عندما حاول وزير الخارجية اليوناني تيودورس بنغالوس الشهر الماضي اقناع تيرانا وبلغراد بالموافقة على خطة لوقف القتال في كوسوفو، قال مراقبون ان أثينا حريصة على تهدئة الموقف في البلقان كي تتفرغ لأزمتها المزمنة مع أنقرة. إذ أن درجة التوتر مع تركيا ارتفعت مراراً بصورة مثيرة للقلق خلال الاشهرالماضية، خصوصاً بعد اعلان نيقوسيا عزمها على نشر صواريخ "اس- 300" الروسية المضادة للطائرات. وينذر النزاع الذي تخوضه الجارتان منذ تقسيم جزيرة قبرص اثر الغزو التركي في 1974، بتصعيد جديد مما دفع الاممالمتحدةوواشنطن الى بذل جهودهما لنزع فتيل الازمة. غير أن الوساطات الاجنبية لم تحقق نجاحاً يذكر، لابل أعرب الوسيط الاميركي ريتشارد هولبروك عن تشاؤمه حيال فرص التوصل الى حل. لكن هل فشل الوسطاء الاجانب هو نهاية المطاف؟ أم أن هناك فرصة أخرى للخروج من المأزق ؟ ثمة دلائل تشير الى أن اليونان عازمة على خفض التوتر على الجبهة العسكرية. وجاءت المعلومات التي تسربت أخيراً عن محاولة اليونان اقناع نيقوسيا بإلغاء صفقة الصواريخ الروسية البعيدة المدى تكريساً لهذا النهج. ويبدو أن أثينا تسعى الى اقناع القبارصة اليونانيين باستبدال صواريخ "اس-300" بأنظمة دفاعية قصيرة المدى من طراز "اس-15" الاقل تطوراً. وهذا سيرضي دولاً غربية أعربت عن قلقها من أن الصواريخ مزودة بأجهزة رادار معقدة قد تتيح لموسكو الحصول على معلومات عن حركة الطائرات العسكرية التابعة لدول في حلف شمال الاطلسي الناتو. ومعروف أن عدداً من طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني تربض في قاعدة أكروتيري القبرصية. ولاشك في أن التدخل اليوناني يصب أيضاً في اتجاه تلبية رغبة تركية، خصوصاً أن أنقرة هددت بتدمير الصواريخ الروسية اذا نفذت نيقوسيا وعدها بنشر 40 منها في قاعدة بافوس. وتذرعت بطول مدى هذه الصواريخ الذي يجعلها هجومية، وليست دفاعية فحسب. واعربت عن قلقها من قدرة الصواريخ الروسية على اسقاط طائرات واصابة اهداف في عمق المجال الجوي التركي. قد يرفع ثني القبارصة اليونان عن المضي في تنفيذ الصفقة الروسية كابوساً حقيقياً عن أثينا. ولا يدل تأكيد المسؤولين اليونانيين حق نيقوسيا بامتلاك الصواريخ والدفاع المشروع عن النفس على حماستهم للصفقة. ويحق لهم أن يشعروا بالقلق لصعوبة استبعاد احتمال نشوب حرب بسببها، فقد تنفذ أنقرة تهديدها بتدمير الصواريخ. وعندئذ لن تملك أثينا سوى التدخل عسكرياً لحماية قبرص بموجب اتفاقية وقعتها الدولتان العام 1995 و تعهدت فيها الدفاع عن الجزيرة "مهما كلف الثمن". والحكمة التي تتسم بها المبادرة اليونانية السرية ليست مفاجئة. والسياسة التي انتهجتها أثينا منذ سنتين على الاقل تدفع في اتجاه تهدئة الاوضاع على الجبهة العسكرية مع تركيا. ويذكر أن التوتر بين الدولتين وصل في كانون الثاني يناير 1996 درجة غير مسبوقة. وكاد خلافهما على جزيرة إميا اليونانية يُشعل فتيل الحرب. الا أن تدخل الولاياتالمتحدة في اللحظة الاخيرة أدى الى عدم اندلاع القتال. لكن أثينا كانت أشد هدوءاً عندما زاد توتر علاقاتها مع انقرة بعد ذلك. وخاض الطرفان سلسلة من المواجهات بدأت بإعلان نيقوسيا صفقة الصواريخ. واحتجت انقرة بشدة على اقامة قاعدة بافوس التي دُشنت في كانون الثاني الماضي. وحين قام الاسطول التركي في حزيران يونيو الماضي بمناورات في بحر ايجة، على مقربة من الحدود اليونانية، حافظت اثينا على هدوئها، مع ان ذلك اعتُبر استفزازاً موجهاً ضدها. وفي نهاية الشهر نفسه أرسلت تركيا 6 طائرات مقاتلة من طراز اف-16 الى قاعدة ليفكونيكو في الجزء الشمالي التركي، من الجزيرة. وقال رئيس الوزراء التركي مسعود يلماز ان ذلك كان رداً ضرورياً على اليونان التي "أظهرت نياتها العدوانية تجاه تركيا". الا أن أثينا التي ارسلت في وقت سابق 4 طائرات من الطراز ذاته الى قاعدة بافوس أكدت ان المبادرة التركية مجرد "عرض للعضلات" يهدف الى خلق "توتر مصطنع". واستبعدت احتمال الحرب على رغم ان الاتراك زادوا تأهب قواتهم في الجزيرة 35 الف جندي. شوكولا وحلوى يونانية وبعد وصول الطائرات الى القاعدتين، توجه الوزير بانغالوس الى تركيا في زيارة أثارت اهتماماً كبيراً، إذ توقف عند مخفر تركي على الحدود الشماليةالشرقية مع بلاده وقدم للجنود الاتراك الشوكولا والحلوى اليونانية. صحيح أن بادرته تلك جاءت بعد أيام من زيارة مماثلة قام بها الرئيس التركي سليمان ديميريل الى مخفر لحراس الحدود اليونانيين. لكن يبدو أن الزيارتين لم تنجحا في تبديد التوتر على طرفي الحدود، فقد تبادل جنود اتراك ويونانيون النار لمدة نصف ساعة على ضفاف نهر ايفروس الذي يفصل البلدين. وربما كانت تلك المناوشات أخطر مواجهة بينهما. هكذا تضفي الاحداث مزيداً من الصدقية على تعهد رئيس الوزراء اليوناني كوستاس سيميتيس للرئيس الاميركي بيل كلينتون بأن تركيا، وليس اليونان، ستكون مسؤولة في حال تفجر الازمة. لكن اذا كانت أثينا تسعى الى الابقاء على الجبهة العسكرية هادئة، فهي تخوض حرباً ديبلوماسية شرسة ضد جارتها اللدود. وألحقت هذه الحملة الديبلوماسية أضراراً بمصالح تركيا. ومن الطبيعي أنها تساهم مباشرة في إذكاء الصراع وتصعيد الازمة على المستوى العسكري. ولذلك حضّ الرئيس كلينتون رئيس الوزراء اليوناني على التزام هدنة موقتة كي لا يدفع بالنزاع في اتجاه الحرب. ويبدو أن أسباباً سياسية ساهمت في التصعيد العسكري التركي الذي تجلى في المناورات البحرية وفي ارسال طائرات "اف-16" الى الشطر الشمالي من قبرص. حصل ذلك بعد أشهر من نجاح الحكومة اليونانية في اقناع دول الاتحاد الاوروربي بعدم الموافقة على طلب الانتساب الذي قدمته تركيا. ورُفض الطلب مع أن أنقره اعتمدت على دعم أصدقاء، منهم بريطانيا. ولما باءت المحاولة الجديدة بالفشل أعربت عن خيبة أملها، وأطلقت تصريحات كادت تفسد علاقاتها مع دول اوروبية. وسعت بريطانيا الى الحصول على موافقة دول الاتحاد الاوروبي في قمة كارديف التي عُقدت في حزيران الماضي على القيام بمبادرة لاسترضاء تركيا. الا أن اليونان كانت بالمرصاد. واستخدم سيميتيس الفيتو لإبقاء تركيا خارج الحظيرة الاوروبية. واوروبا ليست الميدان الذي تخوض فيه اليونان أشرس معاركها ضد تركيا، بل هي أيضاً السبب الرئيسي في انتهاجها سياسة ضبط النفس. وأثينا تكرس جهودها لدخول الاتحاد النقدي الاوروبي بحلول العام 2001 على أمل أن يخلصها من مأزق الفقر. من هنا فهي في غنى عن الانشغال عن هدفها الاساسي بنزاع عسكري لاطائل منه مع شريكتها في حلف شمال الاطلسي. حرب محدودة؟ غير أن أنقره التي تراجعت على الجبهة الديبلوماسية، تمارس سياسة مختلفة. وهناك من يرد محاولة تركيا الى التصعيد عسكرياً مع اليونان -أو سورية وايران والعراق- الى وضعها الداخلي. ومن المعروف أن حكومة مسعود يلماز تخوض صراعات على أكثر من جبهة داخلية، خصوصاًمع الاسلاميين والاكراد. وفيما لم تنفِ تركيا وجود صعوبات داخلية، بدأت تتهم اليونان بالسعي لاستغلال تلك الصعوبات بأسلوب عسكري. فقد قال الجنرال اسماعيل حقي قاراضاي رئيس الاركان التركي:"ثمة عناصر يونانية تبالغ في تصور درجة عدم الاستقرار السياسي في تركيا ... وهم يرغبون باستغلال ذلك عن طريق بدء اشتباكات محدودة بين الدولتين". ويعتقد مسؤولون اتراك بأن اليونان تأمل بتحقيق انتصار سياسي من هذه الحرب، حتى لو خسرتها، اذ ستهب اوروبا الى نجدتها ومعاقبة تركيا. لكن لماذا تسعى أثينا الى الحصول على التأييد الاوروبي اذا كانت تملكه أصلاً؟ وكيف تبادر الى استعمال اسلوب الحرب، وهي تحقق الانتصارات عن طريق الديبلوماسية وحدها؟ لاشك في أن اثينا تجد نفسها مرغمة احياناً على مجاراة انقرة، برفع درجة التوتر العسكري. وهي لا تجد بداً من حماية القبارصة اليونانيين من أي تهديدات تركية، خصوصاً في سياق العقبات التي تواجهها عملية السلام. ولعل موقف زعيم القبارصة الاتراك رؤوف دنكطاش يأتي في طليعة العقبات التي يصعب تذليلها. فهو يطالب بالاعتراف ب "جمهورية قبرص التركية" التي اعلن قيامها العام 1983، قبل الدخول في اي مفاوضات حول مستقبل الجزيرة. لكن لم يصغِ أحد حتى الآن لرغبة دانكطاش، إذ لم تحظَ باعتراف أي دولة سوى تركيا. وحتى تلوح في الافق بوادر انفراج، فأن كلاً من البلدين يواصل استعداداته تحسباً لتصعيد محتمل. واللافت أن تصريح الجنرال قاراضاي جاء في وقت ركزّ الطرفان جهودهما لشراء أسلحة أميركية. وربما كان التصريح يهدف في أحد جوانبه الى وضع عراقيل جديدة في وجه صفقة بيع أسلحة أميركية لليونانيين، خصوصاً أن مساعي تركيا للحيولة دون حصول جارتها على صواريخ اميركية مضادة للطائرات من طراز ستينغرلم تنجح. فالارجح أن واشنطن ماضية في صفقة الصواريخ الخفيفة على رغم تحذيرات أنقرة من خطر وقوع هذه الاسلحة في ايدي أصدقاء أثينا: مقاتلي "حزب العمال الكردستاني". وفي الوقت نفسه أبدت واشنطن استعدادها أيضاً لبيع تركيا أسلحة شتى. وأشار المجلس البريطاني -الاميركي للمعلومات الامنية الى أن الولاياتالمتحدة عاكفة على مواصلة بيع السلاح للبلدين، مع أنهما يملكان دبابات يزيد عددها عما تملكه بريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا مجتمعة. كيف اذن تحاول واشنطن أن تهدئ الاحوال بين انقرةواثينا؟ سباق التسلح اتهمت منظمة "غرين بيس" البيئية العالمية تركيا بالتخطيط لاقامة مفاعلات نووية على شواطئها الجنوبية، مما يهدد بالخطر منطقة شرق المتوسط والبلقان. وكان الاتهام الذي لم يستقطب اهتماماً كبيراً، جاء في نيسانابريل الماضي على لسان ستيليوس بسوماس مدير مكتب "غرين بيس" في أثينا. وقال الناشط البيئي في مؤتمر صحافي ان تركيا تسعى الى إنشاء "10 مفاعلات نووية قبل العام 2020" في مدينة اكويو. وأضاف إن كلفة المفاعل الاول تُقدر بخمسة بلايين دولار. ومن جهة أخرى، تسعى تركيا الى تعزيز انظمتها المضادة للطائرات، وحماية مجالها الجوي من اعتداءات تراها محتملة من جانب دول مجاورة. وقد اتفقت مع اسرائيل على اتخاذ خطوات مشتركة للوقاية من الصواريخ البالستية الايرانية. كما يُجري خبراؤها مفاوضات مع بريطانيا للتعاون على انتاج صواريخ من طراز رابير. ويعتقد أن وفداً بريطانياً سيضع اللمسات الاخيرة على الاتفاقية اثناء زيارة يقوم بها لتركيا الخريف المقبل. تحاول انقرة تطبيق برنامج واسع لتحديث عتاد قواتها البرية. وتردد أن البرنامج يتضمن بنداً يتعلق بتحديث الدبابات القديمة، وآخر لانتاج دبابات جديدة. وفيما ستصل كلفة التحديث الى 3 ملايين دولار، فأن نفقات الانتاج لن تقل عن 7 ملايين دولار. وقد طلبت انقرة من شركات اميركية واسرائيلية وفرنسية وبريطانية وصينية تقديم عروضها لانتاج الدبابات الجديدة. وستشتري تركيا 14 فرقاطة اميركية من طراز كنوكس مزودة بصواريخ موجهة من طراز بيري. ويعتقد أن ثمن الفرقاطات والاسلحة التي ستجهز بها سيزيد على مليون دولار. أما اليونان فقد اتفقت مع الاسطول الاميركي على شراء 14 بارجة مسلحة بصواريخ "كيد" الموجهة. وتبلغ قيمة هذه الاسلحة المتطورة المصنوعة في السبعينات 474 مليون دولار. وتسعى الدولتان الى شراء عدد من طائرات "اف-16" المقاتلة اضافة الى مروحيات هجومية ودبابات وقطع سلاح بحرية أميركية. وأُشير الى أن اليونان ستدفع 15 بليون جنيه استرليني لقاء صفقات الاسلحة الاميركية، فيما ستبلغ الكلفة الاجمالية لبرنامج التسلح التركي 19 بليوناً. الصاروخ الروسي "اس - 300" صاروخ أرض-جو متطور معادل للصاروخ الاميركي باتريوت. الا انه أكثر فاعلية من الاخير لأن بوسعه اصابة 6 بدلاً من 3 أهداف، وعلى ارتفاع 25 متراً بدلاً من 60 متراً. وهو اكثر مرونة، اذ يمكن نصبه فوق شاحنة في حين ان باتريوت ينصب على مقطورة. ويستطيع "اس-300" تدمير هدف على مسافة تبلغ ضعفي مدى باتريوت، كما يمكنه أن يصيب أهدافاً مختلفة في اتجاهات شتى، منها طائرات وصواريخ ومروحيات. ويتميز الصاروخ الروسي عن معادله الاميركي في أنه ينطلق عمودياً وليس وفق زاوية معينة. وهذا يسمح بتغيير زاوية اطلاقه حسب الحاجة. وتحدد زاوية الاطلاق حجم المنطقة التي يستطيع الصاروخ الروسي حمايتها، اذ يمكنه أن يؤمن غطاءً لمنطقة ترتفع 100 متر عن الارض أو لمساحة تراوح بين 100 متر و50 كيلومتراً. ويمكن تجهيزه للاطلاق في 5 دقائق.