إذا كانت الحرب العسكرية في لبنان انتهت رسمياً العام 1989، بعد اتفاق الطائف الذي توصل اليه النواب اللبنانيون في المملكة العربية السعودية برعاية عربية ومباركة دولية وانتهت فعلياً اواخر العام 1990 بالقضاء على التمرد الذي قاده رئيس الحكومة الانتقالية ميشال عون، فإن الصراعات السياسية بخلفياتها الطائفية والمذهبية التي ادت الى تلك الحرب لا تزال موجودة ولم تلغها التسوية السياسية التي تضمنها اتفاق الطائف لا بل انها رجحتها خصوصاً في ظل الثلاثية الرئاسية المتداخلة مع بعضها سواء مورست رسمياً كما حصل اثناء العهد الطويل للرئيس الياس الهراوي او اعلن الغاؤها رسمياً مع بداية العهد الرئاسي الحالي قبل حوالي 10 شهور. كما ان احداً لا ينكر ان استقرار الوطن اللبناني رهن بالانطلاق من اتفاق الطائف الذي اعتبره كل الاطراف اللبنانيين اتفاق الضرورة من اجل التفاهم على صيغة نهائية تؤمن العيش المشترك الاسلامي - المسيحي وتحقيق العدل والمساواة بين اللبنانيين على رغم تنوع انتماءاتهم السياسية والطائفية والمذهبية. هذه الامور كلها تلمسها الجهات الاقليمية المعنية بلبنان، وفي مقدمها سورية. وتلمسها ايضاً الجهات الدولية المعنية به ايضاً وفي مقدمها الولاياتالمتحدة وأوروبا وتحديداً فرنسا. لذلك تحاول عبر اتصالاتها المستمرة مع الاطراف اللبنانية معرفة الصيغة التي تعتبر الافضل للبنان التي ترسخ الاستقلال وتثبت السيادة وتكرس الديموقراطية وتحترم الخصوصيات الطائفية والمذهبية من دون ان يكون ذلك على حساب الولاء للوطن. والواضح ان التطورات اللبنانية أسفرت عن صيغتين او بالاحرى عن مفهومين للنظام الذي يفترض أن يعيش اللبنانيون في ظله متناقضين الى أبعد الحدود. وقد أربك ذلك الجهات الاقليمية والدولية المعنية لا بل حيرها لأنها ادركت استحالة اجتماع اللبنانيين على امر وان كان وطنياً وجوهرياً. والصيغتان او المفهومان المتناقضان هما: 1- الحكم الصارم والقاسي الذي لا يمس النظام الديموقراطي البرلماني من ناحية الشكل اذ يحافظ على مؤسساته ويبقى الانتخاب وسيلة لاختيار اعضاء مجلس النواب ولا يمس وجود الاعلام لكنه يمس النظام من ناحية الجوهر، اذ يرتكز على تكاثر الاجهزة الامنية وتدخلها في الانتخابات، سواء كانت بلدية او تشريعية او رئاسية، وفي النقابات والاعلام وفي الاحزاب، وفي كل شاردة وواردة. وحكم كهذا من شأنه اقفال الطريق في وجه النعرات الطائفية والاشكالات المذهبية ومعاملة كل الناس بمساواة وفتح الباب مستقبلاً امام انصهار وطني يؤدي الى ولاء للوطن على حساب كل الولاءات الاخرى. واذا عجز هذا الحكم عن فتح باب كهذا، وهو المرجح لأن الكبت والقمع لا يحل الخلافات بل يفاقمها، فإنه يبقى قادراً على تلافي المشاكل التي لا بد ان تثيرها هذه النعرات والاشكالات آنياً. 2- لبنان ليس صالحاً لقيام حكم ديموقراطي بسبب تركيبته الشعبية المعقدة القائمة على الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية والاقطاعية التي تحول النظام الديموقراطي مسخاً وعبئاً ومشكلة بدلاً من ان يكون حلاً. اذ تصبح الاحزاب ناطقة بلسان الطوائف والمذاهب وتبقى العشائر والعائلات الاقطاعية اكثر تمثيلاً على الصعيد الشعبي من اصحاب الكفاءات السياسية والعلمية. ولبنان هذا ليس صالحاً في الوقت نفسه لحكم صارم ادواته الاجهزة والعسكر سواء كان مقنعاً أو مباشراً لأن احداً من "القادة" المحتملين له لن يحظى بتأييد اجماعي من الطوائف والمذاهب والعشائر والعائلات الاقطاعية، وإذا نجح في اقامة الحكم الصارم فإن آخرين قد يسعون للحلول مكانه وقد ينجحون في ذلك فتنقلب المعادلات في الداخل ويتحول البلد من ساحة صراع سياسي الى ساحة حرب اهلية وصراع طائفي ومذهبي، لكن بواسطة الاجهزة، لذلك فإن الصيغة الافضل للبنان هي التي تنطلق من تشرذمه او بكلمة اكثر حضارية من تنوعه الطائفي والمذهبي والعشائري وتعترف بهذين التشرذم او التنوع وتكرسهما الامر الذي يبقي الوطن مشرعاً لخلافات جوهرية وبنيوية في الداخل وجاهزاً بكل فئاته لتلقي "المساعدة" من الخارج او لطلبها منه من اجل حسم الصراعات سواء بالضغوط او بالتدخل السياسي وأحياناً العسكري. هل المفهومان او الصيغتان اللذان توصلت اليهما الجهات المعنية بلبنان من اقليمية ودولية هما كالقضاء والقدر اللذين لا مرد لهما؟ قطعاً لا، على رغم الاعتراف بوجود مبررات جدية لكل منهما. ذلك انه في الامكان، اذا خلصت النيات عند اللبنانيين التوصل الى صيغة او مفهوم للوطن وللنظام يجعل الاول دائماً والثاني راسخاً. وهذان الصيغة والمفهوم يمكن ان يأخذا من "الحكم القاسي والصارم" اي العسكري المقنع او المباشر الصلابة في تنفيذ القوانين وفي وقف الاستثناءات وفي تطبيق العدالة على الجميع. ويمكن ان يأخذا من حكم "اتحاد الطوائف والمذاهب والعشائر والعائلات الاقطاعية" الاعتراف بخصوصية التركيبة الشعبية اللبنانية، لكن ليس من اجل تكريسها على حساب الوطن بل من اجل الافادة منها لبناء وطن يعتني بها ولا تتسبب له بالكوارث كلما اهتزت المنطقة. طبعاً ليس هذا الامر سهلاً على الاطلاق اذ يلزمه وقت وجدية والتزام وتصميم وارادة من اللبنانيين على تنوعهم وهدوء واستقرار اقليميان يمكنان بالرعاية الدولية اللازمة من النجاح في الوصول الى صيغة واقعية وطموحة في آن واحد وان غير متتالية. صيغة تعترف بأن لبنان "معاق" ولكن تسعى الى شفاء هذه الاعاقة مع الوقت، تماماً مثلما ينتظر المصابون بأمراض مستعصية تقدماً علمياً مهماً يمكنهم يوماً من الشفاء من هذه الامراض. صيغتان غير مرغوبتين ان عدم سهولة هذا الامر لا يعني ابداً السقوط في فخ الاستسهال اي فخ الحكم الصارم او اتحاد الطوائف والمذاهب والعشائر والاقطاع السياسي. لأن الحكم الصارم ليس مرغوباً في لبنان ولأن محيط لبنان وخصوصاً سورية تعرف ذلك وليست في وارد تشجيعه لأن مضاعفاته لا بد ان تطالها في يوم من الايام. ولأن العالم وفي مقدمه الولاياتالمتحدة لن يشجع ابداً حكماً في لبنان لا يحترم الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية. ولأن حكم "الاتحاد" المذكور يجعل لبنان قابلاً للاستغناء عنه اذا تكاثرت مشاكله وهددت جيرانه. وهذا امر ليس مقبولاً من اللبنانيين ومن غيرهم مما يجعل اللبنانيين امام طريق وحيدة وان طويلة في البحث عن الصيغة التي تحفظ حقوق ابنائه افراداً و "مجتمعات" ولا تشكل خطراً على الكيان والسيادة والاستقلال. لقد جرب لبنان حكم اتحاد الطوائف وكانت نتيجته حرباً مدمرة لا يزال يعاني آثارها حتى الآن. وجرب جزئياً الحكم الصارم او حكم العسكر المقنع وكانت نتائجه، على رغم بعض الانجازات، كارثة ايضاً اذ عبأت الوضع الطائفي والمذهبي وشحنته مما ادى مع اسباب وظروف اخرى الى الحروب بدءاً من العام 1975. ولبنان لم يعد في حاجة الى المزيد من التجارب، خصوصاً اذا كانت منطلقة من حسابات خاصة او في احسن الاحوال فئوية. فهل يعي العهد الحالي الذي لا يزال في مطلعه ذلك، ويقود لبنان على طريق التغيير الايجابي لا السلبي؟