صباح الخير أيها القرن الوعد، صندوقك البريدي، مهما كان شأنه، عادياً أم الكترونياً أم صوتياً، سيحتشد بالرسائل، أو أنه ابتدأ من قبل بالامتلاء، يحمل الشكاوى والأمنيات ويحملّك الآمال، تقترب منك بل تتقرب اليك كأمثولة ترنو اليها أرواح البشر، فكأنك الساحر، يخرج من جعبته العجائب والمعجزات، وتحج اليك النفوس بالتضرع والابتهال، أن تمدّ لها يد العون، فتصنع النصر للخاسرين وتملأ الصحون للجائعين وترد الأرض للمشردين وترش العدل على المظلومين، وتزيد من قوة الأقوياء وتمنح شهادات التفوق للمنتصرين. تفجّر الصخر وتشق أبواب السماء، فلا يكون الماء عزيزاً، وترتق ثقب الغلاف الجوي لتمنع ضرر الأشعة الفاتكة، وتقف في وجه الصحراء الزاحفة على الأراضي المزروعة، وتزيد من خصوبة التراب كي يكفي الغذاء كل البشر، ويلهم الدول ان تزيد من فعالية عقول علمائها كي تختفي الأمراض الفتاكة ويصبح الجسد البشري أقوى من عدوانية تلك الأمراض، فلا يكون توقف الحياة وقفاً على جرثومة خبيثة أو نقص في المقاومة أو شجر في غذاء، كما لا يكون هناك تعسف لمستبد أو طغيان لحاكم. مقاومة المرض تكون باجتهاد العلم والتجارب المتتابعة، أما مقاومة التعسف والطغيان فتكون بانتشار العدل والمساواة، وباتقان فهم الديموقراطية وتمثّل دروسها وهي تتراكم من أسفل الهرم الاجتماعي صعوداً الى قمته، فبالمعرفة المشاعة والوعي المتحرر تصبح المجتمعات البشرية مؤهلة لدخول سباقك نحو الأزمان الآتية. أيها القرن الحائر، اعلم أنك تقف في نقطة التخطي، متجاوزاً قرناً مضى، متطلعاً الى زمنك الجديد، تقف حائراً تحكمك رغبة في متابعة منجزات قرننا العشرين، أو انك تريد تخطي اخطاء هذا القرن لتبدأ مسيرتك نظيفاً شفافاً محققاً حلم البشرية في السلام وانتفاء الخوف من المجهول وفي العدل والديموقراطية، أي انك تقف في لحظة الاختيار الصعب: ان تتابع مسيرة ايجابيات القرن الذي سبقك، أو تقع في خطأ سلبياته. وماذا عن ايجابيات سلفك من قرن مضى؟ نعترف بأنها كثيرة وتراكمية ومتسارعة النمو، ويمكن استعراض أهمها في ما يلي: - تراكم المعرفة الانسانية وازدياد القدرة على إظهارها وتفاعلها مع الحياة والانسان، كما تزايدت الاهمية المتعلقة بعمليات التعليم ونقل المعارف، ذلك من أجل التخفيف من آثار الأمية المعرقلة لمسيرة التقدم، كما ان القرن شهد يقظة الثقافات المحلية والاقليمية في محاولة للحفاظ على خصوصيتها لإظهار عبقرية التعدد الثقافي الكونية. وبالرغم من التقارب السريع بين الثقافات المحلية لتصب في بحر الثقافة الشاملة، فإن التفرد بات علامة تميزٍ قد تبشر بالغنى الثقافي في الأزمات القادمة. - تطور التكنولوجيا الهائل، وقد تجلت فيه القدرة الكبيرة على استخدام المخترعات بشكل تطبيقي، بالإضافة الى تأسيس مبادئ تنظيمية لمجريات الأمور في معظم المجالات، وبالرغم من تباين مستويات التكنولوجيا، فقد أصبح معظمها متاحاً للشعوب، كما ان الدول استطاعت ان تجني ثمارها في تنفيذ المشاريع الكبرى، فاختصرت من الزمن ومن طاقة العمل البشري وبانت المنجزات الثقافية والعلمية سريعة الانتشار، وبات التعامل والتفاعل معها من مسلمات المجتمعات والحداثة المطلوبة. ولعبت وسائل الاتصال دوراً مهماً في التبادل المعرفي والثقافي والاقتصادي بين الشعوب، ودفعت بمعظم الدول الى الانضمام الى القرية الكبرى التي هي الكون الواسع. - تفجر الانجازات العلمية وبخاصة الطبية في سياق مقاومة الأمراض وطرق العلاج، كما ان غزو الفضاء أسس اسلوباً مدهشاً في اكتشاف جوانب من الكون، فكانت البداية التي ستفسح المجال أمام خطوات أكبر في المستقبل. وكانت الإبنة الشرعية لثورة التكنولوجيا والانجازات العلمية، تلك الظاهرة الساحرة التي سميت بالمعلوماتية، وهي التي تعبد الطريق أمام انتشار المعلومات والحقائق، وكذلك سهولة الحصول عليها، فانكشف ستر المعرفة لتصبح وكأنما الثقافة الشعبية السائدة القادمة، فبات المجال منفتحاً على أوسع أبوابه على العقل البشري ان يكتسب ويعطي. كذلك يمكن ذكر أهم النقاط السلبية للقرن الذي مهّد لك قدومك، وذلك في استعراض أهمها وأبرزها: - ضراوة الحروب، الكبيرة منها والصغيرة، وتشجيع وسائل الخراب والدمار. فلقد شهد القرن حربين كونيتين ومئات الحروب المحدودة، فكانت الضحايا البشرية والحضارية لا يعادلها في الحجم سوى تطور اجهزة الخراب والتدمير، فكأنما كان هناك سباق بين الموت والتخريب والمجاعات، وبين نشاط الأدمغة في تطوير اجهزة القتال. وقد تكون الحروب الذرية والكيماوية والجرثومية هي ما يسفر عنه صندوق "باندورا" العصري، وان تدمير البيئة التي تحتضن البشرية قد وُضعت له أسس وقوانين لا يعادلها ما يفعله الانسان في البناء الحيوي لهذه البيئة، فهل هناك علائم قاسية لبداية حقيقية في اختلال التوازن؟ - ظهور فاجع لاستمرار "التعصب" بكل أشكاله، مما يثير التساؤل حول قيمة الأفكار المستنيرة والمبادئ العظيمة التي جاءت بها فطرة الأديان والفلسفات وعقول المفكرين والأدباء. فلقد شهد العصر حمّى التعصب الديني والعقائدي والعرقي، مما قلب المفهوم الانساني الفطري في التآخي والتسامح والانفتاح على الآخرين، واختلط مفهوم "الطبيعي" مع "التعسف العقلي"، وتطور، بالرغم من احتمالات الغياب، مفهوم عبادة الماضي أو عبادة السكون الذي يحاول مفهوم "التقدم" دوماً ان يتجاوزه. - سيطرة القوة في تجلياتها المسلحة للسيطرة على الكون والشعوب ليختل توازن المجتمع الدولي، فحاولت القوى المتقدمة ومن ثم الثنائية ومن بعدهما المتفردة ان تمسك بزمام مفهوم التفاوت بين البشر، بالرغم من المحاولات المستمرة للمساواة في ما بينها، تفكيراً ومنظمات وتشريعات. ونتج من كل ما سبق ظاهرة تخزين وسائل الدمار بما يفوق أحياناً تخزين وسائل المنافع البشرية من غذاء ومعارف وقواعد أساسية لطمأنينة الانسان وتقدمه. فيا أيها القرن المقبل. الى أي كفة تميل؟ أهي كفة الايجابيات أم السلبيات؟ أم ان أيامك ستكون حبلى بمفاجآت تحلم بها البشرية، مثل تحقيق مبادئ سابقة في جعل الانسان حراً في مسيرته منذ الولادة؟ أو انك ستخلق شروطاً أفضل لتلقّي العلم حسب نمط جديد، يسهل انتشار المعارف المتراكمة، ويرسّخ أسس العدالة، فلا يعود هناك ظلم واقع على أفراد وشعوب؟ هكذا يصل الانسان الى حقه كشرط فطري، ويخضع العالم لقوانين لا تفرق بين البشر مهما اختلفت ثقافاتهم وعقائدهم وأحوالهم. هل ستعرف، أيّها القرن الآتي، كيف تختار ما يناسبك من "الماضي"، فتقبض على المفيد والثري وتتجاوز الساكن والفقير؟ هل سنشهد في زمنك هيمنة العقل المستنير، فتكون قرن ارستقراطية العقل والفكر وسمو الروح، فتصبح النزاهة مفتاح العلاقات بين الشعوب ويتكرس كل فعل لمصلحة الانسان؟ أيها القرن الوعد، أحلامنا الآن ليست لنا، ومطالبنا ليست لنا، فهل يمكن لك قبول تهويماتنا المثالثة لمصلحة أبنائنا والاجيال من بعدنا. هل يمكن لك ان تكتم السر فلا تشير الينا بتهمة الجنون؟ أفلا يحق لنا قليل من الجنون بعدما أثقلت علينا حوادث القرون المتعاقبة وكأنها تمتحن صبرنا الذي نبتهل ان يبقى لمن بعدنا!