقيّون في تونس؟ وبدا واضحاً أن اللجنة التي ضمّت روبير أبي راشد، نور الدين الورغي، فتحيّة العسّال، عبدالله شقرون... تحايلت على الظروف والاعتبارات المختلفة لتحييد مسرحيّتي الطيب الصديقي "قفطان الحبّ" المغرب، وهناء عبد الفتّاح "رقصة سالومي الأخيرة" مصر من الجوائز بمنحهما تحيّة خاصة، تعفي من الاحراج الذي يفرضه التفاوت بين الثقل الفنّي للاسماء المشاركة في العملين، والقيمة الابداعيّة الفعليّة لكلّ منهما. أزمة هويّة السمة الطاغية على الدورة التاسعة ل "أيّام قرطاج المسرحيّة" هي غزارة المسرح التونسي وخصوبته، والتساؤلات والتخوّفات والتحديات التي يطرحها الواقع المسرحي التونسي بين جيل مكرّس بدأ يدور في الحلقة المفرغة، وجيل جديد يفرض حضوره، لكنّه يواجه أزمة هويّة، بوضوح، ويجد صعوبة في الاهتداء إلى ملامحه الخاصة والتخلّص من تأثير الجيل الأسبق وانجازاته... لكن الاكتشافات العربيّة، هي الأخرى، تستحقّ التوقّف عندها مليّاً، من الأردن إلى المغرب، مروراً بسوريّة وفلسطين والسعوديّة. فقد لفتت الفلسطينيّة سوسن دروزة الأنظار بعرضها "ذاكرة الصناديق الثلاثة" الأردن الذي كتبته مع هيا حسيني تمثيل محتسب عارف، نجوى قندقجي، زهير حسن. تدور المسرحيّة وسط مناخات عبثيّة ووجوديّة، في اطار فضاء مقفل يجتمع فيه ثلاثة أشخاص متورّطين في مشاغلهم وخيباتهم، وسط حالة من القلق والخوف والريبة. وينضح هذا الاطار السارتري بمشاعر الاغتراب، فيما يتمّ التركيز على اللعبة الحركيّة التي تعطي للجسد حقّ الخروج على النص المكتوب ليعبّر عن هواجسه وتوتّراته. وفي اطار مختلف تماماً جاءت مسرحيّة "رأس الحانوت" مسرح الشامات/ المغرب لتسلّط الضوء على مخرج ومؤلّف شاب هو بوسلهام الضعيف الذي ينتمي مثل ممثّلته فاطمة عاطف إلى حساسيّة جديدة في المسرح المغربي، آن لها أن تفلت من عقالها، وتجد الرعاية اللازمة من قبل المؤسسة الثقافيّة. ويمكن أن نشير إلى عرض "مسرح عشتار" المأخوذ عن رواية حنان الشيخ "مسك الغزال" فلسطين، إلى مسرحيّة "الرحلة" من اخراج ناصر الباز السعوديّة، و"السوسة" من اخراج كمال كربوز الجزائر، و"الكمامة" من اخراج جاسم الأنصاري قطر، و"خطوات" جائزة افضل مؤثرات صوتية من اخراج محمد آل رشي سوريّة. ولفتت الأنظار المسرحيّة الكويتيّة "موكب السمك" التي اقتبسها عن نصّ لبرتولد بريخت وأخرجها الممثّل والمخرج السوري فايز قزق، وقدّمتها "الفرقة الأكاديميّة للمسرح". كما أعاد ثنائي "مسرح الرصيف" الحكيم مرزوقي ورولا فتّال تقديم "ذاكرة الرماد" من تمثيل نوار بلبل والفنّانة مها الصالح التي كانت مع رفيق دربها أسعد فضّة من نجوم مهرجان قرطاج. وتدور المسرحيّة العراقيّة الفائزة بجائزة أفضل عمل في مناخ ما بعد الحرب، المحمّل بشحنته من الهزائم والخيبات والجراح التي لا تندمل. "الجنّة تفتح أبوابها متأخّرة" نصّ فلاح شاكر، اخراج محسن العلي حكاية جندي يعود إلى منزله بعد عشر سنوات من الأسر جواد الشكرجي، ليجد أن العالم من حوله قد تغيّر. فزوجته لا تعرفه، ونقاط الارتكاز الحميمة الغائرة في الذاكرة تزعزعت هي الأخرى... هل ننتمي إلى الأشياء التي هجرناها حقّاً؟ من الخاسر الأكبر في الحروب التي بلا قلب ولا ذاكرة؟ الجواب يقدّمه المخرج ببراعة في المشهد الذي عاد فيه جنود آخرون يدقّون على أبواب الذاكرة الموصدة لنساء استسلمن لاحكام الحياة القاسية... مسرحيّة "المهاجر" التي اقتبسها جورج ابراهيم مسرح القصبة، القدس، عن نصّ شهير لجورج شحادة "مهاجر بريسبان"، تقول الصراع العبثي نفسه مع الزمن. إلا أن الزمن الفلسطيني يكتسب بعداً خاصاً، فالذي تغيّر في قرية "دير الزيتون" هو أن العالم انحسر إلى حدوده الدنيا مع اتساع المستوطنات، وتحت نير الاحتلال الاسرائيلي. لذا فان المهاجر العائد بحثاً عن جذور محمد بكري، سيلفظ أنفاسه الأخيرة من دون أن "يعود" فعلاً إلى موطنه الأوّل. وهنا تبدأ المواجهة : فالميراث الذي يتركه لابنه غير الشرعي، المفترض وجوده في القرية، سيقسم أهل القرية ويؤجّج الخلافات التي تعتمل تحت الغشاء الاجتماعي الراكد. لكن مخرج العمل، المغربي محمد خميّس جائزة أفضل اخراج، أسرف للأسف في استعمال الاطار الفولكلوري، مغامراً بالانزلاق إلى فخّ الطبيعيّة... إذ يشعر المشاهد أحياناً أنّه في أوبريت رحبانيّة، أو في عرض مدرسي من بدايات المسرح الفلسطيني والعربي. مسرح "الانحطاط" ولا تبتعد مسرحيّة "رقصة سالومي الأخيرة" التي مثّلت مصر في المسابقة الرسميّة، عن تلك المفارقة التي تجعل جزءاً من المسرح العربي اليوم، جمالياً وفكريّاً، خارج أي سياق تاريخي، من وجهة نظر الثقافة العربيّة أوّلاً، وعلى صعيد حركة المسرح العالمي بشكل عام. تُصوّر المسرحيّة سالومي وقد سيطرت على الحكم ورمت بهيرود في السجن الملك المخلوع نسخة باهتة عن لير شكسبير أو هنري الرابع، واستسلمت لأشكال الفساد، يحرّكها هاجس واحد هو استعادة الرجل الذي صدّها فطلبت قطع رأسه، أي يوحنّا المعمدان الذي سمّي هنا "الناصريّ" ! وسرعان ما ترزح الحبكة تحت ثقل الخطاب السياسي : الحكم الفاسد والجائر، الأرض التي تبور والحضارة التي تموت من جهة... والثوّار الانقياء الزاحفون لتحرير الجهّة الغربية من النهر اضافة إلى اختزاليّته، لا يخلو هذا الخطاب من الخطورة في الظرف السياسي العربي الراهن: إلى من يرمز هؤلاء الثوّار في الواقع، حسب تصوّر الجمهور المصري والعربي؟!. وفي النهاية عندما تُرجَم سالومي حتى الموت، تسطع صورة القدس في عمق الخشبة. وهذا الاسقاط يشكّل ذروة الديماغوجيّة، والابتزاز العاطفي، كأن المخرج يريد ارغامنا على قبول المسرحيّة على علاتها. نحن مع هذا العرض الذي لا يخلو من الطاقات التمثيليّة البطولة لسهير المرشدي والابداعيّة النصّ يحمل توقيع الكاتب محمد سلماوي، أمام ما يمكن أن نسمّيه "مسرح الانحطاط" قياساً ب "شعر الانحطاط" وليس في التسمية أي تجريح، بل احالة إلى مصطلح نقدي متعارف عليه. يجمع الأسلوب بين الاستعراض الاستهلاكي، والعظة الفكريّة التي تثقل برمزيّتها الحبكة الدراميّة... ويرزح العرض تحت عبء مؤثرات مشهديّة من تمثيل وملابس وديكور واضاءة... لا تخجل من التضخيم والاسراف والمبالغة، ولا تخاف من الغرق في "الكيتش" في أكثر حالاته ثقلاً وبلادة. والقضيّة برأينا نابعة من سوء تفاهم ثقافي، بين فئة من فناني المسرح منغلقة على مفرداتها وجماليّتها ونجوميّتها، لم تفهم أن قرناً مضى على المسرح الأكاديمي، تغيّرت خلاله مفاهيم الفرجة عشرات المرّات. والغريب أن يقع هناء عبد الفتّاح الذي احتكّ بالمسرح البولوني وعايشه عن كثب، في مثل ذلك المطبّ القاتل. أما عودة الطيّب الصديقي إلى تونس، فلها مذاق خاص باجماع أهل المهنة والنقد، بمعزل عن القيمة الفنيّة والابداعيّة لعمله الأخير "قفطان الحبّ المرصّع بالهوى" مسرح الناس/ المغرب. فما أن يقف هذا الرجل، بقامته الضخمة، وتلك العصبيّة الهادئة التي تميّز اداءه، حتّى تخيّم على الخشبة حالة خاصة، تعيد إلى الذهن السنوات الذهبيّة للاحتفاليّة في المسرح العربي، أيّام "المجذوب" و"التوحيدي" وغيرهما. الصديقي حاضر في عمله كما المايسترو، أو محرّك الدمى، فالشخصيات الأخرى خاضعة لسحره، يحرّكها، ويوجّه الحكاية، ويعلّق، ويخاطب الجمهور كما يحلو لهذا الحكواتي الفريد من نوعه. ويدور العمل نفسه حول حكاية من المفترض أنها غرائبيّة وممتعة: الحاج شريف في رحلته الطويلة إلى حنبلوس، يبحث عن القفطان الغريب الذي طلبته منه صغرى بناته. يستحضر الصديقي كل تقنيات الفرجة الاحتفاليّة، من سرد وتشخيص وملابس وغناء وأسلبة في الديكور والاداء، لكنّ العمل يفتقر إلى شيء ما، في كيميائه الحميمة، كي يستأثر بانفعالاتنا ويقودنا إلى المتعة التي يحقّ لنا أن نتوقّعها لدى هذا الفنّان المغربي المميّز. معزوفة بصريّة تتجرأ اللبنانيّة سهام ناصر على مواجهة رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"، لتكثّف أحداثها وشخصيّاتها، وتعيد تقطيعها وتوليفها مشهديّاً ودراميّاً، وتقدّمها ك "معزوفة بصريّة" تستوحي موسيقى الجاز من هنا عنوان العمل: "جاز"، انتاج وزارة الثقافة اللبنانيّة، ومهرجان "أيلول". وتركّز على الرؤيا الكابوسيّة التي تبرع في صياغتها مسرحيّاً منذ "الجيب السرّي" التي عرفت مطلع التسعينات نجاحاً عربياً وعالميّاً واسعاً. تعمل ناصر مع ممثّلين معظمهم من طلبة معهد التمثيل أو خرّيجيه: فاديا التنير، نجيب زيتوني جائزة أفضل ممثل واعد، شيرين كرامة، نانسي نعّوس، بديع أبو شقرا... وتحمل تجربتها من ناحية الأسلوب والبحث الجمالي شيئاً من "حداثة الستينات" في بيروت. تتواتر في العرض عناصر السرد والتمثيل، وتحوم الأشباح والأطياف الدوستويفسكيّة بامتياز حول هذا البطل الملعون راسكولنيكوف في هبوطه إلى أدنى دركات البؤس والشقاء... الشخصيات الأخرى تحضر كعناصر بصريّة، بلاستيكيّة، في لوحات متعاقبة تتعمّد التكرار والاعادة والتنويع على أساس النغم الأساسي، كما في موسيقى الجاز. لكنّ رؤيا سهام ناصر، البصريّة أساساً، تأسر العمل عند حدود تجريبيّة، خارجيّة. اذا أخذنا جانب ادارة الممثلين، على سبيل المثال، نجد أن الاداء يبقى ميكانيكيّاً، حسب ارادة المخرجة، ونادراً ما يعمل الممثلون على تطوير الشخصيات واعطائها كثافة شعوريّة ونفسيّة. ذلك أن البنية المشهديّة نفسها لا تتيح لهم تلك الفرصة، ولا تطلب منهم مثل هذا الجهد. وهذا لا يمنع أن "جاز" كانت من المحطات الممتعة في تونس هذا العام. شباب المسرح التونسي ونصل إلى المسرح التونسي الذي وفّر لنا المهرجان فرصة إلقاء نظرة بانوراميّة على مختلف روافده ومدارسه وأجياله. ولا بدّ هنا من التذكير بأن نجاح "أيّام قرطاج" في احتلال موقع الصدارة عربيّاً، يعود أساساً إلى هذا المناخ المسرحي الخاص الذي تنضح به العاصمة التونسيّة، بفضل تقاليدها المسرحيّة وفنّانيها الطليعيين وجمهورها. لكنّ الغزارة، المطمئنة للوهلة الأولى، لن تمنعنا من دقّ ناقوس الانذار: هناك حاجة ملحّة إلى مزيد من "التهوئة" والانفتاح وتجديد السجال الثقافي، للحفاظ على روح الابتكار والتجاوز التي طالما ميّزت المسرح التونسي الطليعي. ذلك أن انجازات الأمس قد تتحوّل عاماً بعد آخر، عبئاً على المبدعين، فيصبح هؤلاء أسرى مجموعة من الكليشيهات اليابسة، المستعادة بطريقة رتيبة قاتلة. لذا فإن أهل المسرح مطالبون اليوم، ومعهم المؤسسة الثقافيّة، باعادات نظر جذريّة في مكتسباتهم، وبالنزول إلى المعمعة لمواجهة "الخطر" ورفع "التحدّي" من جديد كما فعلوا في العقود الماضية... وفي سياق أعمال الجيل الجديد للمسرح التونسي نشير إلى "بهجة" منير العرقي / جمال المداني، وإلى "الريتسي" لسعد بن عبدالله/ نادية بن أحمد... لكن اللافت بروز ثلاثة مخرجين جدد منحدرين من تجارب مكرّسة. فحسن المؤذّن الذي عمل ولا يزال كمساعد لمحمّد إدريس، قدّم في قرطاج عمله الأوّل "عدن... عدن" جائزة أفضل سينوغرافيا، وحاتم دربال الذي برز ممثلاً مع الفاضل الجعايبي قدّم "الليالي البيض" جائزة أفضل اضاءة مع ثلاثة ممثلين آخرين منحدرين من التجربة نفسها، وسليم الصنهاجي فاجأ الجمهور الذي عرفه مدير اضاءة في أبرز مسرحيّات العقد الأخير، بعمل أوّل مع رفيقة دربه صباح بوزويتة. ويقدّم الصنهاجي من خلال مسرحيّته هذه "سفر"، لم تشارك في المسابقة الرسميّة، تحيّة إلى تجارب الجيل الذي سبقه، من توفيق الجبالي إلى الفاضل الجعايبي، مروراً بالراحل رشاد المنّاعي. يعمل المؤذّن الذي رافق طويلاً محمد إدريس، "شاعر المسرح العربي"، على علاقة الشعر بالدراما من خلال نص يستوحي سيرة آرتور رامبو. يصوّر العرض الشاعر الفرنسي محمد علي المداني بعيداً عن عدن، في مارسيليا عشيّة موته، مستعيداً لحظات أثيرة من حياته، ومواجهاً أطيافه من أستاذ الأدب الذي نقل إليه لوثة الشعر إلى لوسيفيروس وباندورا... ويركب على متن "السفينة التائهة" التي تنقله فوق أمواج رؤاه المحمومة إلى عالم آخر. وعلى رغم سكونيّة الايقاع المقصودة، يبدو المخرج وقد أتقن أمثولة معلّمه، وبات قادراً على تطويع الاضاءة والسينوغرافيا والظلال والملابس لخلق مناخات بصريّة غنيّة. أما حاتم دربال الذي عرفناه ممثلاً في "عشّاق المقهى المهجور" و"سهرة خاصة"، فيخوض في "الليالي البيض" انتاج فرقة مدينة تونس، تجربته الاخراجيّة الثانية مع أمال الفرجي التي عملت مع الجعايبي أيضاً، شأنها في ذلك شأن شيماء بن شعبان جائزة أفضل ممثلة واعدة ورمزي عزيز. وتخيّم ظلال الجعايبي على مناخات العمل، وأسلوب الاداء، والفضاء المشهدي سينوغرافيا قيس رستم، والبنية الدراميّة النصّ لشيماء بن شعبان لكنّه تشكّل على الخشبة خلال جلسات الارتجال. لكنّ العمل بحد ذاته يحمل ملامحه الخاصة ومشروعه، ويقدّم طاقات تمثيليّة ومسرحيّة مميّزة. ولا شكّ في أن رباعي "ليالي الخريف" التي تستحقّ معالجة نقديّة على حدة، استوعب الأمثولة الأساسيّة من التجربة مع الجعايبي، بدءاً بعمليّة البحث الشاقة ووصولاً إلى امتلاك اللغة المشهديّة والسيطرة على مختلف روافدها التقنيّة والفنيّة. وهذا وحده ليس تفصيلاً بسيطاً في راهننا الثقافي والمسرحي. ولادة مخرج ولعلّ مسرحيّة "سفر" هي من أجمل مفاجآت "أيام قرطاج"، مع العلم بأن الصنهاجي قدّمها قبل أشهر في مدينته، ومع أخذ كل التأثّرات الخارجيّة في الاعتبار. ففي العمل الكثير من عبثيّة الجبالي الهاذية في النصّ، ومن تركيبة بعض شخصيات الجعايبي ومناخاته شاركت صباح بوزيتة في مسرحيّة "فاميليا" في صيغتها الأولى، كما يبدو نعمان حمدة "عشّاق المقهى المهجور" متأثّراً بالممثّل البارز كمال التواتي الممثّل الآخر الهادي عبّاس نكتشفه للمرّة الأولى على الخشبة، وحتّى الديكور يذكّر للوهلة الاولى ب "مذكّرات ديناصور". لكنّ المسرحيّة تنجح في خلق حالة شعوريّة خاصة، إذ تمكّن مخرجها الشاب من تحويل الروافد البصريّة والتمثيليّة إلى لغة خاصة به. كما يكشف عمله عن رهافة بصريّة في رسم الفضاء وتقطيعه، وعن مهارة تقنيّة أكيدة في ضبط العرض بكل آلياته، لتقديم فرجة ممتعة، شيّقة، وتحريضيّة على أكثر من مستوى، تستحضر بيكيت ويونسكو وماغريت وآخرين. نحن في حديقة مستشفى أمراض عقليّة - إذا شئنا - أو في أي مكان آخر غير محدد المعالم. فمعظم الأشياء هنا غير محدد المعالم، وحتّى الحوارات قد توحي بالشيء وبنقيضه. وفي هذا العالم الذي ضاع فيه المنطق، واختلطت العذابات، وسادت الحيرة واللاجدوى واللامعنى، تستدرجنا الشخصيّات الثلاث - بايقاع شعوري مضبوط - إلى رؤاها الهاذية التي تحتمل كلّ التأويلات مع انّها لا تقول شيئاً. ويساهم الغنى البصري، والشغل على الاضاءة، وميكانيكيّة الحركة السينوغرافيا والاضاءة بتوقيع المخرج نفسه في اقحامنا داخل هذا الاطار الجامد، الخانق، الذي لا خلاص منه إلا بالاسراف في الجنون. بهذا المعنى يخيّل للمرء أحياناً أنّه أمام مسرحيّة سياسيّة هي ابنة لحظتها بامتياز. لقد شاهدنا في تونس قبل أيهام ولادة مخرج، ولا شكّ في أن سليم الصنهاجي كتب النصّ مع صباح بوزويتة، هو خير وريث للمدرسة الطليعيّة التونسيّة، لذا نطالبه بعدم التوقّف عند هذه المرحلة، على رغم النجاح الذي حققه بين أهل المهنة والضيوف، وعلى رغم الدعوات التي بدأت تنهال عليه من المهرجانات الأوروبيّة! فلا بد له من تجاوز الارث للاهتداء إلى مفرداته الحميمة ولغته الخاصة. تبقى العروض التونسيّة المكرّسة، بدءاً ب "البحث عن المركز المفقود" رقص لنوال اسكندراني، ومروراً بأعمال المنصف الصايم المنشار الحائر، ومحمد إدريس حدّث، وتوفيق الجبالي ضدّ مجهول التي سنتناولها في العدد المقبل