يعتقد معظم مفكري الحداثة أن العقلانية من أهم نتائج عصر التنوير. تلك الثورة الفكرية التي كانت تجسيداً للتقدم العلمي والتقني والتحرر الاجتماعي والثقافي والتطور الاقتصادي والسياسي، الذي واكب التحولات البنيوية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثلما كانت حركة فلسفية تم تعميمها على جميع حقول المعرفة. وهي حركة تعود في أصولها الى فلسفة الطبقة الوسطى منذ ديكارت وكانت وحتى هيغل وماركس، تضمنت رؤية عقلانية شمولية للعالم ووعياً زمنياً مزدوجاً بالذات وبالعالم يتجاوز نفسه باستمرار، وهو ما يجعله نموذجاً غير ثابت ومستقر نسبياً، وفي هذا يكمن انفصامه. غير أن نقاد الحداثة يرون بأن المبادئ التي دعت اليها العقلانية بحماسة شديدة بقيت افكاراً مجردة، بعد أن تحول العقل العلمي - التقني الى ايديولوجيا متسلطة. وفي قراءة متأنية لمسيرة العقل والعقلانية في الفكر الفلسفي والاجتماعي منذ القرن الثامن عشر يلاحظ المرء أن العقل أخذ ينمو نمواً فريداً ويتحول الى عقل تقني. فهل أدى عصر التنوير الى تأخير العقل؟ يقول نقاد الحداثة ان المبادئ التي دعت اليها العقلانية بقيت أفكاراً مجردة ولم تطبق في الواقع، لأنها لم تحترم الفروق بين الثقافات وأدت في الأخير الى امبريالية ثقافية وتمركز أوروبي على حساب الذات والى توسع استعماري وتطور نظام رأسمالي شمولي. فهل أصبحت العقلانية نزعة أبوية اخضعت الطبيعة والانسان الى هيمنتها مثلما خضع لها العلم والتقنية؟ وبدلاً من أن تغمر الطبيعة بحبها نجدها تسعى جاهدة للسيطرة عليها وتدميرها بدعوى انها قادرة على توفير السعادة الحقيقية للبشرية. يقول هوركهايمر: "لقد نمت هيمنة العقل من خلال تقدم العلم والتقنية وبواسطة نظام بيروقراطي رشيد وفي جميع مجالات الحياة، وتحولت عقلنة الأشياء الى نظام كلي وإلى بيروقراطية مخيفة، حتى اصبحنا نحس بثقلها تماماً". ففي المجتمعات الصناعية اصبح المرء ينظر الى الأشياء من زاوية واحدة: هل هي مربحة أم لا؟ وبذلك تحول البشر الى مجرد آلات عمياء من أجل ضمان فاعلية الانتاج وإعادة الانتاج والتوزيع والاستهلاك. والحال، ان ما انتجته العقلانية التقنية ليس سوى تصنيع وتمدن وبيروقراطية، كل هذه الأشياء كانت قد تطورت بحسب مناهج وضعية لاعقلانية. أما أدورنو فيقول: "لقد أصبح العقل يتعامل مع الأشياء كما لو كان ديكتاتوراً، فهو لا يعترف بالأشياء، إلا حين يحس أنه قادر على أن يتلاعب بها، بحيث يتحول الناس الى أشياء، لكي يخضعوا لديكتاتورية العقل تماماً". من الممكن أن تكون العقلانية انسانية حين تتجه الى تنظيم المجتمع تنظيماً عقلانياً رشيداً يقوم على الحرية والعدالة والتقدم، ولكن من الممكن أيضاً أن تكون العقلانية كليانية حين تنفصل عن الانسانية وعن النقد، لأن العقلانية هي في أساسها فلسفة نقدية. ومن هنا نلاحظ أن للعقلانية وجهين: واحد ايجابي وآخر سلبي. والحال ان ليس هناك ما يدعى ب"العقل الأداتي" المطلق الكلي، المكتفي بذاته، كما ان "العقل الخالص" الذي دعا اليه عمانوئيل كانت، ليس سوى "اسطورة خاطئة". والحقيقة ان رواد مدرسة فرانكفورت كانوا أول من دعا الى انقاذ العقل من براثن الهيمنة التي فرضتها الوضعية والامبيريقية التي أفسدت العقل الغربي وحولته الى عقل أداتي، منطلقين من النظرية النقدية التي وضعت العقلانية على محك التساؤل والشك. وما كوارث القرن العشرين، من الحروب العالمية والأهلية والاستعمار والكوارث البيئية إلا من نتائج تلك الهيمنة اللاعقلانية على العالم. في كتابه "كسوف العقل" ذكر هوركهايمر أن هناك تدميراً ذاتياً للعقل من جانب العقل نفسه، فالعقل يرفض "اللاعقلاني"، ولكن "اللاعقلاني" هو رفض للوجود والحياة. وحين يخفي العقل لاعقلانيته ويعلن وجهه العقلاني فقط، فإنه يقوم بتقوية وتنمية لاعقلانيته نفسها بحيث تصبح جنوناً، وعلى المرء أن يكشف عن جنون العقل وأن يعريه. وكان مفكرون قدماء ذكروا أن الفلسفة هي اشكالية معقدة لموضوعين هما: الحكمة والجنون. ومن هنا يكمن فهم ابعادها ومفارقاتها. وهذا المعنى يتطابق مع مثل عربي قديم يقول: "ليس بين العبقرية والجنون سوى شعرة". و،مع ذلك، "فاللاعقلانية" تقف دوماً ضد العقل، لأنها فوضى، حتى لو اعتبر نيتشه "بأن اللاعقل هو المصدر الأصل، ففي كل مكان يكاد يكون الجنون هو الذي يفتح الطريق أمام الفكر الجديد". أو مثلما قال افلاطون من قبل "الجنون هو الذي جلب الخيرات الى الاغريق". ان الاقتناع بأن كل الناس متساوون في الأصل، وعقلاء طيبون، أدى الى ايمان كبير ومفرط بالتقدم العلمي والتقني، وكذلك بفاعلية التعلم، وقدرة الاصلاحات الاجتماعية على تحقيق السعادة والرفاه الاجتماعي. غير أن الاعتقاد بالتقدم والسعادة أصبح مشكوكاً فيه اليوم. على رغم ذلك ما زال الاعتقاد بذلك يشكل عصب الايديولوجيات الكبرى التي تقرر مصير العالم. واتبع رواد ما بعد الحداثة آراء مدرسة فرانكفورت في نقدهم لعقلانية الحداثة، إذ اعتبروا "ان العقل اصبح وكأنه جثة هامدة لا روح فيها"، وان ما قدمه عصر التنوير من افكار ليست سوى أصوات موتى وحكماء سردوا علينا روايات خيالية. كما قام ميشيل فوكو ودريدا وديلوز بمحاولات واسعة لنقد العقل الغربي وتعرية سلطته وهيمنته في تاريخ أوروبا، حيث حاول فوكو أن يثبت أن هذا العقل ليس بريئاً الى درجة أنه يوهمنا بذلك، وانه ليس عقلانياً كما يدعي، وإنما هو متورط في الهيمنة والتسلط، وانه سرعان ما تحول في لحظة من اللحظات، من عقل تنويري الى عقل قمعي مهيمن على الوجود الاجتماعي. كما يشير فوكو، الى أن العقل هو تنويري واستبدادي في آن، فالعقل الذي خلق مبادئ حقوق الانسان هو نفسه الذي خلق الاغلال التي كبلت تلك الحقوق والحريات. ماذا تعني ثنائية العقل؟ وهل هو ثناء يحمل في طياته نقيضه، أم هو غموض وتلاعب بالألفاظ؟ ليس هذا ولا ذاك. ففي سبيل الرشد، كما يقول كانت، تسقط جميع انواع الوصاية. وليس أمام المرء إلا أن يرفع شعار التحرر، تحرر الانسان من الوصاية والتسلط والقهر، تحرر الفكر والعلم والتكنولوجيا، وتحرر الشباب والمرأة، وجميع أنواع التحرر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. ولكن التساؤل الأهم هو: هل يمكن أن يتحرر عقلنا نفسه؟ يجيب هوركهايمر، بأن هناك شكاً في أن يكون عقلنا متحرراً ما دام هناك أوصياء عليه. ولنعد مرة أخرى الى السؤال المحوري: هل أدى عصر التنوير الى تأخير العقل؟ وللاجابة على ذلك على المرء أن يميز بين مفهومين اساسيين من مفاهيم عصر التنوير هما: التقدم الأخلاقي للقرن الثامن عشر والتقدم الاقتصادي للقرنين التاسع عشر والعشرين. ويقول هوركهايمر في "كسوف العقل": "لن يستطيع العقل تجسيد نفسه إلا حين يقوم بإلغاء المطلق المزيف، الذي هو مصدر كل هيمنة عمياء". وبمعنى آخر، فالعقلانية التي طالب بها عصر التنوير يجب أن تكون انسانية أولاً وأخيراً، وهذه هي احدى أهم سمات وأهداف عصر التنوير الكبرى، التي جسدت التقدم والتحرر الحقيقي وليس الزائف. * كاتب عراقي.