بعد مرور سنة ونيف على الاستقالة التي اكره عليها رئيس الحكومة التركي السابق، الاسلامي نجم الدين أربكان، لا يبدو في الافق ما يشير الى ان الحملة التي تقودها المؤسسة العسكرية في تركيا لاستئصال جذور الحالة الاسلامية من المجتمع والمؤسسات، تقترب من نهايتها. بل على العكس، فإن المراقب لسير عمل اللجان البرلمانية، ثم الهيئة العامة للبرلمان، وما يُعلن من تقارير شبه اسبوعية صادرة عن هذه الجهة العسكرية او الامنية او الاستخباراتية، فضلاً عن الملاحقات القضائية يؤكد ان المواجهة المكشوفة بين الاسلاميين والعسكريين المتشددين، مفتوحة على اقصى الاحتمالات، وقد يضاعف من حدّتها وشراستها، تحديد يوم 18 نيسان أبريل من العام المقبل موعداً لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، بتقديم سنة ونصف عن تاريخها الاصلي. لقد عرفت تركيا ثلاثة انقلابات عسكرية مباشرة في اعوام 1960 و1971 و1980. وغالباً ما كانت المؤسسة العسكرية تنهي العديد من الاشكالات الخطيرة، بهذه الطريقة او تلك، من دون تدخل مباشر من الدبابات، لا سيما في عهد الرئيس الراحل طورغوت أوزال وخليفتيه سليمان ديميريل وطانسو تشيللر. ولكن هذه التدخلات كانت تبقى وراء الكوليس وبأدنى حدّ من الضجيج والمواكبة الاعلامية. غير ان ما حدث بين المؤسسة العسكرية وحكومة أربكان، في شباط فبراير 1997 جمع بين استعراض القوة العسكرية والمحافظة على ماء وجه الديموقراطية. فلم يكن "مرور" الدبابات في شوارع ضاحية سنجان في أنقرة في مطلع شباط فبراير 1997 انقلاباً عسكرياً، بل رسالة واضحة ومتشددة الى اجتماع مجلس الامن القومي الذي يرسم السياسات العليا للبلاد بعد حادثة سنجان بثلاثة اسابيع. وعُرفت القرارات التي اتخذها مجلس الأمن القومي في ذلك الاجتماع الشهير ب"قرارات 28 شباط". وكانت بمثابة وضع يد العسكر بالكامل على الحياة السياسية في البلاد، بحيث لم يعد مقبولاً أن تتجاوز الحكومة ما يرسمه العسكر لها في مختلف المجالات. وبدا واضحاً من التطورات اللاحقة ان ليس أمام أية حكومة، الا الاستقالة اذا كانت تعارض توجهات العسكر، وهذا ما حصل حين استقال أربكان في 18 حزيران يونيو 1997. ويبدو جلياً ان الهدف الاساسي من اقامة "نظام 28 شباط" هو استعادة "الروح الكمالية" نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك التي كانت سائدة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن لجهة استئصال شأفة كل ما يمت الى الاسلام بصلة، على جميع الاصعدة السياسية والفكرية والتربوية والاعلامية والاقتصادية والقانونية. ويعتبر العسكريون الاتراك ان الانظمة المدنية التي حكمت تركيا بعد انتهاء فترة الحزب الواحد 1923 - 1950 ارتدت بهذه النسبة او تلك عن المبدأ الاساسي للنظام وهو العلمانية، فكانت، كما هو معروف، الانقلابات العسكرية والتدخلات غير المباشرة في مسيرة السلطة المدنية. لكن القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة بين الجيش والسلطة السياسية هو تمكن الاسلامي نجم الدين أربكان وزعيم حزب "الرفاه"، من ترؤس الحكومة للمرة الأولى منذ اعلان الجمهورية، أتاتوركية علمانية. وزاد من غضب الجيش ان بعضاً من العلمانيين، مثل طانسو تشيللر وحزبها، وكاد يفعل ذلك ايضاً مسعود يلماز وحزبه سهّل، الى حدّ التواطؤ، "انقلاب" الاسلاميين ووصولهم الى السلطة. وعلى هذا اتخذت معركة "28 شباط 1997" طابعاً مزدوجاً، فهي الى جانب كونها ضد الاسلاميين فإنها هدفت إلى إطاحة كل القوى السياسية والمدنية التي قد تكون مستعدة للتواصل مع الاسلاميين والتوافق معهم. من هنا استهدفت معركة الجيش، كلاً من طانسو تشيللر، و"تراخي" مسعود ييلماز، وأحياناً المواقف "المقبولة" للعلماني المتشدد بولنت أجاويد نائب رئيس الحكومة الحالي، كما مواقف رئيس حزب تركيا الديموقراطية حسام الدين جيندوروك. بمعنى آخر، تعطيل الديموقراطية وتفريغها من اي مضمون حقيقي، لتجد نفسها في النهاية وحيدة في مواجهة الجميع: اسلاميين وعلمانيين ومدنيين وديموقراطيين. تقارير.. تقارير ومع ذلك فإن اليافطة التي ترفعها المؤسسة العسكرية في تركيا هي مواجهة الوجود الاسلامي الذي تصفه في بياناتها ب"الرجعي". ومن اجل الابقاء على وتيرة حملتها المستمرة منذ سنة ونصف السنة، تحرص الاجهزة على ضخ يومي وأسبوعي وشهري لتقارير ومعلومات تعكس الحجم الهائل للقوى "الرجعية" وبالتالي الخطر الداهم لها، واستتباعاً ضرورة لجم نشاطات هذه القوى وتبرير تصفيتها. ففي تقرير اصدرته أخيراً "مجموعة العمل الغربية"، التابعة لرئاسة اركان الجيش، ومهمتها تعقب النشاطات الاسلامية في تركيا، ورد انه توجد في تركيا تحت ادارة الاسلاميين أو سيطرتهم اكثر من 845 مدرسة خاصة، وعدد اكبر بكثير من المدارس الرسمية و124 محطة اذاعة و41 قناة تلفزيونية و5200 صحيفة ومجلة محلية، وعدد لا يحصى من دور النشر، واحدى عشرة مؤسسة مالية تدير حوالي 340 تريليون ليرة تركية، وسبع مجموعات قابضة ضخمة هولدينغ وأكثر من اربعة آلاف شركة كبيرة و2000 مجمع سكني، وأربعة آلاف جمعية و4500 مؤسسة وقفية وعدد لا يحصى من الموظفين والعاملين. واللافت في هذا التقرير العدد الضخم من الموظفين الرسميين من ذوي المراتب العالية، الذين يُعَيَّنون تعييناً وليس عن طريق الانتخاب أو المبادرة، المتهمين بأنهم يسهّلون نشاط الاسلاميين. ومن بين هؤلاء 40 محافظاً و89 نائب محافظ، و300 قائمقام. كما يشير التقرير الى "عدد مهم" من النواب من ذوي الميول الاسلامية، خارج نواب حزب الفضيلة. ويحدد بالاسم احزاب "الوطن الأم" و"الطريق المستقيم" و"تركيا الديموقرطية" و"الاتحاد الكبير". وهي جميعها من احزاب اليمين. بل ان بعض المعلومات يفيد ان 40 نائباً من اصل 138 داخل حزب "الوطن الأم" لهم ميول اسلامية. وفي تقرير آخر أصدرته "مجموعة العمل الغربية" نفسها جاء فيه ان رئيس المجلس الاعلى للتعليم كمال غوروز ذكر ان الطرق الدينية لها وجود قوي في 27 جامعة تركية، وان بعض هذه الجامعات يقع تحت السيطرة الكاملة للقوى الاسلامية. وورد في التقرير كذلك ان عدداً كبيراً من الطلاب الاتراك الذين يتابعون دراستهم في الخارج لا يريدون العودة الى تركيا وان قسماً منهم له ارتباطات بتيارات "رجعية" اسلامية. ويوصي التقرير بمراقبة هؤلاء الطلاب لا سيما اولئك الذين توفدهم وزارة التربية. ويكمل تقرير للاستخبارات التركية خريطة النفوذ الاسلامي في تركيا، وما عرضه تقريرا مجموعة العمل الغربية، فيذكر ان النشاطات "الرجعية" ضد النظام تتخذ من الجوامع والمساجد قاعدة لها، حيث تحوّل عدد كبير منها الى اماكن لإقامة حلقات الذكر والدورات التعليمية غير المرخص بها وعظات الوعّاظ غير الرسميين. وفي اسطنبول تحديداً يشير التقرير الى ان النشاطات الاسلامية تتركز في مناطق أسكودار وباغجيلر والفاتح وسلطان بايلي وصاريير وعمرانية وبايكوز. ويحدد التقرير بالاسم رجل الدين أحمد أونلو، المعروف ب"الخوجا أحمد"، الذي يتخذ من جامع أونالان في أسكودار مقراً له، ويشرف على دورات تدريس القرآن الكريم ويدير اعمالاً تجارية ويؤسس مساكن للطلاب. وكلها بطريقة غير قانونية. ويتصف هذا الشيخ بعظاته المعادية للعلمانية والتي يطلقها في اكثر من جامع. ويلحظ التقرير كذلك تزايد الجهود لنقل دورات القرآن الكريم، بعد محاولة ضبطها وتقييدها قانونياً، الى المنازل. أيضاً يتهم التقرير رؤساء عشرات البلديات في نطاق اسطنبول، وأبرزهم رئيس بلدية أسكودار بتقديم كل انواع الدعم للرجعيين لا سيما لجماعة السليمانيين، عن طريق اعطاء رخص لبناء مدارس تستخدم لاحقاً لغير وظيفتها، وبتكليف اشخاص غير رسميين بمهام داخل الدورات المرخص بها لتدريس القرآن الكريم. اجراءات النظام وتوزع التدابير التي اتخذها العسكر للحد من نفوذ الاسلامية على محاور ثلاثة: قانونية وانتهت بحظر حزب "الرفاه"، ومنع أربكان وبعض رفاقه من ممارسة العمل السياسي لمدة خمس سنوات، واقتصادية وتمثلت في عزل الشركات الاقتصادية الاسلامية وتجميد اموال بعضها، وتربوية قضت بإلغاء المرحلة المتوسطة من معاهد "إمام - خطيب" للتعليم الديني وقصرها على المرحلة الثانوية. وتواصلت فيما بعد المضايقات على الاسلاميين وضبط تحركاتهم. فكان منع ارتداء غطاء الرأس للطالبات الجامعيات، ومنع ارتداء الازياء الدينية من عمامة او جبّة إلا لرجال الدين وداخل المساجد. ولوحق امام القضاء رموز الحركة الاسلامية في تركيا لا سيما قادتها النشطين مثل رئيس بلدية اسطنبول رجب طيب أردوغان ورئيس جمعية رجال الاعمال المستقلين ايرول يارار، وتركزت الاضواء ايضاً على الخطر الذي تشكله "امبراطورية" رجل الدين المعروف فتح الله غولين الذي يملك مؤسسات تربوية واقتصادية واعلامية، داخل تركيا وخارجها، وتمت ملاحقة بعض الصحف مثل "آقيت" وغيرها. والى ذلك، لم تدع المؤسسة العسكرية الحكومة "تتهاون" في المعركة ضد القوى الاسلامية، فشكلت داخل الحكومة وداخل كل وزارة ومؤسسة آليات عمل تضمن تنفيذ التدابير الضرورية حسب رأيها لجبه النفوذ الاسلامي، خصوصاً داخل مؤسسات الدولة. وأعلنت حكومة ييلماز في الاونة الاخيرة "خطة المعركة مع الرجعية" وعمادها: 1 - وظيفة الحكومة اتخاذ كل التدابير الضرورية في الصراع مع "الرجعية"، وتطبيقها، والتنسيق لتطوير السياسات الخاصة بذلك، بين مختلف مؤسسات الدولة. وتبعاً لذلك شكلت الحكومة "هيئة المتابعة والتنسيق" ضمن رئاسة الحكومة، وأخرى مماثلة في اطار وزارة الداخلية. 2 - تشكيل هيئة اشراف مركزية في الاقضية من اجل الاشراف على المدارس والمساكن والدورات التعليمية وقاعات التدريس التي يؤسسها افراد او جمعيات. 3 - اشراف وزارة المالية الفاعل والشامل على المصادر المالية "للرجعية". 4 - حصر مسألة جلود الذبائح بوزارتي الداخلية والمالية ورئاسة الشؤون الدينية. 5 - تشكيل وحدات اشراف في اطار رئاسات المحافظات من اجل ملء الفراغ في مسألة الرقابة على "البث الرجعي والهدّام والانفصالي" الذي تقوم به محطات تلفزيون واذاعة خاصة. ومهمة هذه الوحدات متابعة ما يبث وابلاغ الهيئة العليا للاذاعة والتلفزيون والمدّعين العامين بأية مخالفة لمبادئ الدولة العلمانية. 6 - تعميم البلاغات الخاصة بالزي من جانب رئاسة الحكومة. 7 - اظهار الحكومة، في المعركة مع الرجعية، بأنها تدعم، كسلطة سياسية، موظفي القطاع العام وتؤمن الحماية لهم لتشجيعهم على خوض هذه المعركة بتصميم اكبر. وكان للبرلمان ايضاً توصيات اخرى من المؤسسة العسكرية. فتقدم عدد من النواب بمشاريع قوانين. أقر بعضها فيما تناقش اللجان النيابية بعضها الآخر، ومنها مشاريع لضبط الاجتماعات والتظاهرات، ومضاعفة عقوبات القوانين الخاصة بإغلاق التكايا والزوايا الدينية وارتداء القبعة والزي، وتعديل القانون الخاص ببناء الجوامع وادارتها وفق الاسس التي تحددها رئاسة الشؤون الدينية، وتعديل القانون المتعلق باستخدام البنادق الاوتوماتيكية وذات الفوّهتين، واصدار احكام جديدة للاشراف على المؤسسات المالية الخاصة، واستكمال التحضيرات الضرورية من اجل اقامة دورة لمدة سنتين للموظفين الدينيين، خريجي معاهد "إمام خطيب". إلا أن الاجراء الابرز، كان على الصعيد التربوي، ويعتبر الاصلاح الكبير الثاني، بعد إلزامية التعليم التأسيسي لمدة 8 سنوات، وهو انشاء الاكاديمية التربوية التي تعدّ الآن وزارة التربية مشروع قانون لها. وتهدف هذه الاكاديمية الى تأهيل آخر للمعلمين لمدة سنتين ونصف السنة، وفقاً لمعايير "علمية" و"لتحرير المعلمين من قلق الفشل في التدريس"، وهذه الاكاديمية ستتيح حتماً "غربلة" المعلمين وفقاً لانتماءاتهم السياسية، و"تحرير" السلك التعليمي من غير المرغوب فيهم. وتبرز الاهمية المعوّل عليها من هذه الاكاديمية من خلال الهيئة المشرفة عليها التي تضم عمداء كليات التربية في جامعات تركيا وخبراء من المجلس الاعلى للتعليم ووزارة التربية الوطنية. ويتوقع وزير التربية اقرار مشروع قانون انشاء الاكاديمية في البرلمان قبل الانتخابات النيابية في الربيع المقبل. ولعل الامر الاكثر طرافة في حملة العسكريين ضد الاسلاميين والرموز المعبّرة عنهم، ان الحكومة اقترحت مشروع قانون يرفع عقوبة من يخالف "قوانين الثورة" المتعلقة بارتداء القبعة وتطبيق الحروف التركية... الخ، من السجن ستة اشهر الى السجن سنة مع رفع الغرامة من مئتي دولار الى اربعمئة دولار. ويرى النائب عن حزب "الوطن الأم" ديمير بربر أوغلو ان القانون الحالي الذي يعود إلى أيام أتاتورك، يحمل في طياته امكان معاقبة النواب الذين لا يرتدون القبعة. فالمادة الثانية من قانون القبعة الصادر في 25 كانون الاول ديسمبر 1925 تقول: "ان اعضاء البرلمان وموظفي ومستخدمي الادارات العامة والخاصة والمحلية وسائر المؤسسات الاخرى، ملزمون بارتداء القبعة التي هي زيّ الامة التركية. والحكومة تقوم بمنع استمرار العادة المخالفة لذلك، في ارتداء اغطية رأس خلاف القبعة". مرونة في المواجهة ويحرص الاسلاميون، منذ إطاحة أربكان في حزيران يونيو 1997، على التزام الهدوء والتحلي بالصبر واتباع اسلوب المهادنة والمرونة في التعاطي مع حملة العسكر، ويتجلى ذلك في الوقائع الآتية: - عدم اللجوء الى اعمال عنف والقيام بنشاطات ضمن الاصول القانونية وما تضمنه الاحكام الدستورية. ويظهر الاسلاميون حرصاً، يبدو "زائداً" احياناً في التمسك باللعبة الديموقراطية على رغم الضربات الموجعة التي تلقونها على اكثر من صعيد. - العمل، بالتالي، للاستمرار في اطار لعبة النظام نفسه. ومن هنا كان تأسيس حزب "الفضيلة" لمنع النظام من سحب ورقة الديموقراطية من يد القوى الاسلامية، وهي الورقة التي اتاحت لهم ان يكونوا الحزب الاكبر في البلاد والوصول الى السلطة. - اكثر من ذلك، يحاول قادة حزب "الفضيلة"، وجميعهم من زعامات حزب "الرفاه" المحظور، التعلم من دروس التجربة السابقة، واعتماد خطاب جديد اقل ما يقال عنه انه مفاجئ نوعاً ما. فالحزب الجديد حريص على اظهار اعتداله وانفتاحه على جميع القطاعات في المجتمع. ومن المظاهر المعبرة عن ذلك، تصريح زعيمه رجائي كوتان، لصحيفة "ميلليت" بان "البشرية والمجتمعات والشروط تغيرت. ومن الطبيعي ان يتغير، بنسبة واضحة، حزب الفضيلة". ايضاً طوى كوتان صفحة "النظام العادل" المثير للالتباس الذي كان يدعو اليه أربكان، بقوله "لا وجود بعد الآن في مصطلحات الحزب ل"النظام العادل"". ويشدد كوتان على انه من غير الممكن تغيير الاهداف الاساسية في مواضيع التنمية والبطالة والشباب، لكن "في اطار دولة الديموقرطية وحقوق الانسان والقانون". - وتجلت صورة "الفضيلة" الجديدة في ضم رئيسة تحرير صحيفة "أقشام" نازلي ايليجاق الى اللجنة المركزية للحزب، وهي المعروفة بليبراليتها وسفورها، الامر الذي يعتبره كوتان "مسألة خاصة". لقد خرج "الرفاه" من السلطة ثم حُظر، بهدف تحجيم قوته. لكن الحزب الذي ورثه، حزب "الفضيلة"، ما زال يتقدم في استطلاعات الرأي على غيره من الاحزاب وبفارق كبير. كأن الهدف من حظر سلفه جاء عكس ما يشتهيه العسكر. وبالطبع فإن ذلك اثار قلق زعماء الاحزاب الاخرى. وكلما بدا "الفضيلة" في صورة الضحية والمغدور، كلما كانت قواعد الاحزاب الاخرى، لاسيما تلك التي تضم في صفوفها، اسلاميين، تتعرض للاهتزاز. وهذا ما يحصل بالتحديد لحزب "الوطن الام" الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي مسعود ييلماز. وغالباً ما كان ييلماز يستاء من العسكر، ويحاول التمرد عليهم، لإرضاء بعض قواعد الحزب من جهة، ولمحاولة وقف تقدم "الفضيلة". ويحمّل ييلماز الدعاية الخاطئة للعسكر، مسؤولية تصاعد اسهم "الفضيلة"، من خلال تركيز الجيش حملته على الاسلاميين وتصريح قادته علناً من تقدم "الفضيلة" على غيره من الاحزاب. وهذا ما فعله في نهاية حزيران يونيو الماضي تشيفيك بير، النائب الثاني لرئيس اركان الجيش حينها، وقائد الجيش الاول، في التعيينات التي اقرها مجلس الشورى العسكري في آب أغسطس الماضي. ولا يقتصر القلق على حزب "الوطن الأم"، بل يطال كذلك احزاب اليسار. فحزب اليسار الديموقراطي بزعامة نائب رئيس الحكومة أجاويد ما زال يبني حساباته السياسية على اساس تصفية منافسه اليساري زعيم حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال. وما زال هذا الاخير ينطلق في تعاطيه مع الحكومة من خارجها يؤيدها لكنه لا يشارك فيها، على اساس تسجيل نقاط جديدة لمصلحة حزبه على حساب حزب أجاويد. وعلى هذا تتذبذب المواقف داخل الائتلاف الحكومي، ومع تردي الاوضاع الاقتصادية وضغوطات العسكر، رأت احزاب السلطة ان الانتخابات قد تكون حلاً لمشاكلها المتفاقمة يوماً بعد يوم، على رغم ادراكها ان نتائج مثل هذه الانتخابات غير مضمونة لأي منها. من هنا كان خيار تقديم موعد الانتخابات سنة ونصف السنة من نهاية العام ألفين الى 18 نيسان ابريل المقبل. المؤكد حتى الآن ان هذه الانتخابات، غير المبكرة في الواقع لأنها ستجري بعد ثمانية اشهر وهي مدة طويلة للاعداد لها، ستفاقم من ازمة النظام في تركيا. فانتصار حزب "الفضيلة" فيها سيعزز مواقع الاسلاميين مرة اخرى وعبر شرعية الشعب في مواجهة المؤسسة العسكرية، حتى لو لم يشاركوا في السلطة. وخروج الاحزاب الاخرى ضعيفة ومفككة سيطرح من جديد مسألة فشل هذه الاحزب في ابتداع صيغة للنظام تستوعب القوى الاخرى من اسلامية او علمانية متحالفة مع الاسلاميين، مثل تشيللر وحزبها، التي تقف في هذه المرحلة في موقع رأس حربة ضد المؤسسة العسكرية. ولعل ما يقلق المؤسسة العسكرية ان يستطيع الاسلاميون الخروج من الانتخابات المبكرة منتصرين وقادرين على تشكيل حكومة ائتلافية مع احزاب اخرى، اهمها حزب "الطريق المستقيم" وزعيمته تشيللر. وما قد يترجم هذا الاحتمال واقعاً ان حزب تشيللر في وارد التحالف العضوي في الانتخابات مع حزب الحركة القومية اليميني، الذي نال اقل بقليل من عشرة في المئة من الاصوات في انتخابات 1995، لكنه لم يتمثل في البرلمان لأنه لم يستطع تجاوز حاجز العشرة في المئة المطلوبة لدخول البرلمان. انضم لاحقاً ثلاثة نواب من احزاب اخرى الى حزب الحركة القومية، وتمثل قانونياً بهم في البرلمان الحالي. كما ان تشيللر قد تتحالف ضمنياً مع حزب "الفضيلة" الذي لم يستبعد قادته هذا الاحتمال القوي. ان مثل هذا التحالف، فيما لو نشأ، قادر على الامساك بزمام السلطة من جديد. وهذا سيسبب احراجاً كبيراً للعسكر، الامر الذي يحاول قادته منذ الآن، وعلى لسان زعماء احزاب سياسية، التلويح بأن "الفضيلة" لن يكون ثانية في السلطة حتى لو فاز في الانتخابات المقبلة. وذلك من شأنه، او كما يرغب معارضو "الفضيلة"، دفع جانب من اصوات المقترعين لغير حزب "الفضيلة". وايضاً قد يسعى الجيش الى تشجيع حزبي "الوطن الام" و"اليسار الديموقراطي" ييلماز وأجاويد الى التحالف في الانتخابات لمواجهة التحالف المحتمل بين "الفضيلة" و"الطريق المستقيم" و"الحركة القومية" و"حزب الاتحاد الكبير" له حالياً ثمانية نواب. ان الاعلان عن اجراء انتخابات مبكرة في نيسان 1999، سيشكل مناسبة لتزخيم اجراءات الجيش ضد الاسلاميين ومحاولة استكمالها عبر اقرار قوانين خاصة بذلك، تحوّطاً من اية مفاجآت قد تنتج عنها تلك الانتخابات. لذا يتوقع كثيرون أن يواصل الجيش حملته ضد الاسلاميين وبقوة اكبر من المرحلة الماضية، خصوصاً ان الاحزاب، لا سيما الممثلة في الحكومة، ستكون منشغلة عن اجراءات الجيش، بتفاصيل الحملة الانتخابية. والسؤال الذي يطرح: ماذا سيكون موقف المؤسسة العسكرية إذا نجح حزب "الفضيلة" وحلفاؤه في العودة الى السلطة بعد انتخابات نيسان 1999؟