تغرق الصين تحت فيضانات الأمطار، وروسيا تحت طلبات الدولار، واليابان تحت هموم الين، والولايات المتحدة تحت مسؤوليتها العالمية، وتغرق الأسواق المالية في طوفان المخاوف. وإذا كانت الأزمة الآسيوية قد اندلعت قبل سنة ونيف، لأسباب لها علاقة بالاختلالات الهيكلية في تلك البلدان وبهجمات المضاربين، فإن الأزمة الجديدة التي تهدد بالاندلاع ذات صلة وثيقة بهطول الأمطار! منذ أسابيع والصين تعيش كارثة بيئية كبرى، إذ لم يتوقف المطر لحظة واحدة عن الهطول فوق مناطق شاسعة. وأدى ذلك الى مقتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف، وتدمير عدد كبير من المنازل والمنشآت. وأضحت عشرات ملايين الهكتارات من الأرض الزراعية مغمورة، وتضرر ما لا يقل عن 250 مليون نسمة! وفوق ذلك فإن ثمة مدناً مهددة تماماً، وهناك أنهار يمكن لها ان تجرف مناطق سكنية، وثمة سدود قد تنهار، مع ما يعنيه ذلك من مضاعفة حجم الكارثة. تشير التقديرات الى ان الفيضانات ستخفض نسبة النمو. وقد راجع المسؤولون في بكين هذه النسبة بغية تخفيضها الى ما بين 6 و8 في المئة، وها هم مضطرون الى ذلك مرة ثانية في غضون عام. قد يقول قائل انها تبقى، على رغم ذلك، مقبولة، بل شديدة الارتفاع، مقارنة بالأرقام المتواضعة في أوروبا، وبالركود في اليابان، والنمو السلبي في معظم البلدان التي تعرف ب "النمور الآسيوية". غير أن هذا لا يغير من أن ثمة مشكلة تبدأ بأمطار وتنتهي انهياراً شاملاً في الأسواق النقدية. لماذا؟ لقد أطلقت بكين قبل حوالي عام برنامجاً شاملاً للاصلاح الاقتصادي، يرمي الى التخفف من اعباء قطاع عام مكلف وغير منتج، وتمكين القطاع الخاص، وان كان يخضع لرقابة الدولة من القيام بدوره كاملاً. ويشبه الاصلاح الصيني برامج الاصلاح الأخرى، إذ انه يرمي عمالاً ومزارعين في الشارع. وفي هذه الحال نستطيع الكلام عن ملايين بسهولة. وعلى هذا الأساس فإن نسبة النمو يجب أن تكون مرتفعة جداً حتى يستطيع الاقتصاد استيعاب هؤلاء، واذا لم يحصل ذلك تكون بكين أمام خيارين أحلاهما مر: إما اللعب بنار الغليان الاجتماعي الذي قد ينتهي بتمرد من سكان الداخل ضد المدن الساحلية، واما اللعب بنار السعر الثابت للعملة الوطنية اليوان. ولذلك فإن هناك من يعتقد بأن "السلطة الشيوعية" ستقدم على الخيار الثاني في حال اضطرت الى اتخاذ قرار. ومنذ أشهر والعالم يصفق باعجاب لثبات العملة الصينية في وجه الاعصار الذي ضرب العملات الآسيوية كلها. صحيح ان عدم قابليتها للصرف السهل يساعد على ذلك، ولكن ما لا شك فيه ان قراراً سياسياً يدعم ذلك. وقد أدى ذلك الى خسارة الصين لعدد من أسواقها الخارجية التي أضحت مفتوحة أكثر أمام بضائع آسيوية أرخص ثمناً، بل أمام بضائع يابانية يتراجع سعرها بتراجع سعر الين. وبما ان التجارة الخارجية هي أساس الاقتصاد الصيني فإن انخفاض وارداتها يهدد البنيان كله. وقد جاءت الفيضانات لتعزز هذا الاتجاه ولتفتح الباب أمام احتمال اللجوء الى الحل السهل. وهكذا تعرض اليوان الى مضاربة، وتدخل المصرف المركزي لتثبيت الأسعار من غير أن يلغي احتمال ان تجرف السيول هذا التثبيت. اذا حصل ذلك فإنه سيطلق دورة جديدة من انخفاض أسعار العملات الآسيوية، وبما ان اليابان تحت الحصار حالياً، وبما ان حكومتها الجديدة عاجزة عن انعاش الاقتصاد، فهي معرضة لأن تدخل في دوامة التراجع العنيف. ومتى تذكر المرء ان اليابان تعني الاقتصاد الثاني في الكرة الأرضية، ادرك ان احتمالات الأزمة العالمية باتت أكثر حضوراً. لقد تركت أزمة صيف 1997، آثارها على الأسواق الناشئة كلها، واخطأت الهيئات النقدية الدولية في اعتبار ما جرى مجرد مشكلة عابرة، فهذه الأسواق لم تخرج من عنق الزجاجة حتى الآن، حتى لا نقول، ان بعضها، كما في روسيا مثلاً، يزداد اختناقاً. لقد شهدت الأيام الأخيرة نذيري شؤم في ما يخص روسيا: إقدام الحكومة على التدخل الموقت لمنع تحويل الروبل الى دولار، وهو "اعتداء" على الأفكار الاقتصادية التي تدعي تبنيها. ومن شأن ذلك اشاعة الذعر لدى المستثمرين لمجرد الشعور بأن أموالهم، الموظفة في الاقتصاد المحلي بالروبل، باتت رهينة. العلامة السيئة الثانية: التصريحات التي أدلى بها جورج سوروس معتبراً ان الروبل فوق قيمته الفعلية وانه يحتمل تخفيضاً يراوح بين 15 و20 في المئة. يوصف سوروس بأنه نوع من الحيوانات التي تحس بالزلازل قبل وقوعها. وهو قادر على افتعالها من أجل تثبيت رأيه. لقد كان وراء اخراج الاسترليني من النظام النقدي الأوروبي. وهو المسؤول - حسبما يقول رئيس الوزراء مهاتير محمد - عن المأساة الماليزية. ولذا فإنه عندما يتحدث بهذه اللغة عن روسيا فإنه كمن يعطي اشارة الانطلاق للمضاربة على الروبل وصولاً الى كسره. المفارقة في ما يخص روسيا ان الاضطرابات تحصل بعد الاعتقاد بأن صندوق النقد الدولي توصل مع حكومة سيرغي كيريينكو، الى السيطرة تماماً على الوضع. فلقد تردد الصندوق كثيراً ثم وافق على قروض تصل قيمتها الى 23 بليون دولار. وكان القصد توفير الثقة للمستثمرين، والاحتياطي للحكومة لتدافع عن عملتها، والوقت للاقدام على اصلاحات يأتي في مقدمها ارغام كبار الأغنياء على دفع الضرائب. وذُكر ان الهدف من هذه الأموال سياسي وان الغرض توفير وقت للرئيس بوريس يلتسن حتى لا يسقط أمام خصوم متشددين. ان احتمال تحول فيضانات صينية الى أزمة نقدية عالمية يمثل خطراً حقيقياً، ويدل على أن التداخل الحالي في العلاقات، والاعتماد المتبادل، يمكنهما ان يبقيا بعض الدول بمنأى عن أزمة اقليمية لبعض الوقت، لكن الضرر سيكون شاملاً في نهاية المطاف