المؤتمر الدولي الذي نظمته الجامعة اللبنانية الأميركية في جبيل لبنان بتاريخ 11 و12 تموز يوليو 1999، بالتعاون مع مؤسسة أوكسفام، ومؤسسة فردريش ايبرت، وجامعة كاليفورنيا، صدرت وقائعه في كتاب عنوانه "المواطنية في لبنان بين النظرية والتطبيق"، نشرته الجامعة المذكورة، وتضمن مقدمات منهجية حول خصوصية تجربة المواطنية في لبنان وتوزعت الأبحاث ضمن بابين: المواطنية في مجال بناء الوطن والدولة، والتربية والمواطنية، وجاءت الخاتمة في شكل ندوة حول المواطنية في لبنان. وفي اطار علاقة الخاص بالعام حفلت تجربة بناء المواطنية في لبنان ببعض السمات السلبية التي ظهرت كنتاج لعلاقة المواطن اللبناني بدولته غير المستقرة والتي وصفها أحمد بيضون في كتاب حديث له بعنوان "الدولة المتقطعة"، فهي تتعرض لكثير من الضغوط الإقليمية والدولية التي تساهم في عدم استقرارها كدولة حرة، مستقلة، ذات سيادة تامة على كامل أراضيها، لذلك يفقد التعريف النظري للمواطنية كمجموعة حقوق وواجبات يقوم بها مواطن حر الكثير من سماته الإيجابية، لأن الممارسة العملية تجعل انتماء المواطن اللبناني الى دولته ضعيفاً للغاية، لأنها عاجزة عن القيام بمهماتها الأساسية كدولة ذات سيادة غير منقوصة على كامل مواطنيها وكامل أراضيها، وهي عاجزة عن بناء دولة القانون والمؤسسات، كما هي عاجزة عن حماية حدودها الإقليمية المعترف بها دولياً، يضاف الى ذلك ان ممارسات النظام الطائفي المطبق في لبنان تساهم في تغليب الانتماء الطائفي والمذهبي والعائلي والمناطقي على الانتماء الوطني، وهي تروج لنوع من الديموقراطية التوافقية التي لا تساعد في تطوير التمثيل الشعبي الصحيح، ولا في الارتقاء بالعمل الحزبي الى مصاف الدول الديموقراطية المتطورة. ونظراً لهشاشة الانتماء الوطني وغياب دور الدولة التوحيدي تلعب العوامل الإقليمية والدولية دوراً أساسياً في ابقاء الصيغة التوافقية ضعيفة، كما تجعل لبنان بلداً مخترقاً على الدوام، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وتتحول الصيغ التوافقية فيه. كصيغة الميثاق الوطني لعام 1943، وصيغة الطائف لعام 1989، اتفاقات مرحلياً عرضة للجمود والتحجر، أو للتطبيق الانتقائي لبعض بنودها فقط. لذلك تكرس الخلل البنيوي في الصيغة التوافقية ليأخذ أبعاداً اضافية، خصوصاً بعد استنباط القوى الطوائفية المسيطرة لصيغ غير ديموقراطية بالكامل، كصيغة ترويكا الحكم، وتقسيم الدوائر الانتخابية بما يخدم زعماء الطوائف، والانماء غير المتوازن، وإفشال كل مشاريع الإصلاح الإداري والسياسي عمداً بهدف الإبقاء على نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية في الإدارة ومؤسسات الدولة، فالمواطنية في لبنان ما زالت تفتقر الى الوحدة الوطنية جامعة، وبالتالي لها خصوصية سلبية تطغى فيها الهويات المحلية الموروثة على الهوية الوطنية الجامعة، ونتج من ذلك تأزم ملحوظ في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في لبنان. غني عن التذكير أن الحروب الأهلية المستمرة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى الآن هي نتاج ذلك التأزم لكنها تحولت الى مسبب لديمومته طوال المراحل السابقة، وما يجعل الساحة اللبنانية أرضاً صالحة لمثل تلك الحروب المتواصلة أن تداخل الخاص بالعام، والمحلي بالإقليمي والدولي هو في لبنان أكثر منه حدة في أي بلد آخر لأسباب موضوعية ناجمة عن مشكلات بناء الدولة اللبنانية مع هاجس الحفاظ على خصوصيات الطوائف وموجبات بناء المواطنية اللبنانية على أسس عقلانية وعصرية. هكذا أصبحت الدولة اللبنانية نفسها موضع تساؤل مشروع بسبب تشكلها من مجموعات مختلفة الانتماءات ومتضاربة المصالح، وأصبح مفهوم المواطن اللبناني والمواطنية اللبنانية عرضة للتساؤل بسبب الاختلاف الجذري ما بين النصوص التي تساوي ما بين اللبنانيين - على تنوع انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية والسياسية والثقافية - في الحقوق والواجبات وبين الممارسة العملية التي تقزم حريات الفرد اللبناني الى الحدود الدنيا، وتجرده من كل منعة ما لم يحصن نفسه بالولاء للطائفة، والعائلة، والزعيم السياسي، وعلى رغم وجود أحزاب لبنانية عريقة وذات وجود تاريخي يرقى الى بداية تشكل الدولة العصرية في لبنان، وكانت لها برامج وتوجهات علمانية واضحة فإن أثرها بات الآن أقل بما لا يقاس عما كان عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، كما أن الدراسات العلمية المتميزة التي تناولت تطور المجتمع اللبناني الحديث والمعاصر على أساس مفاهيم الطبقات الاجتماعية، والصراع الاجتماعي، ودور مؤسسات المجتمع المدني، والتركيز على دور الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وغيرها قد تراجعت بشكل واضح منذ مؤتمر الطائف حتى الآن. أخيراً، برز العامل الديني بقوة في البنية السياسية اللبنانية عند نهاية الحرب الأهلية، وسيكون له دور أكبر بعد نجاح المقاومة في تحرير جنوبلبنان من الاحتلال الإسرائيلي والمتعاونين معه. ويطرح هذا الانتصار تساؤلات منهجية كبيرة حول علاقة الدين بالدولة وبالمجتمع في لبنان، ومدى قدرة المقولات القديمة كالعلمانية، والصراع الطبقي، والتمييز الجنسي أو الجندرة وغيرها على مجابهة المقولات التي تروج الآن لبناء المواطنية على أسس مستوحاة من الشريعة الإسلامية، إذ ليس بمقدور لبنان أن يبقى معزولاً عن تلك المقولات التي تعصف بجميع الدول العربية والإسلامية في هذه المرحلة السريعة التبدل في عصر العولمة الأميركية ومقولاتها، وبشكل خاص مقولة صراع الحضارات بدل التفاعل الحضاري، وذلك يؤكد على أن المسائل التي تواجهها المواطنية في لبنان هي في آن واحد مسائل خصوصية وعالمية، تاريخية وثقافية وسياسية. ومن الأهداف الأساسية لنشر ثقافة المواطنية في لبنان وغيره من بلدان العالم الثالث أن تتشكل لدى اللبنانيين مناعة وطنية تساهم في تماسك المجتمع اللبناني في الأزمات الحادة. وتلافي تفجير ما أمكن من الأزمات القابلة للانفجار في أية لحظة، وذلك يتطلب بذلك الكثير من الجهود التنموية، وتخطي السلوكيات الطائفية التي ازدادت حدة في ظروف الحرب الأهلية، ونجاح دولة القانون والمؤسسات في اعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم الحرة وذات السيادة الفعلية لا الشكلية على مواطنيها وكامل أراضيها، ومن الخطأ الترويج لمقولات خطرة ترى أن مجتمعاً يخرج لتوه من حرب أهلية بحاجة الى نظام عسكري يفرض القانون على الجميع بالقوة لأن حكم العسكر هو أقصر السبل الى الديكتاتورية وقمع الحريات الأساسية وسلب المواطن أبسط حقوقه في الديموقراطية وحرية التعبير عن الرأي، ومن الخطأ كذلك الترويج لمقولات ترى أن المواطنية في لبنان يمكن أن تبنى على أسس دينية أو مذهبية، فالمجتمع اللبناني مكون من 18 طائفة تجعل تلك المقولة مستحيلة التحقيق، لا بل تمهد الطريق لحروب أهلية مدمرة. ان مقولات المواطنية الصحيحة التي يحتاجها المجتمع اللبناني هي التي تعنى بالقبول بثقافة الآخر كما هي، وقبول الاختلاف معه، واحترام الرأي والرأي الآخر، والتضامن بين جميع اللبنانيين في مواجهة الأزمات، والإرادة على العيش المشترك، والإيمان بالأرض الوطنية الحرة ورفض أي شكل من أشكال الاعتداء عليها، ونشر قيم الثقافة الإنسانية المعاصرة، وتشجيع التفاعل الثقافي بين اللبنانيين، والارتقاء بالشعور الطائفي أو المذهبي أو العائلي الضيق الى الشعور الوطني الجامع، وبناء الدولة الحديثة على أسس سليمة تصون القوانين، تقيم العدالة الاجتماعية، وتطبق المساواة الفعلية بين جميع اللبنانيين في الحقوق والواجبات. بعبارة موجزة، ان الأسس النظرية الحديثة لبناء المواطنية تنطلق من مقولة بناء الدولة العصرية من منظور حقوق الإنسان أولاً، بمعزل عن الانقسام الجنسي والتمايز الطبقي واختلاف العرق واللون واللغة، فقد آن الأوان للخروج من مقولات نظام الملل العثماني التي ما زالت سائدة بقوة في جميع الدول العربية ومنها لبنان، الى دولة المواطنية الحقة، والمساواة التامة، والمجتمع المدني الفاعل، كذلك آن الأوان للخروج من مقولات الخطاب الأبوي أو الذكوري السائد الذي لم تستر علمانية أو يسارية أو اشتراكية القائلين به أوهام النخب العربية المعزولة التي لم تساهم عملياً في تطوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مختلف الدول العربية، فقد بقيت مقولات تلك النخب أسيرة خطب حماسية لإيديولوجيات قومية واشتراكية واسلامية، وهي مقولات شمولية وشعبوية لا يمكن أن تجد تطبيقها العملي في لبنان. * مؤرح لبناني.