المحور الأساسي لرواية حسن داود الجديدة "غناء البطريق"، هو انكفاء الراوي الى الداخل، واقتصار علاقته بالعالم على النظر. فصاحب "بناية ماتيلد" يلتقي بطله على أرض واحدة، هي أرض النظر التي يستقيم معها العالم، حتى في غيابه. إنّه النظر الذي يؤلّف مدينة ويهدم أخرى. هنا قراءة نقديّة للرواية الصادرة حديثاً في بيروت، عن "دار النهار للنشر". وحسن داود الذي ترجمت روايته الأولى "بناية ماتيلد" الى الفرنسية حيث صدرت عن منشورات "آكت سود" ولفتت الأنظار، كان بين روايته الأولى و"غناء البطريق" أصدر أعمالاً أخرى عديدة من أبرزها "روض الحياة المحزون" و"تحت شرفة آنجي" وخصوصاً "سنة الأوتوماتيك" التي صدرت قبل عامين واعتبرت من أفضل الروايات التي كتبها روائي ينتمي الى هذا الجيل: في دفتر يومياته كان الرسام الفرنسي بيار بونار يدوّن غالباً ملاحظات لا قيمة لها. كأن يسجّل مثلاً حال الطقس وتحولاته الطفيفة بين يوم وآخر. وبونار الذي ازدراه بيكاسو ذات مرّة لم يكن يأبه لنظريات الفن والمساجلات القائمة بين أقرانه حولها. ولم تكن السياسة تشغله كثيراً في ذلك الوقت المضطرم بالأحداث من حياة أوروبا والعالم، خلال الربع الأول من هذا القرن. كان بونار يعيش حول حياته، مكتفياً برسم ما يحفّ بها من أشخاص وكائنات وما يدخلها من ألوان. وقراءة رواية حسن داود الأخيرة "غناء البطريق" "دار النهار"، بيروت تذكر ببونار. فالسؤال الأكبر الذي شغل هذا الرسام الفرنسي كان "كيف يستنبط الأشكال الكبيرة حتى من الأحجام الصغيرة"، وهو سؤال يمكن صياغته عند قراءة هذا الروائي اللبناني على نحو آخر: "كيف يستنبط حياة "كبيرة" من حياة عادية او من شذرات حياة؟". السؤال الثاني هو سؤال الكتابة على الأرجح، وهو يصبح أكثر إلحاحاً، اذا أخذنا في الإعتبار ان الحياة العادية التي لا تساهم في قراءة تاريخ الجماعة واختزال حاضرها والتنبؤ بمستقبلها، تكاد تكون مرذولة في ميراثنا ومراسنا الثقافي. ذلك أن الكتابة تحتاج، في الذهنية العربيّة السائدة، إلى سبب تحتج به. أما أن تكون حجة الكتابة، هي الكتابة نفسها، وما يعتمل فيها ويتولّد عنها وما تفضي إليه، فهذا يدخل في باب الهذر واللغو بالنسبة إلى كثيرين، إن كلّ كتابة تُبذل لغرض معيّن، ولا يمكن أن تكون هي غاية بحدّ ذاتها. وكما تنبسط الحياة عند بونار، ميّتة أو ساكنة على القماش، تاركة العين عين الرسّام والمتفرّج تبحث في تأويل مطارحها الخفية أو الكامنة، غير المرئية أو المهملة، والموضوعة كأنما عرضاً، فإن رواية حسن داود لا تحتج بحدث جلل لسرد تلك النتف التي تستطيع أن تؤلف حياة كاملة في أي حال. ولا يلجأ الكاتب، لاستئناف سرده وجعله يتعاقب مشاهد وفصولاً، مثلما يفعل الرواة، إلى أحداث تطوي بعضها بعضاً، كما لا يحتاج إلى تبدّلات جسام تطرأ على جسم الرواية الحياة، فتشكّل ذريعة ومنطقاً ونسقاً يجري عليه. رواية "غناء البطريق" تبدأ تماماً حيث تنتهي، أي بفعل النظر: "من بيتنا في الطابق الأخير بالبناية ذات الطوابق الثلاثة ... أستطيع أن أشاهد المدينة كلها في الأسفل" ص 7 حتى "أتنقّل بين النافذتين من أجل أن أراها هنا وأن أرى خروجها هناك... أعرف أنني سأفعل ذلك ما دام أنها ما زالت تعود بعد خروجها" ص 208. وكأن النظر هو كل ما يبقى من حياة تقوم على مساحتها الأضيق. إذ إن ما يفعله الراوية، متذكراً، هو نثر وتسجيل ما جمعته العين خلال ثلاثة عشر عاماً. أما التحولات، أو الأطوار، فقليلة في ما يسرده البطريق اسمه كذلك نظراً لصغر ذراعيه ولخللٍ ما في مشيته، حتى وإن كانت هذه التحولات أشبه بانقراض مدينة بكاملها، وحلول أطياف مدينة أخرى محلها. بل إن هذه التحولات لا تحلّ في قلب المشهد الساكن كشيء يستدل به، أو كذريعة للسرد، وتالياً للكتابة نفسها، وإنما يأتي تواردها كشيء من بطانة الصورة ومادّتها الخام. الكلام في تلك المدينة القديمة التي أزيلت مثلاً، لا يكون من قبيل إعلاء الكلام وإنشائه على متن اعتراضٍ سياسي مباشر، حتى ان تلك المدينة لا يتعيّن اسمها ولا زمن وجودها الفعليان. أما الإشارات القليلة المبثوثة بشكل عرضي مثل أسماء الشوارع فليس لها أن تؤكد شيئاً، أو أن تلمح الى مدينة بعينها بيروت مثلاً، قدر ما تزيد في عادية هذه المدينة. وما نتعرف إليه في بعض الأحايين هو الأثر الذي خلفه زوال المدينة القديمة في نفوس أشخاص الرواية. أما المدينة الجديدة فينتصب غيابها الدائم، أو انتظارها واشتمال مطرحها على الفراغ، لتتحول كأنما ضباباً يروح فيه أشخاص الرواية جيئة وذهاباً من دون أن يعلق فيهم منها شيء. الفراغ بدوره يتحول مادة للنظر ولإنشاء الوهم، أو لقراءة الواقع المتخيل أحياناً، فيكون هذا الفراغ حجة لقياس ضعف نظر الوالد والد البطريق الذي لم يعد قادراً من مكانه على أن يحدد بإصبعه موقع محلّه في المدينة القديمة. وأكثر من ذلك، يبدو الفراغ علامة من علامات موته. عاديّة غير طارئة إن سيرة البطريق هي سيرة نظره الى الأشياء، لا سيرة معايشته لها بالضرورة. سيرة من هو خارج الحياة ومن يطلّ عليها إطلالة المتفرّج، بل من يطل على حياته نفسها إطلالة المتفرج: "ثم إنني إذ أبقى أمام المرآة، أظلّ مراقباً ظهوري، مبقياً إياه تحت بصري ومنتبهاً إليه كيلا تأخذه الراحة أو الغفلة" ص 33. النظر يحضر غالباً كوسيلة لتأويل العالم، ليس على غير ما هو عليه بالضرورة، وإنما على نحو يقيم دليلاً عليه، بل لنقل على عاديته المتأصّلة. وكأن انكفاء الراوية الى الداخل، واقتصار علاقة الراوي بالعالم على النظر وحسب، يمدّان هذا الأخير بإدارك مجهري كذلك الذي يتكوّن لدى السجناء لضيق حيّز حركتهم، ومكوثهم على المشهد الواحد، بحيث يستعاض بالنظر فعلاً عن بقية الأفعال التي يستحيل تحقيقها في الواقع: "من غرفتي، مستنداً الى طرف النافذة، أستطيع أن أقرّب كتفها العاري حتى ليكاد يلتصق بعينيّ. كتفها الحقيقي الذي أستطيع أن أشعر بأنني ألمسه أيضاً" ص 119. إن عادية الراوية لا تنبع فقط من كونه يقبع خارج الحياة الفعلية، ومركز حركتها المدينة، ولا تنبع فقط من اختلافه الجسدي. بل هي عادية تشبه الحياة نفسها، ولا تبدو طارئة بسبب ظرف معين بل أصلية تماماً. ولعلّ النقطة التي يلتقي عندها الكاتب بالراوية على أرض واحدة، هي أرض النظر التي يستقيم معها العالم - حتى في غيابه - لوحة تبدأ ملامحها الخفية، ولنقل يبدأ باطنها وأحشاؤها، بالظهور لحظة معاودة تأويلها. على هذا النحو ينتقل حسن داود بروايته من مرتبة "البطل" الى حيز "الشخص" العادي تماماً، حين يضعه خارج الجماعات، وخارج التاريخ الجمعي، وخارج صيرورة الاحداث