الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة رفيق الحريري للبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير أثارت الكثير من التساؤلات، خصوصاً بعدما تحولت جلسة عمل دامت اكثر من سبع ساعات وضمت الى الحريري ومستشاريه والى البطريرك اعضاء مجلس الاساقفة والمطارنة الموارنة ورؤساء الرهبانيات المارونية وتخللها تقديم مذكرة مفصلة إلى رئيس الحكومة منطلقاتها وطنية واسعة لا طائفية ضيقة. وليس سراً أن الرئيس الحريري قرر زيارة بكركي بعد قراره اجراء مشاورات مع الفاعليات السياسية والنيابية والحكومية والدينية لمناقشة الوضع المتردي في البلاد على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأعد البطريرك صفير، قبل زيارة الحريري، مع الاساقفة والمطارنة ورؤساء الرهبانيات الموارنة بالتعاون مع علمانيين قريبين منه مذكرة مفصلة واضحة تناولت مشاكل لبنان كلها بما فيها مشكلة المسيحيين التي وضعت في اطارها الوطني وليس في الاطار الطائفي الضيق. لكن العارفين يلفتون إلى أهداف أخرى قد يكون حققها اجتماع العمل على رغم ان تحقيقها لم يكن ضمن الاولويات التي كانت في ذهن الرئيس الحريري عندما قرر زيارة بكركي أو حتى في ذهن البطريرك صفير عندما أخذ الأمور بجدية نظراً إلى دقة الأوضاع وخطورتها. وعندما قرر تالياً طرح هذه الاوضاع بشمولية وتفصيل لم يلمسها اللبنانيون عند الفاعيات الاخرى التي شملتها المشاورات. والأهداف هي الآتية: 1 - توجيه الحريري "رسالة" إلى وليد جنبلاط وزير المهجرين وحليفه السابق وأحد منتقديه في الآونة الاخيرة تفيد ان له، الحريري في بكركي وعند المرجعية الدينية التي تحولت سياسية أيضاً بفعل "غياب" أو "تغييب" الزعامات المارونية خصوصاً والمسيحية عموماً، حضوراً مميزاً وتفهماً لبعض الظروف التي منعته من النجاح في تنفيذ خططه السياسية والوطنية والادارية والانمائية والاعمارية نظراً إلى كونها اقليمية، من دون أن يلغي ذلك طبعاً انتقادات بكركي لعدد من ممارسات الحكومة ورئيسها التي لا يمكن تبريرها بالظروف الخارجية. وتفيد الرسالة ايضاً ان جنبلاط لا يستطيع توظيف انفتاحه على المسيحيين، خصوصاً على اخصامه في معركته ضد الحريري. 2 - توجيه الحريري "رسالة" إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري في ظل الصراع الضمني حيناً والعلني حيناً آخر بينهما، مفادها انه ليس "لقمة سائغة" لا يستطيع الاستمرار في الضغط عليه من أجل تحقيق مكاسب خاصة وانسجاماً مع رغبات اقليمية لأن له الحريري هو أيضاً وظيفة وطنية وخدمات ولأنه يستطيع ان ينفتح على جهات لم يستطع هو أي بري الانفتاح عليها او لم ينجح في استقطابها لأنه لم يتمكن من الوفاء بالوعود التي قطعها لها في السابق. 3 - توجيه الحريري "رسالة" إلى رئيس الجمهورية الذي يبدو انه على خلاف معه حالياً أبرزها استحقاق انتخابات الرئاسة، تفيد ان وضعه عند المسيحيين وتحديداً عند مرجعيتهم الرئيسية الوطنية أفضل من وضعه هو، وان ما يجمعه معهم هو معارضة التمديد للرئيس الهراوي مرة ثانية. 4 - توجيه الحريري "رسالة" إلى الجهات الاقليمية والدولية المعنية بلبنان تفيد ان "حيطه ليس واطياً" كما يقال وان له حضوره داخل اكثر من طائفة في البلد. وتفيد ايضاً ان بين اللبنانيين من القواسم المشتركة الكثير وان الظروف المحيطة بلبنان لم تنجح حتى الآن على رغم صعوبتها وخطورتها في القضاء على هذه القواسم. 5 - توجيه الحريري "رسالة" إلى المسيحيين تدعوهم الى عدم الوقوع في فخ الاستقطاب المذهبي المؤدي الى صيغ ثنائية لا يمكن ان يكتب لها النجاح. وتدعوهم أيضاً الى قراءة موضوعية وسليمة للأوضاع الراهنة بحيث لا ينجرون وراء أوهام أو رهانات جديدة وبحيث يتخذون في الظرف الراهن وبعدما بدأت اسرائيل محاولة "حشر" لبنان وسورية موقفاً تكون له مضاعفات بالغة السلبية على البلاد وتحديداً على السلم الاهلي فيه. فإسرائيل أضرت لبنان كثيراً وكادت ان تقضي على مسيحييه، وسورية حافظت عليهم على طريقتها، وان تكن ازعجتهم كثيراً بممارساتها لرفضهم التحول أدوات لها. وموقف المسيحيين من الذي يجري حالياً يجب ان ينطلق من هذين الأمرين. 5 - توجيه البطريركية المارونية "رسالة" إلى الجميع، في الداخل والخارج، تفيد ان تجاوزها غير ممكن في الموضوع المسيحي وفي الموضوع الوطني وان توقيعها لا يمكن الاستغناء عنه عند بت هذين الموضوعين في صورة نهائية، وتفيد ايضاً انها لن تقع في فخ الاستقطاب او التجاذب الفئوي. وتفيد أخيراً أنها مدركة حقيقة الأوضاع في المنطقة ومدى دورها في تردي الاوضاع اللبنانية وانها غير مستعدة للركض وراء الاوهام اسرائيل مثلاً او لتحقيق اهداف الاخرين ذات المنطلقات الخاصة مثل الموافقة على ضرب الحريري او تحجيمه او حتى انهائه، والكلام الذي قاله البطريرك صفير بعد الساعات السبع من المحادثات مع رئيس الحكومة خير دليل على ذلك. هل يستطيع رئيس الحكومة تلبية مطالب البطريرك؟ وطنية وتهميش يمكن توزيع المطالب التي تضمنتها المذكرة والقضايا التي أثيرت في اجتماعات بكركي على ثلاث فئات: الأولى وطنية تتناول السيادة والاستقلال اللبنانيين ومعهما المداخلات السورية اليومية في الشأن اللبناني الداخلي. والثانية "طائفية" وتتناول التهميش الذي يطال المسيحيين ومرجعياتهم السياسية والدينية في لبنان. وواحدة سياسية - اقتصادية تتناول الأزمة الإقتصادية والضائقة المعيشية والفساد المستشري على كل صعيد. وفي ما يتعلق بمطالب الفئة الاولى الوطنية، فعلى رغم "مسيحية" رافعها، لا يستطيع الحريري تلبية أي منها. لأنها متعلقة أولاً بسورية صاحبة الكلمة الاولى لا بل القرار في لبنان. ولأن الوضعين الاقليمي والدولي لا يزالان قابلين بالدور السوري لاعتبارات متنوعة. وقد تأكد الحريري والمسيحيون وغيرهم من ذلك من خلال تعذر حصول حوار جدي بين مسيحيي لبنان ممثلين ببكركي مرجعيتهم الدينية والوطنية، وسورية. فالبطريرك صفير عروبي معروف منذ كان نائباً بطريركياً. لكن عروبته لا تتناقض مع لبنانيته وهي ليست قطعاً على حسابها. فهو عروبي صادق، لكن ليس الى حد الذوبان، أي ليس الى حد التخلي عن استقلال لبنان وسيادته من أجل كيان عربي أكبر وان أكثر قوة وصلابة ومناعة، وهو في الوقت نفسه مع صيغة لبنانية متوازنة وان في الحد الادنى تمكن اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، من متابعة مسيرة العيش المشترك. وانطلاقاً من ذلك، يتابع المطلعون، غطى البطريرك الماروني اتفاق الطائف اولاً في مرحلة التحضير له، وثانياً بعد التوصل اليه، لاقتناعه بأن التنازل في الموضوع الداخلي للمسلمين، بحيث تصبح الصيغة السياسية للحكم اكثر توازناً، سيدفعهم إلى التعاون مع المسيحيين من أجل المحافظة على استقلال لبنان وسيادته، أي التعاون لإقناع سورية بالحوار، وليس بأي وسيلة اخرى، باحترام السيادة والاستقلال، وبالامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد أو بالأحرى إدارة هذه الشؤون. لكن اقتناع البطريرك تزعزع بعد انقضاء أشهر قليلة على تطبيق اتفاق الطائف. وقد يكون انتهى حالياً بعد زهاء ثماني سنوات على محاولات تطبيقه والخيبات التي رافقته، والتي قد تكون وراء الموقف المعروف للبطريرك صفير المشكك في استمرار بأي محاولة أو مسعى لفتح حوار بينه وبين سورية، أو بين المسيحيين وسورية. لقد عانى كثيرون من هذا الموقف في محاولتهم فتح ملف علاقات سورية مع المسيحيين اللبنانيين، ولم يتمكنوا من الحصول على تكليف رسمي من صفير لبدء العمل أو لمتابعته على رغم تمنياته لهم بالتوفيق. والقلائل منهم الذي حصلوا على ما يشبه التكليف عادوا وسمعوا بعد فترة كلاماً صادراً عنه ينفي فيه ان يكون كلف احداً قيادة حوار مع سورية. فسورية لا تزال مصرة على الامساك بكل شيء في لبنان وينبع ذلك اساساً من المواجهة السلمية والصعبة التي تخوضها مع اسرائيل ومع الذين وراءها والتي هي امتداد للمواجهة العسكرية. وفي هذا المجال تبقى الأولوية لدى دمشق لهذه المواجهة على رغم الصعوبات التي يسببها ذلك لأوضاع داخلية كثيرة عندها. وبما ان سورية موجودة في لبنان سياسياً وعسكرياً لمتابعة مساعدته على تعزيز السلم الاهلي استناداً الى اتفاق الطائف، وبما ان لبنان يخوض مواجهة سلمية - عسكرية في آن واحد، وبما انه في نظر اسرائيل ساحة تناقضات طائفية ومذهبية وسياسية، وبما ان في بعض اجوائه شكاً في سورية أو حذراً منها، فإن سورية ترى ان من واجبها الوطني والقومي تعزيز صمودها وحماية نفسها لأنها بذلك تعزز صمود لبنان وتحميه. طبعاً، يتساءل اللبنانيون، لماذا تخشى سورية استغلال لبنان ضدها طالما ان الشعب اللبناني بكل طوائفه ومذاهبه واحزابه وفاعلياته السياسية صار مؤمناً بضرورة التحالف الدائم معها حفاظا على استقراره وثبات دولته ومصالحه الاقتصادية في الوقت نفسه. وطالما ان هذا التحالف قام منذ اعوام، وطالما ان النظام القائم يكرسه يومياً. ويقولون: أليس من الافضل لسورية، الاستناد الى تحالف من هذا النوع من اجل حماية مصالحها وموقعها في المواجهة مع اسرائيل بدل الاستناد اما الى قوة عسكرية أو إلى تدخلات يومية في الشأن اللبناني؟ والجواب عن ذلك هو أن الحذر والشك من صفات الحكم في سورية، كما الوفاء للحلفاء والاصدقاء المخلصين. فسورية مقتنعة بأن استمرار وضعها الحالي في لبنان، بإيجابيته وسلبياته، كفيل برد المؤامرات الاسرائيلية عنها ومنع استعمال الساحة اللبنانية ضدها. هجمة ديبلوماسية ولا يعكس ذلك عدم ثقة سورية باللبنانيين أو قياداتهم أو بقسم كبير منهم على الاقل، بمقدار ما يعكس معرفة بأن لبنان وحده ومن دون "الوضع السوري" الحالي فيه لا يستطيع ان يصمد وان يتحالف معها ضد أي هجمة اسرائيلية، خصوصاً اذا واكبتها هجمة اميركية لتحقيق هدف واحد، مع الاشارة هنا الى ان بعض دوافع الايمان اللبناني العام بتحالف ثابت مع سورية ليس ناجماً عن عاطفة، بل عن حسابات عقلية ومنطقية فرضتها المتغيرات التي طرأت على الوضع اللبناني عند انتهاء الحرب العام 1990. أو بالأحرى التي فرضتها طريقة انهاء الحرب. وحسابات سورية في محلها اذ ان اسرائيل تهجم "ديبلوماسياً" الآن على لبنان وعلى سورية عبره رافعة شعار تنفيذ القرار الدولي الرقم 425 الذي رفضت تطبيقه منذ ان اتخذه مجلس الأمن العام 1978. والمطالب "الطائفية" لا يستطيع الرئيس الحريري تلبيتها او تلبية الممكن منها وكذلك المطالب السياسية. لأن لبنان السليم سياسياً ووطنياً قد يسلك خيارات اقليمية او خارجية مؤذية لبعض الجهات الخارجية ولأن استمرار الفرقة بين اهله وان من دون ان يبلغ ذلك حد الحرب العسكرية من جديد ضروري لتلافي الخيارات المذكورة. أما المطالب الاقتصادية فليست مستحيلة، لكنها بالغة الصعوبة، أولاً لأن السياسة في لبنان تؤثر في الاقتصاد خلافاً لكل القواعد العالمية. وهذه السياسة غير سليمة لاعتبارات داخلية وخارجية. وثانياً لأن غياب السلام عن المنطقة وهشاشة الاستقرار اللبناني واستمرار الجبهة مفتوحة في الجنوب لا يشجع اصحاب الرساميل الخاصة على الاستثمار في لبنان ولا يشجع الحكومات على مساعدة لبنان، اما خوفاً على أموالها، واما رغبة في ممارسة ضغط عليه كي يتخذ مواقف سياسية معينة. وثالثاً لأن غياب الانتماء للوطن عند الجميع وعدم الالتفاف حول الدولة ومؤسساتها وإدارتها وجعل أموالها هدفاً لكل طائفة او مذهب او زعيم أدى الى انهاكها.