يختلف بنيامين نتانياهو وبيل كلينتون في كثير من الأشياء. إلا أنهما يشبهان بعضهما في اعتقاد كل منهما بحظه وطالعه وقدرته على تجاوز الصعوبات. يعتبران انهما إذا أوجدا مخرجاً لفظياً للمشكلة فانهما يكونان قد حلاها فعلاً. ومصدر هذا الخطأ هو التقدير الفائق للنفس والاستهتار بالآخرين. ولقد ذهبت أجوبة كلينتون الى المحققين في قضية "مونيكا - غيت" مثلا في ادعاء "الشطارة". وعبّر أكثر من صديق له عن تبرّمه بالاصرار على نفي علاقة جنسية باعتباره "اهانة لذكاء المواطنين". ربما دفع الرئيس الأميركي غالياً ثمن هذه المحاولات. وها هو نتانياهو، بدوره، يحال الى المحاسبة. فالرجل، وهو خريج شبكة "سي. ان. ان"، يرى أن حسن توليف الموقف وتقديمه يكفي. ولذا فهو يعتبر أن السياسة "فن اعلامي" خالص، وبما ان الذاكرة قصيرة فبالامكان قول أي شيء، لأي كان، كل يوم. وأثبت خلال السنوات الأخيرة انه تكتيكي ناجح يعرف كيف يتجنب الشباك التي ينصبها خصومه، لكنه، في غضون ذلك، راكم ديوناً بات مضطراً الى دفعها مرة واحدة. ولذلك فإنه اضطر الى تقديم موعد الانتخابات التشريعية في ظل هبّة عامة واجهها في الكنيست وربما انتهت بتهديد مستقبله السياسي. تقارب الاطروحات السياسية لقد خسر من فرط محاولته الربح في الاتجاهات كلها، وذلك على النحو الآتي: تفاوض مع ايهود باراك، زعيم حزب "العمل"، من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية ثم اسقط ذلك مكتفياً بالتصويت لصالح "واي ريفر" وهو التصويت الذي عوّض خلاله اليسار عن أصوات اليمين الرافضة. أراد ارضاء الأميركيين بعد حرب استنزاف بينه وبينهم دامت سنة ونصف السنة وحصل منهم، في أثنائها على تنازلات عدة، وهو يعتبر انه اقتنص، فوق هذه التنازلات، مبلغاً يفوق مليار دولار واتفاقات أمنية مهمة. جدد العلاقة مع الفلسطينيين تحت سقف "اتفاق أوسلو" بعد أن أعاد قراءته وتنقيحه. وبناء عليه فهو اعتبر أنه بات قادراً على تدشين التفاوض حول الوضع الدائم من موقع قوي. حاول الحفاظ على وحدة المعسكر اليميني عبر التأكيد بأنه حصل من الأميركيين والفلسطينيين على أقصى ما يمكن الحصول عليه في الظروف الراهنة. وعندما بدا له أن حججه لم تقنع الكثيرين أقدم على وضع شروط للاستمرار في تنفيذ الاتفاق تجمده عملياً وتلغيه. اعتبر ان بامكانه القفز برشاقة بين توقيع الاتفاق واسقاطه من دون أن يغضب، في الحركة الأولى، المستوطنين والغلاة وممثليهم في الحكومة والكنيست، وفي الحركة الثانية، "المعتدلين" في الوزارة. بطيخات ويد واحدة وكانت النتيجة ان وجد في وجهه تحالفاً يمتد من أقصى اليسار الى أقصى اليمين بحيث بات الهاجس منع هذا الرجل من الاعتقاد بأنه قادر على حمل بطيخات عدة بيد واحدة. ما أن أعلن الكنيست حل نفسه حتى بدا وكأن هناك من فتح علبة "باندورا". إذ توالت المفاجآت، ولم يعد ممكناً ضبط "العفاريت" التي خرجت من قماقمها. وارتفع بسرعة قياسية عدد المرشحين لمنصب رئيس الوزراء، في حين تبيّن ان أحزاباً عدة ستكوّن بهذه المناسبة. عندما تحصل الانتخابات التشريعية الاسرائيلية فانها ستكون الأولى التي لا يبرز فيها شخص من جيل الرواد ومؤسسي الدولة ولا حتى من الجيل الثاني. فإذا كان المرشحون للتنافس على المركز الأول ايهود باراك، وبنيامين نتانياهو، وايهود اولمرت، وآمنون شاحاك، وبيني بيغن، فان هؤلاء جميعاً ينتمون الى المجموعات التي دخلت الحياة العامة بعد حرب 1967، وبعضهم ولد بعد قيام اسرائيل أصلاً. يعني ذلك ان الانتخابات الماضية التي خسرها بيريز وهو من رجال الصف الثاني كانت انتقالية بمعنى ما، وان الانتخابات المقبلة ستشهد تغييراً كبيراً في التركيبة الحاكمة. يفسر هذا الأمر، السمات التي يبدو أن المعركة الانتخابية ستتسم بها: تراجع الايديولوجيا، التشرذم التنظيمي، تقارب الأطروحات السياسية والاقتصادية والأمنية، خصوصاً ما يتعلق بعناوين التفاوض حول الحل الدائم مع الفلسطينيين. والواضح أن معسكر اليمين القومي يعيش تحت الضغط وأنه معرّض، اذا لم تحصل مفاجآت، الى إعادة تركيب. بل هذا هو المطلب الذي يرفعه اسحق شامير الذي ظل يعايش هذا التيار منذ عقود. ما هي أبرز الاتجاهات الفرعية داخل هذا المعسكر. يمثل نتانياهو كتلة رئيسية لمجرد أنه رئيس الوزراء حالياً، وهو قادر على ممارسة نفوذ على الجهاز الحزبي لليكود وكذلك على القاعدة الانتخابية. إلا أنه من الواضح انه سيواجه، قبل الانتخابات العامة، معركة انتزاع الشرعية داخل حزبه. وهو يحتاج، في ذلك، الى دعم شخص من وزن وزير الخارجية آرييل شارون الذي يكن له ضغائن ولكنه يفضل مؤقتاً ان يكون الرجل الثاني. أعلن رئيس بلدية القدس ايهود اولمرت انه سيتحدى نتانياهو على زعامة ليكود. وهو مدعوم، في مسعاه، من وزيرة الاتصالات ليمور ليفنات صاحبة المشكلة الشهيرة مع سارة نتانياهو. يأتي هذا التحدي من على اليمين اذ أن اولمرت يمثل الخط المتشدد الذي مكنه من الفوز في القدس بفضل أصوات المتدينين والمتطرفين. وبما ان اولمرت عاد فتراجع فقد "خلفه" عوزي لانداو. سيحاول بيني بيغن ابن رئيس الوزراء السابق ان يثأر من تطاول نتانياهو عليه. فهو يعتبر نفسه وريث القيادة التاريخية لليمين بالمعنيين البيولوجي والآيديولوجي. وقد انشق عن الحكومة باكراً، ويصر على معاملة رئيس الوزراء باحتقار شديد وبصفته دخيلاً يريد المس بفكرة "أرض اسرائيل الكاملة". وكوّن بيغن الابن حزباً خاصاً لخوض الانتخابات وسيترشح ضد نتانياهو. ولكن الاتصالات مفتوحة بينه وبين أقصى اليمين من أجل عدم شرذمة الأصوات. استقال دان ميريدور من "الليكود" بعد حل الكنيست بيوم واحد. وهو، مثل بيغن، أحد "امراء" الحزب باعتبار الدور التاريخي الذي لعبه والده في "حيروت". والمعروف انه كان الشاب المفضل لدى الجيل السابق، وذلك قبل أن يصاب، بعد أوسلو، ب "نوبة" من الواقعية. اذ كان وزيراً للمال في حكومة نتانياهو واختلف معه سواء حول التسوية مع الفلسطينيين أو حول السياسة الاقتصادية - الاجتماعية. وينوي ميريدور قيادة حملة ضد رئيس الوزراء، وهو سيفعل ذلك عملياً عن "يسار" نتانياهو وبمعاونة أشخاص مثل روني ميلو الرئيس الليكودي "المعتدل" السابق لبلدية تل أبيب. إذا كانت الأسماء المشار اليها تنتدب نفسها لرئاسة الحكومة المقبلة فإن هناك، ضمن اليمين، قوى أكثر تواضعاً. ستترشح الى الكنيست ولكنها تحتفظ لنفسها بحق اختيار المرشح الذي تدعو الى التصويت له على المركز الأول. رافائيل ايتان لم يوضح موقفه بعد. ومثله رحبعام زئيفي ومثلهما افيغدور كهلاني. غير أن الأنظار مشدودة الى حزب "اسرائيل بعاليا" وزعيمه ناتان شارانسكي الذي كان مفاجأة الانتخابات الماضية. لقد دعم شارانسكي نتانياهو باستمرار ولكن هذا الأخير فاجأه بأنه يشجع افيغدور ليبرمان، أحد مساعديه، على تأسيس حزب لاستقطاب أصوات اليهود الروس. وإذا حصل ذلك فإن شارانسكي سيسعى الى حرمان نتانياهو من الكثير من الأصوات. الأحزاب الدينية لم تقل رأيها. ولكن الأكثر تطرفاً بينها وهو الحزب القومي الديني سيجد نفسه محرجاً أمام كثرة المرشحين المتطرفين، ولذا فهو قد يساوم كثيراً قبل أن يختار. وكذلك سيفعل "شاس" وغيره. ويتدخل في تحديد وجهة هذه القوى عنصر غير سياسي من نوع حجم الموازنات والحقائب المحتملة، ومصير الخدمة العسكرية الالزامية لطلاب العلوم الدينية وغير ذلك. معسكر اليسار يتصرف معسكر اليسار في اسرائيل على أساس ان زعيم حزب "العمل" ايهود باراك مرشحه الطبيعي لمنصب رئاسة الحكومة. ولكن الواضح ان ذلك يحصل من دون اقتناع عميق. فالرجل استفاد من هزيمة بيريز الانتخابية ليضع يده على الحزب بصفته "وريثاً" لرابين. ومن الواضح انه سيخوض معركته مستنداً الى ليا ارملة رابين التي سبق لها أن لامت بيريز على أنه لم يستخدم اسم زوجها كفاية في معركته فخسرها. نال باراك أكبر عدد من الاوسمة خلال خدمته العسكرية لكنه لم يبرهن، أثناء قيادته السياسية على وجود أي موهبة. فهو يحاول باستمرار ان يكون متناغماً مع المزاج السائد الأمر الذي يحرمه من التقدم بأفكار واقتراح مبادرات. وكان "لامعاً" بغيابه في حين كانت مسيرة التسوية تتعثر ويلمح الأميركيون الى مسؤولية نتانياهو عن ذلك. ويقال عنه انه دائم التصرف مثل جندي يرفض ان يطعن قائده من الخلف أثناء المعركة، حتى لو كان يخالفه الرأي. لقد سمح ذلك ببروز صف قيادي جديد داخل حزب العمل يضم اسماء مثل شلومو بن امي، وبنيامين بن اليعاز، ويوسي بيلين، وحاييم رامون. ولكن أياً من هؤلاء لم يكتسب المشروعية الكافية لتحدي الآلة الحزبية، ولا شك في ان معظمهم فوجئ بتقديم موعد الانتخابات. ان نقطة الضعف لدى باراك هي ان استقصاءات الرأي، بعدما كانت تقول انه سيخسر لمصلحة نتانياهو، باتت تقول انه سيربح ولكن بفارق ضئيل. ولذا فإن اليسار يخشى أن تتكرر مأساة بيريز الذي لم يعرف، ولو مرة واحدة، كيف يفوز في الانتخابات. إلا أن التحدي الذي يواجه رئيس الأركان الأسبق جاء، هذه المرة، من رئيس الأركان السابق امنون شاحاك. فهذا الأخير خدم مع باراك في ظل رابين وهو يستطيع الادعاء بأنه، هو الآخر، وريث رئيس الوزراء الأسبق ويحظى بتأييد من أولاده. ودليله على ذلك ان رابين اختاره، بعد أوسلو، للمفاوضات الصعبة مع الفلسطينيين. استقال شاحاك من الجيش وهو ينوي ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة من خارج صفوف حزب العمل، علماً بأن باراك لعب دوراً في اقفال أبواب الحزب في وجهه. يبرر شاحاك موقفه هذا بأنه يعطي الأولوية لالحاق الهزيمة بنتانياهو ويعتبر، تبعاً لذلك، ان تحقيق هذا الهدف مستحيل من جانب رجل موصوم بأنه "يساري". ولذا فهو يكتفي بصورته الايجابية لدى الرأي العام، وهي صورة المستقيم النزيه المحترف، من أجل ان يقدم على مغامرة سياسية. نجم جديد صاعد لقد تحول شاحاك بسرعة الى نقطة استقطاب يمكن ان تدخل تعديلاً على المشهد السياسي العام. ان "يساريي اليمين" و"يمينيي اليسار" شرعوا يتحلقون حوله داعين مثله الى تشكيل حزب وسطي يعبر عن أكبر قدر ممكن من الاجماع الوطني. وهكذا فإن دان ميريدور يغازله. وكذلك يفعل اسحق موردخاي. وينضم الى هذه الموجة "المحبطون" من باراك. الأمر الذي جعله يمضي وقتاً طويلاً في نفي انفضاض العماليين من حوله ومغادرتهم الحزب للالتحاق بالنجم الجديد الصاعد في الحياة العامة الاسرائيلية. نقطة القوة لدى شاحاك هي استقصاءات الرأي التي تقول انه قادر على إلحاق هزيمة منكرة بنتانياهو. لكن نقطة الضعف تتمثل في انعدام الخبرة السياسية وغموض البرنامج. ولذلك لا يخفي رئيس الوزراء الحالي انه ينوي تأجيل موعد الانتخابات قدر المستطاع. فهو يريد اعطاء الوقت الكافي لشاحاك حتى يذبل ويمنح نفسه الوقت الكافي ليلملم أطراف المعسكر القومي ويتخذ الاجراءات التي يمكنها أن تزيد حظه من النجاح