هل ستشكل القمة الثانية عشرة لحركة بلدان عدم الانحياز التي انعقدت اخيراً في جنوب افريقيا، المفترق التاريخي الذي تحدث عنه نلسون مانديلا في كلمته الختامية، معلناً بزوغ مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تعطي لشعوب العالم الثالث الدور الذي كان يتطلع اليه روّاد هذه الحركة منذ المؤتمر التأسيسي الذي عقد في باندونغ العام 1961 في عز الحرب الباردة؟ وهل سيكون في مستطاع جنوب افريقيا الجديدة، ونلسون مانديلا، مدها بالقيادة السياسية والمعنوية التي تعيد اليها بريقها السابق، وتفعّل طاقاتها في مرحلة يبدو ان العالم بات يفتقد خلالها مراكز قيادية اخرى؟ كان مانديلا يدرك تمام الادراك ان تفعيل هذه الحركة العكاظية التي تضم 113 دولة يندر ان توجد بينها دولة ليست على عداء او خصام او توجس مع دولة اخرى، هو اقرب الى الحلم والخيال. ولعله لذلك اختار ان يقتبس من مارتن لوثر كينغ عندما ناشد قادة الحركة ان يمتلكوا الجرأة للتحدث بصوت واحد امام تحديات الالف الثالث وان يؤسسوا لمستقبل يقوم على التعاون والسلام والمساواة، فقال: "املي هو ان نحلم بأننا نملك حلماً، وهو ان رسالتنا المشتركة تقوم على المساهمة في بناء عالم افضل". ثم اضاف: "اقصد بذلك معادلة التنمية والسلام التي كانت الهدف المركزي لحركتنا منذ تأسيسها، وما تزال هي التحدي الرئيسي الذي يقف امامنا… لا بد لنا من اعادة تشكيل عالمنا المشترك على اسس ومبادئ جديدة، والتحدث بصوت واحد في القضايا التي تمس مصير شعوبنا ومستقبلها". كثيرة كانت، كالعادة، القضايا والازمات والمنازعات الاقليمية المطروحة على بساط هذه القمة. بعضها مزمن يبدو بلا شفاء او علاج، وبعضها مستأصل بحيث لم تعد مقاربته مطروحة، ومنها ما يتفاقم مهدداً بانفجار بؤر جديدة في مناطق كان يعتقد بأنها مستقرة وواعدة. ولم تفلح قمة دوربان في معالجة اي من الازمات المفتوحة، من التحدي النووي بين الهند وباكستان، الى الحصار المفروض على ليبيا بسبب مسألة لوكربي، الى التوتر الدائم بين الكوريتين وأزمة قبرص ونزاع الصحراء الغربية، والضربات العسكرية الاميركية ضد السودان وافغانستان. وقد لفتت اللهجة القاسية التي استخدمها مانديلا للحديث عن ازمة الشرق الاوسط عندما قال: "لا يجب ان نسمح للمصالح الضيقة والشوفينية لحكومة اسرائيل الحالية بأن تنجح في سد الطريق امام تسوية دائمة وعادلة في الشرق الاوسط… ان على المجتمع الدولي، وعلى الاممالمتحدة بشكل خاص، مسؤولية معالجة هذه المسألة وتسويتها بأسرع وقت". وكانت جنوب افريقيا قد سعت لأن تكون اسرائيل ممثلة في قمة دوربان، تمهيداً لوساطة ما، لكن رفض اسرائيل دفع بحكومة مانديلا الى الطلب من الديبلوماسيين الاسرائيليين عدم الاقتراب من القمة. وقالت مصادر مقربة من الرئيس ياسر عرفات ان السلطة الوطنية حصلت على تأكيدات من قادة حركة عدم الانحياز بتأييد اعلان الدولة الفللسطينية المستقلة في ايار مايو من العام المقبل، ومطالبة الجمعية العامة للامم المتحدة، اعتباراً من دورتها المقبلة، بأن لا تشمل اوراق اسرائيل التفويضية الاراضي التي احتلتها وضمتها بعد العام 1967. زعامة مانديلا ومن الجبهات الجديدة التي انفتحت عشية قمة دوربان، النزاع في الكونغو الذي انقسمت حوله دول الجنوب الافريقي، والذي بات يهدد بمواجهة اقليمية واسعة. فبينما تؤازر القوات الرواندية والاوغاندية المتمردين على الرئيس الكونغولي لوران كابيلا، ويشاع ان جنوب افريقيا قد زودت الثوار بمعدات واسلحة متطورة، وقفت زيمبابوي وانغولا وناميبيا بجانب النظام الحاكم في كينشاسا، وارسلت قوات نظامية لمساعدته في صد القوات المتمردة. وكان حضور رؤساء زيمبابوي وناميبيا وانغولا الى دوربان، ورفضهم مصافحة مانديلا، واقناعهم كابيلا بالمجيء الى القمة في اللحظة الاخيرة ضد رغبة جنوب افريقيا، مؤشرات على ان زعامة مانديلا الافريقية لم تعد فوق النزاعات والصراعات الاقليمية كما كان سائداً. ومن ابرز الوجوه الجديدة التي اطلت على قمة دوربان كان الرئيس الايراني محمد خاتمي الذي لعبت بلاده دوراً نشطاً في الاعمال التحضيرية، فترأست اللجنة السياسية وكانت وسيطاً فاعلاً في عدد من القضايا الشائكة التي كانت مطروحة على المؤتمر. وعلى رغم الاطلالة العابرة لخاتمي على قمة عدم الانحياز، اذ لم تدم اكثر من اربع وعشرين ساعة، وهي المرة الاولى التي يطل فيها على العالم الخارجي، فقد ترك حضوره انطباعاً قوياً، فيما كانت اوساط ديبلوماسية تفسر النشاط الايراني والتقارب بين ايرانوجنوب افريقيا الذي توج بلقاء طويل بين مانديلا وخاتمي، بأنه تمهيد لتولي ايران رئاسة حركة بلدان عدم الانحياز بعد جنوب افريقيا. اما الرمز الوحيد الباقي من بين رموز هذه الحركة، فكان الرئيس الكوبي فيديل كاسترو الذي مازالت طروحاته تشكل نقطة جذب رئيسية بين بلدان عدم الانحياز، ويستقطب حضوره اهتماماً واسعاً لا يقارن الا بحضور مانديلا الذي خصّه بترحيب مميز، واستضافه اعتباراً من غداة القمة في زيارة دولية الى جنوب افريقيا التي اعلنته من ابنائها بالتبني. وعشية زيارة الرئيس الكوبي الرسمية الى جنوب افريقيا، استقبل كاسترو "الوسط" في جناحه ودار معه الحديث الآتي: هل صحيح ما نشرته اخيراً مجلة "فوربس" المالية المتخصصة، بأن ثروتك تقدّر بمليار واربعمئة مليون دولار؟ - ما علاقة ذلك بعدم الانحياز وبالقضايا التي نناقشها هنا؟ لقد اطلعت على هذا الخبر، وما يؤسفني فيه ليس ما يحمله من تضليل وكذب، بل ما يقصد من خلاله كاساءة لسمعة بلد صغير يعاني من ابشع حصار اقتصادي تفرضه عليه اقوى دولة في العالم. واستغرب ان يروّج لمثل هذه الافتراءات، عوضاً عن الترويج لارقام الجوع وسوء التغذية وعبء الديون الخارجية في بلدان العالم النامي. ايهما اهم، ان يصمد النظام الكوبي في وجه الضغوط الاميركية ام ان يرفع الحصار عن كوبا وتنفرج الازمة التي يقاسيها الكوبيون منذ ثلاثين عاماً؟ - هذه بالذات هي المعادلة التي تطرحها الولاياتالمتحدة ويؤسفني ان اراك متبنياً لها. نحن لا يمكن ان نقبل، كما لا يمكن ان يقبل اي شعب في العالم، ان يفرض علينا احد نظاماً او اسلوباً معيّناً لادارة شؤوننا. وليس من حق الولاياتالمتحدة ان تفرض علينا شروطاً وحصاراً ينتهك جميع المواثيق الدولية ويتعارض مع ابسط مبادئ القانون الدولي ويتنافى مع القواعد الاخلاقية. على الولاياتالمتحدة ان ترفع حصارها المجحف عن شعب لا يشكل اي خطر عليها، والعالم بأسره يطالبها بذلك واذا كان المطلوب ان نركع، فانهم لا يعرفون الشعب الكوبي جيداً. هل لمستم انفتاحاً في الموقف الاميركي بعد زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى كوبا؟ - سمعنا كلاماً وقرأنا عن مواقف مرتقبة، لكن الحصار ما زال كما كان ولم نلمس اي تغيير على الصعيد العملي. هل صحيح ان الكنيسة تقوم بوساطة بينكم وبين الادارة الاميركية من جهة، وبينكم وبين المعارضة الكوبية المعتدلة في الولاياتالمتحدة من جهة اخرى؟ - لا اعتقد بأن ثمة حاجة للوساطة. المطلوب، والواجب، تطبيق القانون الدولي واحترام الاتفاقات والمعاهدات الدولية. واذا كانت اقوى دولة في العالم هي التي ترفض احترام القانون، فماذا نقول للدول والشعوب الصغيرة والضعيفة. يحكى عن استياء في الاوساط الكوبية من انك تحضر شقيقك راوول لخلافتك. - انا لا احضّر احداً لخلافتي، والثورة الكوبية ليست نظاماً مبنياً على الوراثة. للثورة مؤسساتها السياسية التي تعكس ارادة الشعب، وهي تعمل بوحي من خدمة مصالحه. انتقاد المؤسسات والمسؤولين من طبيعة العمل السياسي، ويبدو ان التضليل والاساءة ايضاً. ان وجودي او عدم وجودي لن يغيّر شيئاً في مسيرة الثورة الكوبية. الثورة الكوبية هل تعني ان كوبا بعد فيديل ستكون مثل كوبا معه؟ - تماماً. ثورتنا قادها اشخاص تبدلوا في مواقعهم ومسؤولياتهم، وحتى بعضهم تبدل في اقتناعاته. لكنها ثورة قامت على الشعب وعلى مبادئ تجاوزت حدود جزيرتنا واعتنقتها شعوب كثيرة وهي لا تتغير بتبدل الاشخاص في مواقع المسؤولية. هل عندك ايمان بأن حركة بلدان عدم الانحياز يمكن ان تلعب الدور الذي يعلق كثيرون الآمال في ان تلعبه بعد نهاية الحرب الباردة؟ - لقد ادرك العالم اخيراً انه اذا كان الوقوع في حيّز التجاذبات والتوتر بين القطبين سيئاً، فان الخضوع لمشيئة قطب واحد ولاهوائه اسوأ بألف مرة. ان المطروح ليس مجرد مستقبل هذه الحركة ودورها على الساحة الدولية. المطروح هو بقاؤنا كشعوب، ومن هنا كانت وحدتنا ووقوفنا صفاً واحداً وتحدثنا بصوت واحد، مسألة يتوقف عليها مصيرنا. هل تعتقد ان نلسون مانديلا هو الشخص المؤهل لاحياء هذه الحركة وقيادتها في المرحلة الجديدة؟ - من حظ حركة عدم الانحياز ان يتولى رئاستها زعيم مثل مانديلا، اصبح رمزاً حيّاً للنضال من اجل الكرامة والعدالة والحرية، وللنزاهة والحنكة السياسية. وبات يشكل مدرسة في العمل السياسي والحياة العامة. لكن مانديلا وحركة عدم الانحياز بحاجة لجهود كل منا، والا فاننا سنضيّع علينا فرصة تاريخية سيكون ضياعها باهظ الثمن على شعوبنا وعلى ابنائنا