عندما رأى سعدي يوسف الكنغر للمرة الاولى في مدينة سيدني الاسترالية، استهوته خطواته الواثبة، وهو يتلفت في غير ذعر، لا يبالي بالمتفرجين، صغاراً أو كباراً. "الكنغر لا يستقر طويلاً في مستقر حتى لكأنه يستمتع بانتقالاته الرشيقة، معتبراً الفضاء الوسيع بيته بلا منازع". ولذا استعار الشاعر العراقي من خطوته عنوان كتابه الصادر حديثاً عن "دار المدى". فاللغة في "خطوات الكنغر" تنتقل متوثبة بين الأماكن والكتب والاهتمامات الشخصية، محاولةً الامساك بالمعنى. يجد القارئ نفسه أمام كتاب يتجاوز مفهوم "السيرة" المتعارف عليه، إلى فهم أشمل يعكس علاقات الكاتب بالأمكنة، وبما يكتب من شعر ورواية. كأن صاحب "مثلث الدائرة" يريد أن ينقل إلينا دهشته الطفولية، من أشياء لا يبدو انها تثير الدهشة للوهلة الأولى. تعكس النصوص ولع الشاعر بالتفاصيل الحميمة، وترشح بانطباعاته الأولى عن الأمكنة، ونلمس من خلالها نزعة الاكتشاف الكامنة في عمق أعماقه. نبدأ من جبال كردستان، حيث يعود سعدي يوسف لاكتشاف عالم جديد تكوّن بعده، ونصل إلى أستراليا التي عاد منها الشاعر بصور معينة لم يجدها في الواقع. فقد رأى حيواناً "بطيء الحركة، شبه ساكن، حجمه بحجم أرنب كبير". لكنه بقي متأكّداً من انّه سوف يرى الكنغر الكبير، "في أحلامه الهائمة". وهل هذه الرغبة الطفولية سوى تمرّد على الواقع، وعلى الأهوال والخيبات والهزائم؟ الأمكنة عند سعدي يوسف ليست فقط تلك المكتشفة حديثاً، بل هي أيضاً المرتبطة بالرحيل. فبعد أن يدهشنا معه بمتعة الاكتشاف، يصدمنا بوصفه المؤثر حين يستعيد مغادرته القسريّة للمدنَ التي أحبّ. يبدأ بمدينة عدن، ثم يعود إلى البصرة، فبيروت وأخيراً باريس. وفي كل مدينة قصة مؤلمة، كأنها لقطة أخيرة لمدينة تغيب تحت الثرى. وتضمّ أجزاء الكتاب الأخيرة آراء الشاعر بما يكتب من شعر في بعض الأقطار العربية التي لم يعرف عنها الكثير. كما تشتمل على آرائه في بعض الروايات التي ترجمها إلى العربية، كأنه يحاول اقناعنا بأنها، هي الأخرى، تعبر عنه. "خطوات الكنغر" رحلة ممتعة برفقة شاعر يمتلك أسرار النثر ومفاتيحه السحريّة، ويختزن نصّه قدراً هائلاً من العفوية التي تصل إلى حدود الدهشة.