عام كامل مضى على انتخابات الرئيس محمد خاتمي والكل في ايران مشغول بالحديث عن 23 ايار الثاني من خرداد الشهر الايراني لأن انصار خاتمي والذين وجدوا في شعاراتهم مبرراً للعودة الى الساحة، بعد غياب قسري، يهاجمون الطرف الآخر بسلاح "الثاني من خرداد" لدى انتقاد اداء الحكومة، مهددين بپ"رسالة الانتخابات التي لم يفهمها او يدركها الجناح الذي خسرها"، لقمع "الرأي الآخر" الذي اكد الرئيس خاتمي انه "يحترمه"، وقال قبل ايام من الاحتفاء بالثاني من خرداد، ان على انصار الحكومة تجنب اثارة التوتر في المجتمع محذراً "الذين يريدون استغلال نتائج الانتخابات بطريقة او بأخرى". واللافت ان "انصار حزب الله" المتشددين لم يعودوا يهاجمون خاتمي كما كانوا يفعلون، لان الرئيس لم يغفل ارقام المعادلة، في شأن العلاقة مع الولي الفقيه اقوى سلطة سياسية ودينية في ايران، اذ عرف كيف يضمه الى صفه مؤيداً لبرامجه، حتى ان علي خامنئي اثنى على الرئيس الجديد مرات عدة، اهمها في حديث "المصارحة والمكاشفة" بين خامنئي وطلاب جامعة طهران، اذ اكد انه يعرف الرئيس خاتمي منذ وقت طويل، ويدرك مدى اخلاصه لنهج الثورة الاسلامية. وقال رداً على اتهامات "مبطنة" من "بعض" انصار اليمين الديني المحافظ تأخذ على خاتمي سماحه لبعض الاطراف باستغلاله "ان احداً لا يستطيع الاختباء خلف الرئيس لتحقيق مآربه الشخصية او الحزبية". كذلك، فان خاتمي الذي كان متهماً بضعف الاستجابة للافكار الدينية الاصيلة وب "الليبرالية المذهبية" والانحراف عن خط علماء الدين - قبل وبعيد الانتخابات - تمكن من انتزاع "اعتذار" كبار الشخصيات والرموز الدينية الذين عارضوه "بشدة" ومن بينهم امام جمعة الاهوار، مركز اقليم خوزستان، حجة الاسلام سيد موسوي جزائري، فهو لم يسمح لخاتمي بالقاء خطاب في المسجد الجامع في الاقليم الذي صوت بمعظمه له، وعرقل كل برنامجه الانتخابي، لكنه وقف في المصلى وقال: "انني اعتذر". والشيء نفسه فعله رئيس مجلس الخبراء المعني بشؤون الولي الفقيه، تعيينا وعزلاً، آية الله علي مشكيني، وآخرون في قم معقل المحافظين التقليديين ومراجع الدين. ولقد تأكد لكثيرين في ايران، ان خاتمي ليس الا "ابن النظام" الوفي لمبادئه واصوله. وهو اخطر على اعداء ايران، من اولئك الذين يرفعون شعارات ولا يعرفون تصريفها في عالم متغير. وحتى التصريحات التي نسبت لقائد الحرس الثوري رحيم صفوي هاجم فيها خلال اجتماع داخلي، سياسة الرئيس خاتمي الخارجية ورموز الحكم الاصليين، "تراجعت" بكلام مهم لقائد الحرس لمح فيه الى ان سياسة خاتمي في تخفيف حدة التوتر، نجحت في منطقة الخليج، اذ قال في ندوة عن استخدام الجغرافيا في الامن والدفاع الوطني: "ان سياسة ايران الخارجية قطعت اشواطاً ايجابية باتجاه تحسين العلاقات مع دول الخليج". وعلى الصعيد الاقتصادي، وعلى رغم ان برنامج خاتمي يظل واعداً مع ان الازمة الاقتصادية تثقل كاهل المواطن، الا ان ذلك لا يعني ان الرئيس الذي اشترط تحقيق الانفراج السياسي مقدمة للتنمية الاقتصادية، لم يقدم شيئاً لشعبه. فلقد تقاطرت على طهران في الايام القليلة الماضية، وفود اقتصادية من فرنسا وبريطانيا وهولندا وايطاليا وبلجيكا وغيرها، بينما الازمة السياسية مع المانيا في طريقها الى الانفراج لتحافظ الاخيرة على موقعها كشريك تجاري اول لايران. استثمارات اوروبية والحديث عن الاستثمارات الكبيرة في المشاريع الايرانية اصبح الشغل الشاغل للاوروبيين الذين اكدوا انهم لن يجاروا الولاياتالمتحدة في سياسة عزل ايران، وان توقيع شركات ومصارف فرنسية وايطالية اخيراً على اتفاقات لتوظيف 6.1 مليار دولار في ايران، وقرار "بريتش بتروليوم" فتح فرع لها في طهران ومعاودة العمل في منشآت النفط الايرانية، وتصريح الناطق الرسمي باسم الخارجية الالمانية اثر زيارة وفد سياسي الماني لطهران، ان بلاده لا تعتبر ايران دولة ارهابية، واعتذار بون اثر تعرض مركز "بيت ايران" في كولونيا لاعتداء من مجاهدي خلق لمناسبة ذكرى عاشوراء، مؤشرات على نجاح سياسة خاتمي الخارجية بابعادها الاقتصادية. واما الفصل الابرز في سجل الرئيس الايراني على صعيد العلاقات الخارجية فهو التعاون الايراني - السعودي والتطور اللافت في العلاقات بين البلدين، مثلما عبر محمد علي ابطحي مدير مكتب الرئاسة، والعضو البارز في جماعة "روحانيون مبارز" الحركة العلمانية الاصولية وقائدة جناح اليسار الديني المتشدد في ايران. فقد اكد ابطحي في تصريحات خاصة، ان المؤشر على نجاح سياسة ايران تجاه الدول العربية، يبرز في مثال العلاقات الايرانية - السعودية. لكن لماذا وضع ابطحي هذه العلاقات في المقدمة؟ وما هي الاهمية في كون جماعة اليسار الديني المتشدد تتبنى حالياً منهج التقارب مع الرياض؟ ان "مجمع روحانيون مبارز" هو الخط الاقرب الى نهج الامام الخميني الراحل ووصيته السياسية حول علاقات ايران الخارجية. وهو نفسه الذي عارض تصريحات اطلقها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني في ايار مايو 1993 اعرب فيها عن رغبته في رفع مستوى اللقاءات مع السعودية. ويعني ذلك ان خاتمي الذي كون لجنة من كبار المستشارين تضم اقطاب التشدد من اليسار الديني، تمكن خلال الاشهر القليلة الماضية من تسلمه الحكم في آب اغسطس الماضي من "تعديل" نهج اليسار الديني نحو مزيد من الواقعية. وحتى ملف عمدة طهران كرباستشي، كان أيضاً في مصلحة خاتمي على رغم التداعيات. فكرباستشي اعتقل وافرج عنه "اكراماً" للرئيس الذي لم يتجاوز القانون وهو يؤكد في رسالته لمرشد الثورة احترامه الكامل لقوانين البلاد مطالباً بالافراج عن كرباستشي. وجاء في الرسالة ان "اعتقال عمدة طهران أوجد مشاكل للنظام الاداري والتنفيذي في البلاد متضمناً مخاطر جانبية اجتماعية وسياسية واقتصادية... ولأن شعارنا الذي يحظى بتأييد مقامكم الموقر هو تعزيز سيادة القانون والأمن الاجتماعي والاقتصادي والقضائي في البلاد، فاننا نرجو إذا وافقتم، ان يصار الى الافراج عن عمدة طهران لتتم معالجة الملف في جو أكثر هدوءاً وبعيداً عن الضوضاء المفتعلة التي تضر بمتابعة الموضوع في اطار رعاية القوانين والموازين". وينظر العارفون الى ان المرشد علي خامنئي وافق على طلب خاتمي على رغم ان قرار قاضي الشعبة 26 استند الى البند الخامس من المادة الخامسة لقانون تشديد العقوبات على مرتكبي الاختلاس والارتشاء الذي صوت عليه مجلس تعيين مصلحة النظام. وحسب هذه المادة لا يمكن لأية جهة نقض قرار اعتقال كرباستشي شهراً كاملاً على ذمة التحقيق قابلة للتمديد اذ لا يمكن اخراجه بأية ضمانة من السجن قبل انتهاء التحقيق، لكن المرشد استجاب لطلب الرئيس وأبلغ رئيس السلطة القضائية في رسالة رسمية "ان رئيس الجمهورية المحترم وجه رسالة أعلن فيها ان استمرار اعتقال السيد غلامحسين كرباستشي عمدة طهران أدى الى خلل في النظام الاداري للبلاد متضمناً آثاراً جانبية مضرة، وطلب الافراج عن المذكور لكي يستمر الطريق القانوني في جو بعيد عن الضوضاء المضرة، لذا ومع الثقة بما اعلنه الرئيس المحترم للسلطة التنفيذية أجد لزوماً ان تصدروا تعليمات للافراج عن المذكور...". هذه الثقة التي منحها خامنئي لخاتمي تعززت بعد انتخابه بقول المرشد في لقاء "المصارحة والمكاشفة" مع الطلاب الجامعيين انه عندما قال العام الماضي ان أي رئيس ايراني جديد لن يكون له كالرئيس السابق رفسنجاني، لكن انتخاب خاتمي غيّر كل شيء "قلت ما قلته قبل ترشيح السيد خاتمي للرئاسة". وأضاف خامنئي انه يدافع عن شعار الرئيس لايجاد المجتمع المدني الذي يريده خاتمي على أساس مدينة النبي ص "وكلنا نضحي بأرواحنا في سبيل تحقيق شعار الرئيس خاتمي". ان الذين يعرفون خامنئي وتشدده في موضوع "انحراف الخواص عن الجادة"، يدركون ان المرشد لا يثني على خاتمي "لكي يستوعبه" أو "يركب الموجة الشعبية لمصلحة الرئيس" مثلما يفسر البعض ممن ينظر الى موقف خامنئي أثناء الانتخابات الرئاسية مذكراً بما تردد عن ترجيحه رئيس البرلمان علي أكبر ناطق نوري. ذلك ان الرئيس جذب المرشد اليه وأكد "ثنائية" كانت في عهد الرئيس السابق رفسنجاني مع كل ما يثار من أحاديث عن "الاثنينية" بين الرئيس والمرشد. طبعاً لا يستطيع أحد ان يتجاهل الرئيس السابق رفسنجاني ودوره الذي يبقى متميزاً حتى بعد انسحابه من السلطة التنفيذية، وهو يرتب للرئيس الجديد رموز المعادلة الجديدة، لعلاقات ايرانية اقليمية - بشكل خاص - بالتوجه التاريخي صوب السعودية مع وفد برلماني حكومي كبير ليؤكد رفسنجاني ان علاقات طهران والرياض خيار ايراني موحد، بالأجنحة الرسمية المختلفة. لكن ملف عمدة طهران لا يزال مفتوحاً، والى جانبه ملف حرية الصحافة. وقد وجه نحو 200 نائب رسالة مثيرة الى خامنئي طالبوه فيها بالتدخل لمنع صحف "الفتنة" من الاستمرار في الصدور "والتصدي لانحراف الخواص". ولم يُعرف حتى الآن من هم هؤلاء النواب لأن أكثر من 100 نائب من "مجمع حزب الله" الموالي لخاتمي وبرامج حكومته يجتمعون هذه الأيام لتقديم اسماء المرشحين لرئاسة البرلمان وعضوية هيئة الرئاسة واللجان بعد انتهاء المدة القانونية وهي سنة كاملة قابلة للتجديد. وكان خامنئي شرح للطلاب في جامعة طهران موقفه من حرية الصحافة عبر تأييده أسلوب خاتمي بقوله: "ان من تسمى بالصحف الرديئة تنحسر أمام تقوية الصحف الجيدة". وبذلك يصبح واضحاً ان خامنئي لا يؤيد سياسة قمع الحريات مع أنه لا يتدخل كثيراً في الجزئيات. ويعتبر أنصار اليمين الديني المحافظ ان الحرية التي تشهدها الصحافة الايرانية منذ مجيء حكومة خاتمي تعرض الأمن القومي للخطر بينما يرى آخرون ان ما تشهده الساحة الصحافية الايرانية من حريات، يساعد في تقويم وتعزيز الأمن الوطني والقومي. ويرى خاتمي وحكومته ان حرية الصحافة "أمر بين أمرين" متبعاً نهج الوسطية وداعياً اولئك الذين لا يملكون القدرة على ممارسة الحريات وتحملها، الى الانسجام مع متطلبات المجتمع الذي عاش عهوداً من الاستبداد وعليه ان يتدرب على استخدام الحريات الفردية والاجتماعية، ويبحث عن التناسب المطلوب بين الحرية والفكر الديني والقانون "لكي لا نستعجل على الحكومة الحرية المطلوبة" مثلما قال وزير الثقافة عطاء الله مهاجراني. ويسعى خاتمي مع مؤيديه من الرموز الدينية الكبيرة الى انهاء ملف خليفة الإمام الخميني المعزول حسين علي منتظري. وإذ عاد الهدوء الى اصفهان وسط ايران التي شهدت في 15 أيار مايو الجاري مع مدينة نجف آباد التابعة لها مسقط رأس منتظري تظاهرات حاشدة تأييداً للمرشد وتنديداً بمحاولات انصار منتظري رفع القيود المفروضة عليه، فإن بعض المحتجين ضد منتظري طالبوا باستقالة إمام جمعة اصفهان وممثل الولي الفقيه سيد جلال الدين طاهري. ولوحظ ان حجة الاسلام قاضي عسكر أم صلاة الجمعة في اصفهان بعد التظاهرات وقبلها كإمام جمعة موقت بدلاً من طاهري الذي يدعو الى حل الخلاف مع منتظري بعيداً عن الأضواء. وعلمت "الوسط" من أوساط قريبة من الرئيس ان خاتمي تلقى رسالة من جماعة "المدافعون عن الثورة الاسلامية" ومقرها سمنان القريبة من طهران تحثه على "اتخاذ مواقف جدية للتصدي للصحف والمجلات المثيرة للفتن" وأضافت الرسالة "عندما تتعرض الثورة وأصولها للهتك فلا تتوقعوا منا الصبر... فإن للصبر حدوداً" 0