هناك في حياتنا الثقافية العربية قضايا، كأفعى البحار، ما أن نظنّها أقفلت نهائياً، وحُسمت بعد أن استوفت حقّها من النقاش والمعالجة، حتّى تظهر من جديد، وتعود بنا إلى نقطة الصفر... وبين هذه "القضايا العالقة" التي تعود بين حين وآخر لتقسمنا إلى قبيلتين متناحرتين، قد تحتلّ اشكالية النصّ المسرحي موقع الصدارة. منذ عقود توصّل المسرح في العالم إلى علاقة متكافئة، متوازنة، قائمة على التفاعل العميق بين مؤلّف النصّ المكتوب مخترع فضاء الرؤيا، وقارئ هذا النص مشهدياً، مستخرج العناصر التي تربطه بجمهور محدّد "الآن وهنا": أي المخرج، مؤلّف "النصّ الآخر". أما في العالم العربي، فلا يزال النقاش عند النقطة نفسها: الكتّاب يشكون من تجاهل نصوصهم، ومن تغييب النصّ المكتوب بشكل عام، معتبرين أن تلك النزعة تنعكس على العرض سهولة وركاكة ومجّانيّة. لكنّ تصفية الحسابات في الندوات والكلام المسموم فوق المنابر العامة، لا يغيّران شيئاً من إعراض المسرح الطليعي عن أعمالهم. فالمخرجون - لا سيّما المتحدّر بينهم من جيل السبعينات، جيل القطيعة - يقولون بإفلاس النصوص المحليّة والعربية. ويقع البعض منهم في مطبّ خطير حين يلجأ إلى نصّ من التراث العالمي فيمعن فيه تهشيماً ويقدّمه بتصرّف كبير، بحيث لا يبقى من الأصل إلا الاسم أو أضغاث أحداث وشخصيات! فيما يفضّل البعض الآخر تقنيات الارتجال و"التأليف الجماعي"، والأصحّ أن نقول: "التأليف الميداني بإشراف المخرج". ولا شكّ في أن مهرجان "أيام قرطاج المسرحيّة" التي يتمّ افتتاحه يوم 19 تشرين الأوّل أكتوبر بعمل الفاضل الجعايبي الجديد "عشّاق المقهى المهجور"، سيكون ساحة لهذه المواجهة. بل انّه سيعقد أساساً تحت راية المواجهة. فالمدير الجديد للمهرجان هو الكاتب عزالدين المدني، وهي المرّة الأولى التي يشرف فيها أديب على تلك التظاهرة البارزة أغلب الدورات السابقة أدارها المخرج المنصف السويسي. ومن عنوان الندوة الفكرية المخصّصة ل "الكتابة المسرحية"، نستشفّ هجوماً ضمنياً على المسرح الطليعي التونسي الذي دفع فنّانوه القطيعة إلى أقصاها، باحثين عن أقاليم عذراء وفضاءات للابتكار جعلتهم يحتلّون اليوم موقع الريادة على الساحة العربية. قد نلوم بعض المسرحيين على اصرارهم احتلال كل المواقع في المعادلة المشهديّة: من التأليف إلى التمثيل مروراً بالاخراج والاضاءة والسينوغرافيا. فتقاطع المواهب والتجارب من شأنه تفادي الوصول إلى المأزق والاصطدام بالجدار المسدود. والانفتاح على النصوص الجاهزة - إذا كانت مميّزة!! - لا بدّ أن يشرّع الخشبة على فضاءات ابداعية وتفاعلات خصبة. لكن كيف ننسى أن المسرح العربي رزح طويلاً تحت عبء الأدب والخطابة والوعظ والفصاحة؟ وأن كثيراً من النصوص العربية المطروحة ليست إلا امتداداً لذلك المسرح المدرسي الميت؟ وأنّ ركام الكلمات البليدة يتهدّد النهضة الهشّة التي نشهدها منذ عقدين أو أكثر. فالعرض لغة حركيّة بصريّة، طقس واحتفال محورهما الجسد. والجسد في المسرح العربي لا يزال يبحث عن ملامحه ومعناه، لا يزال ينتظر النصّ المناسب...