نال زين الدين زيدان اللاعب الفرنسي من أصل جزائري الكرة الذهبية التي تمنحها مجلة "فرانس فوتبول" لأفضل لاعب كرة قدم في أوروبا بما يشبه الاجماع. وبدورها توّجت مجلة "أونز" زيدان لاعب العام في استفتاء شارك فيه أكثر من 25 ألف قارئ، وحذت وكالة "رويترز" للأنباء حذو المجلتين الفرنسيتين فاختارت زيدان أفضل رياضي في العام. وقد جاء هذا الاجماع تتويجاً لمسيرة رياضية حافلة بالانجازات وتكريساً لموهبة كروية استطاعت ان تدخل النادي الذهبي من أوسع بواباته على الاطلاق: بوابة كأس العالم. وزين الدين زيدان هو رابع فرنسي يحرز الكرة الذهبية بعد ريمون كوبا وميشال بلاتيني وجان بيار بابان. ويبدو أن العام 1998 حمل في مطلعه بشائر الخير لزين الدين زيدان، إذ سجل في الدقيقة العشرين هدف فرنسا اليتيم في اللقاء الودي الذي جمعها مع اسبانيا لتدشين ملعب ستاد دي فرانس في 28 كانون الثاني يناير 1998، وهو أول هدف يسجل في هذا الملعب الذي استضاف المباراة النهائية لكأس العالم في الثاني عشر من تموز يوليو من العام ذاته. وقد وضع هدف زيدان حداً لمسيرة مظفرة دامت ثلاث سنوات ونصف السنة لم يذق خلالها المنتخب الاسباني طعم الهزيمة. وحرصاً منا على المشاركة في تكريم هذا اللاعب الفذ لا بد من إلقاء الضوء، ولو باختصار، على مختلف مراحل حياته منذ أبصر النور في الثالث والعشرين من حزيران يونيو 1972 في لاكستالان، أحد الأحياء الشمالية في مدينة مرسيليا الفرنسية حتى نيله الكرة الذهبية في الحادي والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1998. "زيزو" هو الولد الخامس لإسماعيل ومليكة زيدان بعد جمال وفريد ونورالدين وليلى. وقد هاجر والده من الجزائر إلى مرسيليا طلباً للرزق، فعمل سائقاً وأحاط أفراد عائلته بالرعاية والحنان ووفّر لهم، رغم أحواله المادية الصعبة، تربية لائقة. وعندما أصبح زيزو نجماً عالمياً ظل ولداً براً بوالديه فاشترى لهما فيلا فخمة. وقال رداً على سؤال عن علاقته بوالديه: "أنا مدين لهما بكل شيء. لقد ربياني تربية رائعة فعلماني الاحترام والتواضع والمشاركة، وأنا سأبقى وفياً لهما إلى الأبد". مارس زين الدين زيدان مع اخوته وأترابه في الحي لعبة كرة القدم، كما مارس الجودو ونال الحزام الأخضر في هذه اللعبة، لكن حب كرة القدم، على حد تعبيره: "كان يجري في دمي، فأنا ولدت وفي رأسي كرة قدم". وكان منذ صغره يملك مهارات استثنائية، وكان طموحه أن يلعب مع من هم أكبر سناً منه. وكان يتردد على ملعب الفيلودروم في مرسيليا، وهو لن ينسى أبداً المباراة نصف النهائية بين فرنسا والبرتغال في كأس الأمم الأوروبية 1984، فقد اعجب اعجاباً شديداً بميشال بلاتيني الذي سجل هدف الفوز لفرنسا وكان يحمل الرقم 10، وهو الرقم الذي سيحمله زيدان بعد أربع عشرة سنة في المباراة النهائية لكأس العالم 1998. اعجب زيدان منذ مطلع شبابه بنجم الاوروغواي انزو فرانشيسكو لاعب مرسيليا، ولا يزال حتى اليوم يعتبره اللاعب المثالي. وأول من اكتشف مواهب زين الدين زيدان هو جان فارو الذي كان يعمل لنادي كان، واستدعاه وهو في الثالثة عشرة لاختبار مدته ثلاثة أيام، ففشل الصبي في اختباره الأول، لكن فارو أصر على تمديد فترة الاختبار اسبوعاً آخر نجح خلاله زيدان في لفت الانظار إليه، فاستبقاه نادي كان، وقبل أن يكمل عامه السابع عشر بشهر واحد لعب مباراته الأولى في الدرجة الأولى أمام فريق نانت. وقد ظل على مقاعد الاحتياط حتى الدقائق الأخيرة من المباراة التي انتهت بالتعادل 1/1. ونال زيدان مكافأة مقدارها خمسة آلاف فرنك فرنسي، وهي توازي سبعة أضعاف الراتب الذي كان يتقاضاه خلال فترة التدريب. وبعد سنة قضاها مع المدرب جان فرنانديز سجل هدفه الأول في مرمى نانت، ومكافأة له قدم له رئيس النادي هذه المرة سيارة رينو حمراء جديدة. وفي "كان" تعرف زيدان إلى فيرونيك التي ستصبح زوجته في ما بعد. وعندما عُيّن رولان كوربيس، وهو من مرسيليا، مدرباً لبوردو، فاوض نادي كان الذي هبط إلى الدرجة الثانية لشراء زين الدين زيدان، وتمت صفقة الانتقال لقاء 5،3 مليون فرنك في صيف 1992. وفي بوردو التقى زيزو دوغاري ولبزارازو وتوطدت بين الثلاثة صداقة حميمة لا تزال قائمة حتى اليوم. يقول زيدان عن انتقاله إلى بوردو: "انتقالي إلى بوردو غيّرني بصورة جذرية. وقد سجلت في موسمي الأول 12 هدفاً. وفي بوردو بدأت أدرك مدى امكاناتي وكانت لديّ رغبة في استثمارها أفضل استثمار. إن انطلاق شهرتي كان من بوردو". وسنحت فرصة العمر أمام زيدان عندما اصيب يوري دجوركاييف لاعب المنتخب الفرنسي قبل اللقاء الودي بين فرنسا وتشيخيا في 17 آب اغسطس 1994، فوقع اختيار ايميه جاكيه مدرب المنتخب الوطني عليه ليحل محل دجوركاييف. وفي بوردو، حيث اقيم اللقاء كان زيدان على مقاعد الاحتياط... وانتهى الشوط الأول بتقدم تشيخيا بهدفين نظيفين. وفي الدقيقة ال 63 دفع ايميه جاكيه بزيدان إلى الملعب بدلاً من كورينثان مارتينز وقال له: "إنها فرصتك. إلعب ولا تفكر بشيء آخر". أضاع زيدان كرات عدة إثر نزوله إلى الملعب، فتعالى الصفير في المدرجات، لكنه سرعان ما حوّل صيحات الاستهجان هتافات اعجاب عندما سجل الهدف الأول في الدقيقة ال 85 من مسافة 25 متراً، وأقام المدرجات ولم يقعدها عندما أضاف الهدف الثاني في الدقيقة ال 87 بتسديدة من رأسه. وهكذا انتزع التعادل لفرنسا في الدقائق الحاسمة من المباراة. وأشادت الصحف ووسائل الإعلام بالانجاز الذي حققه المنقذ، واطلقت على النجم الجديد لقب "وريث بلاتيني" ولكنها بعد لقاءات دولية أخرى أشارت إلى عجز زيدان عن ان يكون خليفة "الملك ميشال"، ما دفعه إلى القول: "إن خلافة بلاتيني ارث ثقيل يصعب عليّ حمله، وأنا ضقت ذرعاً بتشبيهي به. إن بلاتيني لاعب فريد من نوعه ومن الصعب تقليده أو مجاراته. أنا زين الدين زيدان، وعلى الناس أن يفهموا انني لن أكون أبداً ميشال بلاتيني لا في الملعب ولا في خارجه". وفي أيار مايو 1996 فشل زين الدين زيدان في إحراز أول لقب أوروبي له ولبوردو عندما خسر أمام بايرن ميونيخ صفر/2 ذهاباً و1/3 إياباً. لكنه على خطى بلاتيني انتقل إلى يوفنتوس لقاء 35 مليون فرنك قبل خوضه كأس الأمم الأوروبية في انكلترا. قبل انطلاق البطولة الأوروبية تعرض زين الدين زيدان لحادث سير فاصيب في رأسه وفي مؤخرته، وتحول حلمه الأوروبي كابوساً عندما أصر المدرب جاكيه على إشراكه في اللعب قبل أن يتعافى تماماً. ويعلق زيدان على تجربته الأوروبية الفاشلة، فيقول: "انني احتفظ بذكرى سيئة للغاية من هذه البطولة، لكنني خرجت منها بدرس أساسي مفاده أنه يجب عدم خوض هذا النوع من المباريات إلا إذا كان المرء جاهزاً 300 في المئة. لقد ارتكبت خطأ فادحاً بإصراري على اللعب، مع أنني كنت ادرك وأحس جسدياً وذهنياً انني لست جاهزاً للعب". وقبل انطلاقه مع يوفنتوس أعلن زيدان: "إنه لشرف عظيم لأي لاعب أن يدافع عن ألوان يوفنتوس، وفي الوقت ذاته انها مسؤولية كبيرة، وأنا ادرك تمام الإدراك التحدي الصعب الذي ينتظرني في يوفنتوس أفضل نادٍ في العالم". كانت بداية زيدان مع يوفنتوس عادية ومتوسطة، وكان تأقلمه مع الواقع الجديد صعباً وبطيئاً، ولم ترحمه تعليقات الصحف، فاضطر ميشال بلاتيني أن يطير إلى يوفنتوس ليقف إلى جانبه ويشد أزره، معتبراً أن زيدان لم يحصل على فرصته الحقيقية بعد: "زيدان لاعب يجب أن توظّف طاقاته على الوجه الصحيح. فهو لا يمكن ان يكون ديشان، تماماً كما أنه لم يكن في وسعي أن أكون بونيني خلال الفترة التي لعبت فيها ليوفنتوس". وفجأة تبدلت الأوضاع إثر اصابة كونتي فأوكل إليه المدرب مارتشيللو ليبي مهمة جديدة في مباراة ضد الانتر تألق خلالها زيدان وسجل أحد هدفي الفوز. وللمرة الثانية تغدو مصائب قوم عند قوم فوائد، فإصابة دجوركاييف في المرة الأولى فتحت أمام زيدان باب المنتخب الوطني، وإصابة كونتي في المرة الثانية فتحت عيني المدرب على حقيقة طاقات زيدان كصانع ألعاب. وقد قال ليبي في هذا الصدد: "زيدان يملك موهبة جعل المواقف المعقدة سهلة". وجردة حساب بسيطة توضح ان زيدان في موسمه الأول مع يوفنتوس أحرز بطولة الدوري الايطالي وكأس السوبر الأوروبية، والكأس القارية، لكنه أخفق في إحراز كأس دوري أبطال أوروبا بعد خسارة يوفنتوس أمام بوروشيا دورتموند 1/3. وفي موسمه الثاني دافع عن لقب بطولة الدوري بنجاح، إلا أنه فشل في إحراز دوري أبطال أوروبا، فانحنى أمام ريال مدريد صفر/1. وقد علق على ذلك بقوله: "سيأتي يوم نحرز فيه هذه الكأس. إنها خسارتي الثالثة على التوالي في نهائي الكؤوس الأوروبية. وآمل ألا أخسر النهائي المقبل لأنني سأكون جاهزاً لكأس العالم التي افكر فيها باستمرار. هذه الكأس أريدها، وستكون من نصيبي". قبل التحاقه بالمنتخب الفرنسي في كلير فونتين، رزق زيدان طفلاً ثانياً، وكانت فرنسا بأسرها تعلق عليه الآمال لاحراز كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها، وكانت مجسماته العملاقة تملأ الشوارع والساحات، وكانت صوره تحتل الصفحات الأولى في المجلات والصحف. وهذا ما جعله فريسة للضغط النفسي والشد العصبي الذي بدأت مؤشراته في المباراة الودية بين فرنسا وفنلندا قبل انطلاق كأس العالم. وفي المباراة الثانية من الجولة الأولى في المونديال أمام السعودية، فقد زيدان أعصابه وداس فؤاد أنور فرفع حكم المباراة البطاقة الحمراء في وجهه واوقف مباراتين عن اللعب. وكان على زيدان أن يواجه الكارثة وتعليقات زملائه الجارحة ولا سيما تعليق ديدييه ديشان قائد المنتخب الفرنسي وزميله في يوفنتوس: "إن ما قام به زيدان لا يغتفر. إن سلوكه العدائي ألحق ضرراً بالمنتخب وجعلنا في دائرة الخطر". ومع أن ديشان اعتذر من زيدان في اليوم التالي، فقد كان هذا الأخير يتألم بصمت، وعشية ربع النهائي أمام ايطاليا دخل المدرب جاكيه على الخط فاستدعى صانع ألعاب المنتخب الفرنسي وقال له: "زيزو أنت لست المنتخب الفرنسي، وأنت لا تمثل المنتخب الفرنسي. هذا ما يجب أن تدركه". ثم أضاف قائلاً: "لكنني أعرف جيداً انك انت الذي سيمنحنا الفوز"، وهكذا اطلق جاكيه المارد من القمقم، وأراحه من عبء كان ينور تحت ثقله. وفي الثاني عشر من تموز يوليو 1998 صعد زين الدين زيدان إلى الحافلة التي أقلت المنتخب الفرنسي من كليرفونتين إلى ملعب ستاد دي فرانس، وما جرى في المباراة النهائية أمام البرازيل يعرفه جميع الناس وسيبقى عالقاً في أذهانهم إلى الأبد، فقد سجل خليفة بلاتيني الذي يحمل الرقم 10 والذي صام طوال المونديال عن التهديف، هدفين برأسه ولا أروع، وفجّر هذا الفرنسي الجزائري الأصل مشاعر الفرح الكامنة في أعماق شعب بأسره، ووحد الفرنسيين والآسيويين والمغاربيين في مهرجان أعاد إلى الاذهان احتفالات التحرير من الاحتلال النازي، وعلى قوس النصر كتبت فرنسا بالضوء "شكراً زيزو" ومنحه الرئيس الفرنسي جاك شيراك وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، وأصبح الطفل الذي كان يداعب الكرة في حي لاكستالان شمال مرسيليا، على كل شفة ولسان في مختلف انحاء الكرة الأرضية