حدث أن كنت مرة في زيارة لبيت المخرجة المصرية أسماء البكري في القاهرة، فعثرت على رواية في عنوان"شحاذون ومتعجرفون"ورحت اقرأها بشغف شديد ولما كانت أسماء شحيحة في إعارة الكتب للآخرين، وتبعاً لما تركته فيّ الرواية وجدتني آخذها من دون استئذان وأنا في طريق العودة إلى الإسكندرية في القطار. لم تسعفني ضجة القطار في أن أستمتع بالقراءة، لكنني ما ان وصلت إلى بيتي حتى بدأت في ترجمتها ليس أبداً لأنقلها إلى القارئ العربي فأنا أستمتع بما أقرأه وأنا أكتبه أكثر مما أستمتع بالقراءة وحدها. وبدت الترجمة بمثابة اكتشاف لعالم غريب وجديد سبق أن قرأت عنه في روايات نجيب محفوظ، ولكن هنا يوجد مذاق مختلف تماماً. صحيح أن الرواية تدور أحداثها في منطقة الأزهر التي دارت فيها أكثر من ثلث ما كتبه محفوظ، لكن الشخصيات هنا مختلفة تماماً، خصوصاً الأستاذ جوهر أستاذ التاريخ الذي قرر الاستقالة من الجامعة احتجاجاً على تزوير التاريخ في المناهج الدراسية. وإذا كان"جوهر"أستاذاً مصرياً فإن سلوكه العدمي أقرب إلى الشخصيات الأوروبية في روايات ألبير كامو وسارتر. وباختصار فإن شخصيات قصيري لها موقف محدد من الحياة. جوهر مثلاً يمكنه أن يعيش من دون أي متطلبات حياتية، وأن ينام فوق حاشية من ورق الصحف تتبلل من مياه غسيل الموتى وهو رجل يحلم بالحشيش الذي يهرب به من الواقع ويحب النوم نهاراً والاستيقاظ ليلاً. وپ"جوهر"هذا يرتكب ما سماه الكاتب الجريمة المجانية، فهو يقتل العاهرة أرنبة لمجرد أنه تصور أن"الغوايش"التي تضعها حول معصمها من الذهب الخالص، فإذا به يكتشف أنها"فالصو"أي أنه قتل بلا فائدة. وليست هذه هي الشخصية الوحيدة في الرواية، فهناك الكردي الموظف الثوري بلا سبب الأشبه بأبطال فيلم"ثائر بلا سبب"إخراج نيكولاس راي 1955 وقام ببطولته جيمس دين قبل أن يكتب البير قصيري روايته بأعوام عدة، أما الشاعر"يكن"فهو شخصية حقيقية عرفت في العالم الثقافي، وهو أقرب الى أمل دنقل الذي لم يكن ظهر بعد في الساحة الأدبية. أما الشخصية الرابعة فهو الضابط الذي يحقق في الجريمة ويكتشف سحر العالم السفلي للمدينة، فيقرر حين اكتشف الحقيقة أن ينتقل أيضاً الى القاع. أهمية هذه الشخصيات كلها أن لها موقفاً من الحياة. وعلى رغم الزخم الملحوظ في روايات نجيب محفوظ فإن الشخصيات التي تعيش في الأماكن نفسها عند قصيري تقف موقفاً محدداً من الحياة. توقفت عند هذه الرواية، وبعد أن انتهيت من ترجمتها كان لا بد من نشرها، فتقدمت بها إلى الأستاذ فتحي العشري المشرف على سلسلة"الرواية العالمية"الصادرة عن هيئة الكتاب وتحمس لنشرها وبدت المشكلة في العنوان، فلا شك في أن الترجمة الأقرب هي"شحاذون ومتعجرفون"، لكنها لا تعطي المعني المطلوب، كما أن الترجمة أقرب الى المقولة الشعبية"شحات ومشارط"، لكنها كلها غير معبرة عن المعنى الأساس لدرجة أن أسماء البكري اختارت كلمة"نبلاء"وهي التي تعرف الفرنسية خيرا مني عشرات المرات. ونشرت الرواية، وهي تمثل اكتشافاً لكاتب مصري كبير، لا يكاد أحد أن يعرفه في مصر. كاتب يجب أن يقرأ في اللغة العربية لأسباب عدة أولها أن قصيري كتبها بعقلية مصرية حتى وان تم ذلك باللغة الفرنسية، والأرجح أن الكاتب ألفها لزملائه الذين يعرفون اللغة الفرنسية من المصريين الفرنكوفونيين، وليس في المقام الأول للفرنسيين، وتكرر هذا في روايات أخرى. اعترف بعد هذه الأعوام أنني غيرت في الترجمة عبارة واحدة، فنور الدين الضابط يقول للشاب سمير"أريد أن أنام معك"وقد غيرت هذا المعنى الذي لم يغفره لي الكثيرون إلى"أنت تعجبني". أما الذي لا يغتفر لي فهو أن الكاتب أسمى بطله بyegen. في تلك الفترة كان مناحم بيغن لا يزال في السلطة وخشيت أن يتم القول إن قصيري هو كاتب يهودي يؤصل للمثقف اليهودي، واكتشفت في ما بعد أن البطل ليس مثلما سميته"يحيى"ولكن"يكن"، ولا أعرف لماذا لم يكتب المؤلف حرف الكاف في الاسم. وددت أن أغفر لنفسي أنني استعرت الكتاب، فأبلغت أسماء البكري باكتشاف النص وطلبت منها أن تقوم بإخراجه هي التي كانت تبحث دوماً عن نص تكتبه وتخرجه للسينما. وحقيقة، لم يضايقني أنها لم تستعن بي في كتابة الحوار لأنني تلقيت الكثير من التقريظ والهجوم على ترجمة الرواية، وأحسست أن خريطة الأدب في مصر يجب أن تتغير بترجمة الرواية واكتشاف البير قصيري في لغته الأصلية. وبالفعل عندما جاء الرجل إلى مصر بعد طول غياب لتوقيع عقد الفيلم كان لي شرف أن أقابله وأن أرافقه في رحلته داخل القاهرة، ورأيته يملأ التاكسيات التي كنا نركبها بالمزاح والنكات بلغة عامية غير مكسورة، ورأيت أمامي إنساناً محباً للحياة، لم يعلق على ترجمتي سوى بكلمة مدح كتبها في أربع كلمات، ولما عرف أنني بصدد أن أترجم له رواية أخرى لم يعلق وانصاع لي عندما طلبت منه الذهاب لتهنئة نجيب محفوظ بحصوله على جائزة نوبل، وكان حصل عليها لتوه، والتقطت له صوراً مع نجيب محفوظ الذي بدا مجاملاً، لكنه لم يكن يعرف أي شيء عنه. ولعل هذا هو السبب الذي جعل قصيري يتهمني في ما بعد بأنني أخذته إلى مكتب محفوظ في"الأهرام". لكنني لم أبالِ، فالرجلان كانا يجب أن يلتقيا ولو لثانية واحدة. وحضر البير قصيري تصوير المشاهد الأولى من الفيلم، في إدارة أسماء البكري، علماً أنها المرة الثانية التي يتم فيها تصوير الرواية سينمائياً بعد الفيلم الذي قام ببطولته جورج موستاكي. أما الرواية الثانية فهي"منزل الموت المؤكد"وهي الرواية التي كتب لها السيناريو يوسف فرنسيس وأخرجها جلال الشرقاوي عام 1968 باسم"الناس اللي جوه". البير قصيري أطول قامة من أن تتحول رواياته إلى أفلام عادية، فهناك فارق واضح بين الجو الحيوي المتدفق في رواية الكاتب وبين فيلم"شحاتين ونبلاء". هناك فرق واضح بين الموقف الساخر بين المحقق ومحصّل الحكومة في الفيلم والرواية. أما موقف عبدالعال"العربجي"في رواية"منزل الموت المؤكد"فهو لم يظهر قط في الفيلم. قد نقتنع بموقف أستاذ جامعي يستقيل احتجاجاً على تزييف المناهج، أما عبدالعال الحوذي فهو مواطن آخر من مواطني روايات قصيري الذين لهم مواقف في الحياة، فهو الذي يؤلب سكان البيت الأيل الى السقوط للوقوف ضد صاحب البيت من حرمانه أن يكون صاحب بيت وذلك بترك الدار. هذا الموقف يؤرق صاحب البيت، فهو من دون السكان الآخرين لن يصبح صاحب بيت. بعد ترجمة المزيد من الروايات، عقب نشر ترجمة رواية"منزل الموت المؤكد"التي صدرت عن دار سعاد الصباح، بدأت في ترجمة رواية"العنف والسخرية"لنشرها في سلسلة"الهلال"، وكان أبطال الرواية مجدداً أصحاب مواقف من الحياة، فهم يريدون إسقاط الحاكم متمثلاً في المحافظ وذلك من طريق نشر رسوم كاريكاتورية تسخر منه. انها رواية تدور أحداثها في مدينة ساحلية، وأبطالها لهم مواقف محترمة جداً في الحياة. والتفتت أسماء البكري إلى الرواية مجدداً، وكتبت لها السيناريو وبدت كأنها وقعت في أسر الكاتب مثلي. وكانت الرواية الرابعة لتي ترجمتها هي"كسالى في الوادي الخصيب". ترجمت الروايات الأربع التي تدور في المناطق الشعبية وعالم البسطاء من المصريين، بما أنها مكتوبة في المقام الأول للقارئ المصري الذي يعرف اللغة الفرنسية. ولا شك في أن ترجمة هذه الروايات ساعدت في تغيير خريطة الأدب العربي في مصر. فكم من أدباء مصريين تاهوا في اللغات الأخرى من دون أن يقرأهم أحد في بلادهم، وهم الكتاب الذين يعتبرون من الأجانب في هذه البلاد. البير قصيري في حاجة ماسة الى أن تترجم أعماله كافة إلى اللغة العربية خصوصاً على يد مترجمين أكثر مني كفاءة.