سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"مرآة المجتمع المدني" في مواجهة التخلف والتسلط والتعصب . "ملحمة العرب المحدثين" تحيي الهامش وتخترق اللغة المسيطرة . وطيف نجيب محفوظ يخيم على مؤتمر القاهرة للابداع الروائي
ما أكثر مهرجانات الشعر في العالم العربي.وما اقل مهرجانات الرواية فهذه الاخيرة بقيت مهملة مع أنّّها ديوان العرب في القرن العشرين، إلى أن جاء "مؤتمر الابداع الروائي" الذي احتضنته القاهرة أخيراً، بمبادرة من "المجلس المصري الأعلى للثقافة" ليسدّ هذا النقص الفادح. فقد اجتمع عشرات الكتّاب والكاتبات والنقاد في أبرز العواصم الأدبيّة العربيّة، للاحاطة بمختلف قضايا واشكالات هذا الشكل الابداعي الذي اقترنت ولادته بعصر النهضة ومشروع التنوير، فاذا به اليوم "يذكّر بعصر التنوير ويرثيه في آن". "الوسط" تابعت أعمال المؤتمر، وسجّلت بعض المشاهدات والملاحظات والمفارقات. كانوا جميعاً هنا، أو لنقل معظمهم. أدباء وأديبات ونقّاد من مختلف الأجيال والاتجاهات والمدارس والأقطار، يلتقون بعد فراق طال أو قصر، يتغامزون أو يتعاتبون. يستكملون حديثاً قديماً، أو يعلّقون على رواية صدرت حديثاً. يتبادلون الأخبار والنكات وأسرار الكواليس. يتكلّّمون في السياسة، وكان التخوّف من ضربة للعراق على أشدّه. يبحث الوافد بين الوجوه عن الأصدقاء والصديقات، عن الزميلات والزملاء، كأنّه يحدّّد موقعه على الخريطة. فالشمل لا يجتمع كلّ يوم بهذا الشكل المؤثر. "هل رأيتَ ابراهيم الكوني؟"، تسأل أديبة شابة بحماسة وفضول، "يقال إنّه موجود هنا. أليس هو الرجل الأسمر الجالس بقربك؟". يجيبها زميلها، وهو كاتب معروف: "لا أعرف، كيف مظهره؟". قلّة، فعلاً، كانت تعرف ملامح الكاتب الليبي المقيم في جنيف، قبل ظهوره في "مؤتمر القاهرة الأوّل للابداع الروائي". فهو يعيش بعيداً عن الأضواء "الثقافيّة" والاعلاميّة، ولا يعطي أحاديث صحافيّة، والصورة المعروفة له يبدو فيها معمّماً على طريقة الطوارق. في ركن آخر يهمس ناشر بارز معلّقاً على نجاح روايتي أحلام مستغانمي: "خلقت موجة غريبة من الغيرة في صفوف الأديبات. ماذا تريد؟ النساء هنّ النساء!". يبحث الوافد إلى المسرح الصغير في دار الأوبرا، ذلك الصباح الاحتفالي، عن الوجوه الأليفة أو عن الوجوه المعروفة. الأدباء المصريّون معظمهم هنا، وأبرز أسماء الرواية العربيّة مجتمعة في هذه القاعة التي تشهد حدثاً استثنائيّاً، هو الأوّل من نوعه في العالم العربي : أخيراً صار للروائيين مهرجانهم، بعد أن شعروا طويلاً بأن النوع الابداعي الذي ينتمون إليه لا يزال، لدى العرب، بمثابة "ابن جارية"... وهذا الحدث الذي تأخّر سنوات، كان من الطبيعي أن تحتضنه القاهرة، بمبادرة من "المجلس الأعلى للثقافة" الذي قرّر اطلاق "مؤتمر الرواية" بالتناوب مع "مؤتمر الشعر". وتمّ حشد عشرات الكاتبات والكتّاب، وأهل النقد والاختصاص وبينهم مستعربات ومستعربون، للاحتفاء بالرواية، عبر حلقات الدراسة والنقاش والبوح الذاتي، تحت شعار "خصوصيّة الرواية العربيّة". كما خصّصت جائزة تكافئ كاتباً عن مجمل نتاجه. وخيّم على الاحتفال طيف نجيب محفوظ الذي يحتفل العرب هذا العام بمرور عقد على فوزه بجائزة نوبل. لم يحضر صاحب الثلاثيّة لأسباب صحيّة، لكنّه وجّه كلمة طريفة ورقيقة إلى المؤتمرين، حبّذا لو كنّا سمعناها مسجّلة بصوته، بدل أن يقرأها محمد سلماوي. فكون الكاتب المسرحي المذكور أحد "الحرافيش"، لا يشفع لكلّ الأخطاء اللغويّة التي ارتكبها في محفل يضمّ أبرز المؤتمنين على لغة الضاد في نهاية هذا القرن. محفوظ، البالغ من العمر 87 عاماً، هنّأ زملاءه بتلك المناسبة التي هي بين أمنيات طالما داعبت خياله. واعتبر أن "انعقاد المؤتمر على هذا المستوى العالمي بمثابة تحيّة كبيرة للفنّ الروائي العربي وتطوّره عبر السنين". قبل أن يروي للحاضرين سوء حظّّه مع الجوائز الأدبيّة... في تلك القاعة المزدحمة إذاً، حيث اختلط أهل الأدب والاعلام بجمهور القرّاء والباحثين والجامعيين من الشباب المصري، افتتح مؤتمر الرواية، بحضور فاروق حسني وزير الثقافة المصري، وجابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وفتحي غانم رئيس المؤتمر، قبل أن يتوزّع الجمهور على قاعتي "مكتبة القاهرة الكبرى"، لاهثاً خلف برنامج مضغوط، حُمِّلَ أضعاف طاقة الناس على الاستيعاب والتذوّق والاستفادة. فتحي غانم أيضاً أخذ يلْحُن في كلمته الترحيبيّة التي ضمّنها قناعته بأن "الابداع الروائي أشمل من السياسة". وذكّر أن "النصّ الروائي قد يتعرّض لعقبات وقيود، لكنّها جميعاً من خارجه: رقابة يؤازرها المال أو السجن أو ضغوط أخرى يسعى النصّ إلى التحرّر منها". أما حنّا مينة الذي ألقى كلمة باسم الروائين العرب، فسرعان ما أشعل "حرباً أهليّة" بين الشعر والرواية التي "هي الأبقى حسب حكم التاريخ". "أخيراً صار لنا نحن الروائيين ما كان للشعراء"، قال صاحب "الياطر"، ناقلاً لنا حواراً بين المطرقة التي تضرب الحجر، لكنّها لا تتمكّن من جعله أملس كما الموجة التي تقبّله وتعانقه، "وهذا في الرواية سرّها!". قبل أن يعلن أن "الريادة لأمّ الدنيا... والفيء ظليلاً وارفاً لأمّ الدنيا أيضاً". وتحدّث روجر آلن إلى المؤتمرين، باسم دارسي الأدب العربي القادمين من الغرب، فلم ينسَ توجيه تحيّة إلى الدكتور محمد مصطفى بدوي الذي خرّج أجيالاً من الباحثين في بريطانيا من بينهم آلن نفسه. اعتبر الجامعي البريطاني أن دور زملائه "ارساء قواعد ودعائم أساسيّة لانتشار المعرفة والثقافة والتحاور في شتّّى مجالات الأدب، والعمل على توسيع القاعدة الشعبيّة للرواية العربيّة داخل البلاد وخارجها". كما أعلن نهاية "عصر الاستشراق كمشروع اكتشاف غرائب الشعوب"، والانتقال "إلى عصر الاستعراب، وهو عصر التعاون والتبادل الفكري والثقافي". وكان لاعتلاء جابر عصفور المنبر وقع خاص، إذ أعطى المؤتمر الذي هو مشروعه ورهانه وجهة راهنة تنخرط في معركة التنوير، واعلاء شأن الفكر والابداع، وحقّ الاجتهاد والاختلاف، والجرأة على الابتكار والنقد والتجاوز. بدأ من "تحدّي الرواية العربيّة لعالمها التقليدي"، هذا النوع الأدبي الذي اقترن بانبعاث النهضة الحديثة مع الطهطاوي والمرّاش، دفاعاً عن عقل الاستنارة، وتجسيداً لقيم الحرية والعدالة والتقدّم. "وظلّت الرواية مرآة المجتمع المدني... وسلاحه إلى اليوم في مواجهة التخلّف والتسلّط والتعصّب... متواصلة مع تراثها السردي... مجددة نفسها ومحرّرة مبدعها من سطوة كلّ سلطة وكلّ قمع". وتوقّف عصفور عند أشكال القمع التي تواجهنا اليوم، وأبرز تجلياته التطرّف الذي وصل إلى نجيب محفوظ "لا لشيء إلا لأنّه حلم أن يرى أولاد حارتنا مشرق أنوار المعارف التي لا تحجبها أسوار التعصّب أو الاتباع". واسترجع في هذا السياق تهديد المتعصّبين لفرنسيس المرّاش في ستينات القرن الماضي في حلب، ولفرح أنطون في اسكندريّة مطلع القرن، والاعتداء على حرمة نصوص احسان عبد القدّوس في هذه السنوات، و"تكفير روايات المبدعين وكتابات المفكّرين...". وواصل عصفور: "حين نتحدّث عن خصوصيّة الرواية العربية، فاننا نتحدّث عن خصوصيّة موصولة بتراثنا العربي في أبعاده العقلانيّة والانسانيّة، وعن خصوصيّة موصولة بالواقع العربي الذي نعيشه، الآن وهنا، في أبعاده الاشكاليّّة وأسئلته النوعيّة وقضاياه المصيريّة". وأعلن أننا نعيش اليوم زمن الرواية، "ملحمة العرب المحدثين في بحثهم عن المعنى والقيمة في عالم يهتزّ فيه المعنى وتضطرب القيمة". 18 دجاجة وديك واحد! ولم تكد تنفضّ جلسة الافتتاح بعد كلمة وزير الثقافة فاروق حسني الذي حيّا المبدعين وتمنّى لهم أشغالاً موفّقة، حتّى انطلقت الجلسة الأولى عن "خصوصيّة الرواية العربيّة والهويّة"، في القاعة نفسها قبل أن نستعيد أنفاسنا. هكذا استمع الجمهور النهِم الذي لم يكن قد دخل الدوامة الجهنميّة لايقاع المؤتمر، إلى محمود أمين العالم يتحدّث عن مخاطر العولمة كمدخل لتناول الخصوصيّة، وعن مواجهة المركزيّة الأوروبيّة، ثمّ إلى محمد مصطفى بدوي يعالج الموضوع انطلاقاً من رواية بهاء طاهر "الحبّ في المنفى"، حيث "لم تعد لدى الرجل الشرقي حاجة إلى التعويض عن شعور بالنقص، عبر غزو المرأة الأوروبية"... وتدخّلت نوال السعداوي من القاعة، لتشكر للمنظّمين دعوتها "للمرّة الأولى منذ 35 عاماً، للمشاركة في مؤتمر أدبي"، ودعت "الكاتبات المتمرّدات إلى الحلول مكان هؤلاء الرجال الذين يحتلّون المنصّات"! كما استنكرت تمجيد محفوظ بصورة استعراضيّة كما تمجّد الأنظمة حكّامها. واستغربت أن تكرّس لرواية المرأة قاعة صغيرة تحشر فيها "18 دجاجة" اشارة إلى الكاتبات المشاركات "مع ديك واحد هو محمّد برادة"! وستكرّّر السعداوي تدخّلاتها الاستعراضيّة طوال المؤتمر، مخيّبة ظنّ الجمهور الذي كان ينتظر تعميق النقاش وتجاوز البديهيات. عن الخصوصيّة والهويّّة قدّمت يمنى العيد أيضاً بحثاً في "روائيّة الدلالة"، اعتبرت فيه أن هاجس الخصوصيّة اقترن بالسؤال حول كيفيّة التعبير لا حول ماهيّته. وعاد فيصل درّاج إلى النصّ التنويري بصفته بداية "مجزوءة" للنصّ الروائي الذي سعى لاحقاً إلى تحقيق استقلاله كنصّ مغاير "ينقّب عن مواطنة مفقودة، ويرثي حلماً قوميّاً...". ولاحظ أن الشكل الملائم لذلك المشروع كان السيرة الذاتيّة التي بدأها الشدياق والمويلحي وهيكل وحافظ ابراهيم. وخلص إلى أن الرواية العربيّة "ولدت في عصر التنوير، وتطوّرت بعد تراجعه، واستمرّت بالارتقاء بعد أن اقترب التنوير من الانطفاء. هذا ما يجعل الرواية تذكّر بعصر التنوير وترثيه في آن". وخصّصت جلسة ل "توجّهات الرواية العربيّة"، أدارتها فاطمة موسى، وبين المشاركين فيها مصطفى عبد الغني الذي اعتبر رواية بنسالم حميش "مجنون الحكم" عن الحاكم بأمر الله "أوّل نص روائي مغاربي يسعى إلى تركيب تناص متماسك، وفي الوقت نفسه يحرص على الشكل الغربي". أما طرح واسيني الأعرج فكان حول "ارتباك اللحظة" الذي "أوقف أشكال السرد عن التطوّر، عند الحدود الجنينيّة". المعنى "دخل بيت الطاعة" أما جلسة "نقد المركزيّة الروائيّة" فترأسها روجر آلن، وعرض فيها رشيد الضعيف ملامح التجربة الروائية اللبنانيّة. وقدّم عبد الله الغذامي وجهة نظر جريئة وجديدة، حول "انتقام الهامش من المتن". تساءل الباحث السعودي: "هل اللفظة ذكر والمعنى أنثى؟ هل المعنى دخل إلى بيت الطاعة كما أدخلت المرأة؟". وفي مشروع رجاء عالم الروائي، استقصى "ملامح كتابة مضادة هدفها تكسير النموذج السردي المذكّر، تماماً كما فعلت نازك الملائكة حين أقدمت على تحطيم عمود الفحولة عبر تكسير عمود الشعر". أما صبري حافظ فتطرّق إلى جماليّات السرد في اتجاه "ما بعد الحداثة"، مع العلم أن التصنيف الذي طبّقه على كتّاب التسعينات في مصر، يبقى فضفاضاً وغير دقيق كما لاحظ بنفسه. رصد الناقد المصري النزعة التمرّديّة التي "يؤكّد عبرها الخاص رفضه للعام"، ومتغيّرات الخطاب السردي لدى جيل جديد يحرّكه "احساس طاغ بأن التجربة الموحّدة التي كانت تؤمن بها الجموع، تناءت عن ادراك الذات الحديثة". فبالنسبة إلى هذا الجيل "لم يعد ممكناً اللجوء إلى بنية نسقيّة ذات تطوّر منطقي، كما كان الحال في روايات محفوظ الواقعيّة، بمصادراتها الانسانيّة الراسخة". ونشير بين المداخلات اللافتة إلى دراسة جورج طرابيشي عن "رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ، ودراسة ماري تريز عبد المسيح عن رواية ابراهيم عبد المجيد "لا أحد ينام في الاسكندريّة". وتحت عنوان "النساء في غرفهنّ" عالجت فاطمة موسى الخطاب النسائي الجديد في الرواية العربيّة، انطلاقاً من كتابات سحر خليفة وعالية ممدوح وغادة السمّان وسلوى بكر. فيما تطرّقت عالية ممدوح إلى "جدليّة العنف في الرواية العربيّة". فالمسكوت عنه لا يقتصر برأيها "على الايروسيّة، على رغم ضراوتها، بل أن العنف كاعتراف بالهزيمة، يمكن الاحالة إليه، لا كاحتمال طارئ على العمل الأدبي، بل كأعلى مراحل اليأس". وأثار إبراهيم الفيومي الاهتمام بمعالجته لتوظيف الأشكال التراثيّة في أدب إميل حبيبي. وقدّم معجب الزهراني بحثاً غنيّاً بالاضافات، عن "تمثيلات الجسد في الرواية العربيّة الحديثة"، مستنداً إلى روايات مثل "نزيف الحجر" لابراهيم الكوني، "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، "نجمة أغسطس" لصنع الله ابراهيم... أما محمد برادة فتناول "المتخيّل الاجتماعي السياسي" في ثلاث روايات لمحفوظ "اللص والكلاب"/ 1961 وفتحي غانم "الرجل الذي فقد ظلّه"/ 1964 وهاني الراهب "الوباء"/ 1981. ودرس حليم بركات رواية الغربة والمنفى، وفاطمة المحسن الرواية العراقيّة في المغترب. وخاضت اعتدال عثمان في "رواية الصحراء" انطلاقاً من أعمال ابراهيم الكوني. وفي الوقت الذي كانت الأبحاث والمداخلات تتزاحم في القاعة الكبرى ل "مكتبة القاهرة"، كانت القاعة الصغرى التي تتسع لجمهور محدود في الدور العلوي، تحتضن موائد مستديرة على جانب كبير من الأهميّة. وكان الخيار صعباً بين البرنامجين، ما خلق حركة دائمة بين الأعلى والأسفل. هكذا تخبّط الجمهور طوال خمسة أيّام محشورة حشراً، في نقاشات لا تنتهي، ورحلات أركيولوجيّة في أعماق الرواية العربيّة. وضاع بين أسئلة الهويّة والذات واللغة، ناهيك عن أساليب وقوالب وتقنيّات التعبير، واشكالات استيحاء التراث والتعامل مع التاريخ، ومعضلات التصنيف رواية المرأة، رواية السجن، رواية الصحراء...، وأشكال العلاقة الممكنة بالواقع، وصولاً إلى رسالة الرواية والتحديات التي تواجهها. وعاب كثيرون على المؤتمر غياب معرض كتب يشتمل على روايات المشاركين، بغية تعريف الجمهور بها، وتشجيع التفاعل والتبادل بين المبدعين أنفسهم. فكاتب مثل المغربي أحمد المديني قد لا يكون مقروءاً على صعيد واسع في القاهرة، والكلام نفسه يقال عن اللبناني حسن داود الذي لم يدرج في أي ندوة أو جلسة عمل. ولاحظ آخرون غياب وجوه مصريّة بارزة مثل ابراهيم أصلان، يوسف القعيد وصنع الله ابراهيم.... وتجدر الاشارة إلى أن طبيعة القضايا المطروحة في القاعة الصغرى، وتوزّع المقاعد بشكل دائري حول مائدة النقاش، جعلا الفضاء أكثر حميميّّة ومقدرة على تسهيل التفاعل والتبادل والحوار الحيّ هنا قدّمت أيضاً شهادات المبدعين. فيما بدت أعمال القاعة الكبرى أحياناً أشبه بالمؤتمرات الحزبيّة والنقابيّة، ونبرة الأبحاث المقدّمة فيها أقرب إلى المحاضرات الجامعيّة. حول المائدة المستديرة طُرحت "قضايا النشأة والتكوين" وقضيّة "الواقعيّة وبدائلها" بمشاركة محمد دكروب، يمنى العيد، حسّونة المصباحي، بهاء طاهر، رضوى عاشور، سيّد البحراوي، أدوار الخراط وفيصل درّاج الذي أدار النقاش. ويمكن القول إن القاعة الصغرى كانت أيضاً حلبة المواجهات الخصبة، ومسرح المفاجآت. لا بدّ من التوقّف مثلاً عند وصول ابراهيم الكوني، خجولاً متعثّراً بأوراقه ليقدّم شهادة غنيّة، مدهشة، عن تجربة الكتابة، تغوص في عالم دوستويفسكي ومفهوم الخطيئة لديه. واستحضر فرويد وإليوت وآخرين، لقراءة العمل الأدبي كرحلة تكفير عن التمرّد. واذا بحنا مينة الذي غلبه النعاس خلال الشهادة، يستهلّ تعقيبه بأمثولة أيديولوجيّة: "لا علاقة لنا بدوستويفسكي، وهو لا يجيب عن همومنا القوميّة، ولا يقدّم حلولاً لقضايا الرواية العربيّة" ! وحين رأى الكوني أن مينة يشطح في خطاب سياسي، استوقفه قائلاً: "أرجوك، ناقش ما ورد في ورقتي". وعندها غضب الأديب السوري المعروف وغادر القاعة بشكل استعراضي. التاريخ أم الهامش؟ في ندوة "رواية المرأة"، انتهرت نوال السعداوي رؤوف مسعد الذي كان يحاول أن يرطّب الأجواء مداعباً، وفتحت نيرانها على محمد برادة على رغم ادارته الراقية للجلسة، واستشهدت بمقالة منشورة في "الوسط" تنتقدها العدد 314. وهنا ارتسمت حدود التماس بين دعاة خطاب نسوي راديكالي، قوامه التشكّي، ولا يأخذ بعين الاعتبار مرور الزمن سحر خليفة، السعداوي، وممثلات جيل آخر يبدأن من النصّ، ويعالجن القضيّة بعيداً عن الديماغوجيّة فوزية رشيد، مي التلمساني، نجوى بركات، وإلى هذا الموقع انتمت مداخلات رشيد الضعيف ورؤوف مسعد وعبد الله الغذامي خصوصاً، فيما وقفت رضوى عاشور في منزلة وسطى، ترفض الديماغوجيّة والاطلاق والتعميم. وفي ندوة الواقعيّة، نشبت مواجهة بين دعاة "الحساسيّة الجديدة" برادة، الخرّاط، والقائلين بالواقعيّة كأساس لتطوّر الرواية العربيّة عاشور، درّاج، ووقف في موقع وسطي أحمد المديني وابتهال سالم وآخرون. أما في ندوة "استلهام التاريخ"، فبرز الخلاف بين اتجاهين. الأوّل عبّر عنه جمال الغيطاني حين حذّر من "زرع الأشكال الغربيّة" في الرواية العربيّة. ودعا إلى تطبيق التاريخ على الحاضر والاشتغال على الأساليب القديمة. وأطلق نظريّة "الزمن المقفل" الذي لا يأخذ بالضرورة الاتجاه التصاعدي المتعارف عليه. وعبّر إلياس خوري عن الاتجاه الثاني: "لماذا أستعير الأشكال القديمة؟ مهمّة الروائي تجديد اللغة. وحدنا في العالم لا تتجدّد قواميسُنا. على الكاتب أن يغوص في الهامش لالتقاط غير المعترف به، ولاستعادة الذاكرة الممحوّة من قبل السلطة. العربيّة لغات عدّة، ولا بدّ أن نتميّز عن التاريخ، ونكتشف الحاضر... وأن نتعامل مع المروي، الذي لا يكتب... لاختراق اللغة المسيطرة"! وأشار برادة إلى أن التراجيديا الاغريقيّة قامت على أنّها لغة الهالك والزائل. وتساءل الكوني: "أي تاريخ لدى بروست في "الزمن الضائع"؟ إنّه التاريخ الروحي للبطل الوجداني مارسيل. هدف الابداع بالنسبة إلى أرسطو هو تأليف الأسطورة. وأنا أعتبر هيرودوت أهم روائي في التاريخ، لأنّه سرد الأحداث ليقول لنا الأمثولة". ورأى بنسالم حميش أن سؤال الحداثة، هو ماذا نضيف إلى الخلف، آسفاً لغياب محور "الفلسفة والرواية". وكانت الفسحة المكرّسة لشهادات المبدعين من المحطّات الأكثر صدقاً، والأكثر عمقاً ومقدرة على اضاءة الأعمال الابداعيّة وتغذية النقاش النظري حولها. هدى بركات أوغلت في علاقتها ببطلها، وكشفت كيف توالدت الأحداث واللغة والحكاية في "أهل الهوى" من تلك الشخصيّة التي تراءت لها، حتّى كادت تحسبها حقيقة قائمة، كما كان يحدث لفرناندو بيسوا مع شخصيّاته. ابراهيم عبد المجيد حكى علاقته بالاسكندريّة التي طلعت كتابته من "هامشها العجيب". ليانة بدر استعرضت علاقتها بالمنافي المتعاقبة، وصولاً إلى منفى الداخل بعد عودتها للاستقرار في رام الله مع السلطة الوطنيّة. وحلّل الخراط آليات عمله الابداعي، حيث "يجتمع عنصر الاعداد والتخطيط والمعايشة الطويلة مع انبعاث الآنيّة من اللاوعي". أحلام مستغانمي تناولت استحالة الكتابة ولاجدواها حين يتفوّق الواقع المأسوي الجزائري على كل متخيّّل. وتوقّف جميل عطيّة ابراهيم عند القوالب الموسيقيّة في ثلاثيّة "1952"، كما خاض نبيل سليمان، هو الآخر، في علاقة الرواية بالموسيقى. أما خليل النعيمي فتناول أهميّة "انفصال الذات المبدعة عن المكان"، وديناميّة هذا الانفصال في تفجير الطاقة الابداعيّة. وطرحت هالة البدري على نفسها السؤال السارتري الشهير "لماذا أكتب؟"، مستهلّة شهادتها بالإجابة: "لأعرف نفسي والعالم". واستعرض خيري شلبي سيرته الشخصيّة بشكل شامل، فيما اعتبر أحمد ابراهيم الفقيه أن السرد فنّ التحايل على الارادة الواعية. وتحدّث مؤنس الرزاز عن روايته "متاهة الاعراب في ناطحات السحاب"، كاشفاً تداخل أشكال السرد فيها، وعلاقة الأنا بالآخر. بينما ركّزت إقبال بركة على قهر الأنثى في المجتمع العربي، وكذلك فعلت سحر خليفة التي أسهبت في استعراض مراحل حياتها بأسلوب شيّق، وخيباتها المتلاحقة مع عالم الرجال، في ضوء الأحداث السياسيّة لشعبها الفلسطيني. وأكّد فؤاد التكرلي ضرورة "انحياز اللغة إلى الشفافيّة والبساطة"... فمن "جريان اللغة اللامرئية" يستمدّ البناء السردي ديناميّته وقوّة حضوره. و نشير إلى شهادات أهداف سويف، بهاء طاهر، اسماعيل فهد اسماعيل، ابراهيم نصرالله، عروسيّة النالوتي، حنا مينة، وعبد الرحمن منيف الذي جاء لقاؤه بالجمهور دافئاً وصادقاً. وتحدّث جمال الغيطاني عن علاقته بالزمن، واحساسه بالفناء الذي يدفعه إلى اعادة انتاج اللحظة المحنّطة، الضائعة. أما سهيل إدريس، فتحدّث عن استقالة الكاتب فيه لصالح الناشر، قبل أن يعترف بأنّه ربّما آثر الرفاهيّة على عذاب الكتابة. تلك كانت أيضاً نقطة الثقل في اعتراف الطيّب صالح بسرّ صمته منذ أكثر من عقدين: ألا وهو كراهيّته لفعل الكتابة المقترن بالعذاب والمعاناة، واحساسه بلا جدوى الأدب الذي لم ينجح منذ تولستوي وغيره في أن يطيّب جراح البشريّة. الفائز هو الرواية كلّ هذا الصخب، كان يترافق طوال الأيّام الخمسة في القاهرة مع ضجّة خافتة في الكواليس، لا يلتقطها إلا المطّلع أو الفضولي أو الذي يتمتّع باتصالات وعلاقات ومصادر خاصة أي كل المؤتمرين!. من سيفوز بجائزة القاهرة للابداع الروائي 50 ألف جنيه مصري؟ هذا يعرف عضو من لجنة التحكيم السريّة، وذاك سمع تعليقاً مثيراً للفضول بين ندوتين. بدأ التداول في الأسماء منذ اليوم الأوّل. في اليوم الرابع بدأت تتحدّد الملامح. هناك من تأكّد من فوز بهاء طاهر، وراح يسعى لمحاورته. حاولنا من جهتنا محاورة ابراهيم الكوني، لكن محاولتنا لم تكن لها علاقة بتوقّعات فوزه شبه المؤكّدة، وعلى كلّ حال فقد اعتذر بلباقة عن عدم الادلاء بأي حديث. هناك من تناقل اسم الغيطاني. أمّا عبد الرحمن منيف الذي كان حضوره في القاهرة من أحداث المهرجان، فتردّد اسمه بالحاح في الكواليس. لكن كيف يمكن اختيار كاتب بين هؤلاء؟ على أيّة أسس؟ إنّها قواعد اللعبة، قال أحد المشرفين، والفائز هو الرواية في كلّ الأحوال. حسناً، فلننتظر أمسية الختام في الأوبرا إذاً. أمسية الختام كان لها هيبة خاصة. الشمل مجموع للمرّة الأخيرة. جابر عصفور هنأ المشاركين بحريّة الحوار، وعمق المناقشات، واستأذن الوزير حسني بالاعلان عن جائزة ثانية تمنح في الدورة المقبلة، لأفضل عمل روائي يصدر خلال السنتين السابقتين لانعقادها. وبدأ الكشف عن أعضاء لجنة التحكيم. صعد احسان عبّاس بعصاه وقامته المرتعشة إلى المسرح، لدى الاعلان عنه رئيساً للجنة، ثم أتوا له بكرسي برتقالي اللون فجلس وأطرق ساهماً. تبعه كلّ من يمنى العيد، رضوى عاشور، محمود أمين العالم، توفيق بكّار، الطيب صالح، عبد الحميد حواس والزميل فيصل درّاج الذي تولّى قراءة تقرير اللجنة. "إن تكريم الرواية العربيّة تكريم لجنس أدبي حاور الواقع العربي بلا انقطاع، استنهاضاً له وارتقاءً به... كما لو كان ذاكرة قوميّة خصبة بامتياز، تقرأ الماضي بمعرفة الحاضر، وتتأمّل الحاضر مستنطقة الماضي، وتمزج بين الأزمنة بحثاً عن هويّة فاعلة ... فالرواية تحتفل بالمتخيّل الانساني الذي يجعل منها فضاءً للمتعدّد". هكذا بدا التقرير صدىً للنقاشات الكثيرة التي دارت على امتداد جلسات المؤتمر. ونصل إلى المقطع المخصّص للفائز: "كاتب عربيّ جمع بين الابداع والالتزام القومي والانساني، وحوّل الالتزام قضيّة فنيّة"... وتضمّن نصّه "السيرة الفرديّة والسيرة الجماعيّة، وسيرة المكان الطليق والأمكنة المغتصبة". وكتب لغة حديثة توحّد "الزمن العربي المفتّت، المتعدد، كأنّه يكتب عن الأماكن كلّها". كما حلم "بجتمع حرّ بلا أسوار ولا أقفاص. وهذا الروائي هو... عبد الرحمن منيف". واشتعلت القاعة بالتصفيق. اعتلى صاحب "الأشجار واغتيال مرزوق" الخشبة. صافح الوزير فاروق حسني وجابر عصفور. تسلّم جائزته، وقال في الميكروفون، بهدوء وتواضع، بضع كلمات عن الحريّة والديموقراطيّة والرواية. صفّق الحاضرون من جديد. اختفى الجميع واذا بنا في حضرة أوركسترا القاهرة التي عزفت بقيادة مصطفى ناجي مقطوعات لشوستاكوفيتش وبيزيه ومحمد عبد الوهاب. ثم قدّم وليد عوني عرض "الغيبوبة" المستوحى من محاولة اغتيال نجيب محفوظ سنة 1994. وعاد أهل الأدب إلى وظائفهم ومنافيهم وصحاريهم وسجونهم.