سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"انفجار جمجمة" سيرة شبه ذاتية كتبها بين محاولتي انتحار وكاد يحرقها . إدريس علي : إنتظرت قتلة أبي الطيب فلم يأتوا والخوف يسيطر على معظم الكتابات المصرية
"سقطت ورقة التوت، فوقف الجميع داخل النص عراة"، هكذا يلخّص إدريس علي تجربته الأدبيّة الجديدة التي ظهرت إلى النور بعد مخاض طويل، فاعتبرها فتحي غانم "انفجاراً في مجال الرواية العربية". من هو هذا الأديب النوبي، المصري، الذي عاش كلّ حياته "بين الكتاب والهامش"؟ وما سرّ شعور الاضطهاد الذي يلاحقه، ويعذّبه؟ أهو الوعي الشقي لكاتب آت من "قاع الأمّة" ليحمل أوزار البشريّة؟ أم هي جرأة كتاباته التي كلّفته ثمناً باهظاً؟ في هذا الحوار يبوح صاحب "دنقلة" بهواجسه، وجراحه، وكوابيسه الكافكاويّة، ويشكو من مناخ الحياد واللامبالاة والفراغ الذي يعيشه أدباء مصر والعالم العربي. "انفجار جمجمة" عنوان رواية إدريس علي الثانية بعد "دنقلة" التي أثارت ضجّة لدى صدورها في مصر قبل أعوام. في نصّه السوداوي الصادر عن "المجلس الأعلى للثقافة"، يواصل هذا الكاتب المصري 57 سنة، تجسيد صورة الروائي المأزوم، المطارد، الذي يعيش حالة ضغط واضطهاد شديدين. فهو يحمّل الجميع مسؤولية المصير المأسوي لبطله ذي الملامح القريبة من المؤلّف نفسه. حاول الكاتب الانتحار مراراً. وفشل المحاولات قد يعني انه منتحر غير جاد، أو انّه اكتفى بتنبيهنا. لكنّه يمتلك على الأقلّ ارادة الانتحار، فيما يبدو الآخرون وكأنّهم يمتلكون القدرة على منعه من الموت. الرواية كُتبت تحت ضغط الضرورة، لكن ذلك لم يمنع الروائي فتحي غانم من اعتبار "انفجار جمجمة" في مقدّمة الرواية "انفجاراً بكل معاني الكلمة، في مجال الرواية العربية". "الوسط" التقت المؤلف الذي أصدر أيضاً ثلاث مجموعات قصصيّة "المبعدون"، "واحد ضد الجميع" و"وقائع غرق السفينة"، ودار هذا الحوار: لماذا هذه الرؤية الكابوسية لواقعنا في "انفجار جمجمة"؟ - تصدمك الرؤية الكابوسية في روايتي؟ هذه الرؤية الكابوسية لواقعنا المعاصر، كانت تحاصرني في فترة مأزومة أقدمت خلالها على محاولتي انتحار نجوت منهما للأسف. في المحاولة الأولى كنت اعاني من تداعيات أزمة رواية "دنقلة". إذ تعرّضت لحملة مفتعلة ومضخمة، تمّ خلالها تصويري للرأي العام، ك "خائن" للشعب المصري. بدأت طبول الحرب من قريتي في النوبة، وحين قمت باحتوائها، هاجمني آخرون بضراوة. وعندما بدأت في كتابة رواية "انفجار جمجمة"، كانت آثار الازمة لا تزال حاضرة. فطوال فترة الكتابة كنت اعاني من حالة اكتئاب، وأعيش مخاوف مرَضيّة وحالة شعور بالغبن. قمت بقراءة المسودة ما قبل الأخيرة، فأحسست بالفزع : يبدو اني تركت لنفسي عنانها، واستسلمت للتداعيات من دون رقابة داخلية. هكذا جاءت خشنة، صادمة، وجارحة، تتحرك في محاور عدة وتشتبك معها. لقد سقطت ورقة التوت عن الجميع فوقفوا عراة داخل النص، حتى الراوي. وقفت حائراً أمام النص. لم أكن قادراً على إعادة الصياغة، ولا قادراً على تجاهل ما كتبت. كنتُ تقدّمت بطلب منحة تفرغ من "المجلس الأعلى للثقافة" لكتابة رواية، وحصلت عليها. وكان لا بد من تسليم النصّ أو ردّ الأجور التي حصلت عليها. لقد فكرت في لحظة جنون ونزق في حرق الرواية، لكنّني سلمتها في النهاية إلى المجلس، وانتظرت خائفاً. كان لدي احساس بأنني سأتعرض للاعتقال أو المداهمة في اي لحظة. ومرت الشهور بطيئة، ضاغطة، حتّى الانهيار التام، واقدمت على محاولة الانتحار الثانية. انه الخوف القاتل بعد أن تخرج منك الكلمات فتصبح هشّاً، مفرّغاً من أي قوّة. فكرت: هذه المرّة إن لم تنل منّي الفضيحة بقوة القانون، فسيأتيني قتلة أبي الطيب المتنبي. وقلت في نفسي إن الحياة لا تستحق أساساً كل هذا العناء. كان فتحي غانم وجابر عصفور، اكثر شجاعة مني، حين تبنيا نشر الرواية. بل انهما احتفيا بي، فحرّراني من خوفي، وجعلاني أستعيد قدرتي على الاحتمال والمقاومة. فها هي الدولة نفسها تنشر الرواية. ما الذي أحدث فيك مثل هذه الشروخ؟ - لا بد ان اسجل شهادتي، أنا القادم من اعماق الجحيم، أنا الذي عاش حياته كلها في قاع هذه الامة. وهذه "ميزة" لا تتوافر للكثيرين. عندما تكون في القاع، محشوراً بين الأشياء الدنيا و"الكراكيب"، تستطيع أن ترى بشكل أفضل. أين تجد تلك الرؤية الكافكاويّة جذورها؟ - هناك ربّما رواسب قديمة ما زالت عالقة في ذهني، شأني في ذلك شأن كلّ انسان عربي. شهدت ظروفاً قاسية، فرديّة وجماعيّة، وعايشت معاناة ضحايا القهر، وظهر ذلك في اعمالي. ألا تعتقد أنّك تعاني من عقدة اضطهاد؟ - لا أعرف اذا كان اضطهاداً أو عقدة اضطهاد. خلال أزمة "دنقلة"، احتجت ذات يوم إلى صورة من شهادة ميلادي، وارسلت بطلب استخراجها من دفتر المواليد في أسوان. فاكتشفوا ان اسمي غير مدرج في الكمبيوتر، لأن صفحة الولادات التي أدرج فيها اسمي، منزوعة من الدفتر! اجتاحتني الوساوس، فصرت أتصوّر أن هناك محاولة لطمس هويتي، واجتثاثي من جذوري. حاولت استخراج سجل قيد رسمي لإحدى كريماتي، فاكتشفت أيضا أن صفحتها منزوعة، ولم أكرر التجربة مع باقي اولادي. واذا كنت تشك في كلامي، فليس عليك سوى أن ترافقني لنعيد الكرّة سويّة. أذكر أيضاً قصّة مؤلمة، تتعلق بصحافي لبناني ساعدني في نشر قصة ساخنة، فتم ترحيله بحجّة "الاقامة غير القانونية". وهناك ناقد شاب كان وراء نشر ملف عني، وساعدني في نشر إحدى مجموعاتي القصصية، فتعرض للمساءلة والتحقيق بسببي، ثم دهمته دراجة نارية وكسرت ساقه. وهناك أيضاً صحافي تعاطف معي، فأوقفت الصحيفة صفحته الناجحة، وتم منعه من الكتابة. هناك قصّة أخطر تتعلق بالمهندس السوداني محمد أبو بكر، وكان منسق بعض النشاطات في "مركز الدراسات والتوثيق المتخصّص بالثقافة النوبيّة". وقف أبو بكر بجانبي، وساعدني، وقدمني إلى الجمهور، ثم مات في حادثة مرور عادية. لا أستطيع إلا أن أطرح علامات الاستفهام. في فترة ما كانت تسأل عني امرأة لا أعرفها عبر هاتف الجيران، فيقلقون أسرتي أثناء وجودي في العمل. ألم تكن محاولة لتفجير الأسرة من الداخل؟ هل كل هذه الأحداث مجرّد مصادفات؟ في مثل هذه الظروف المتوتّرة كتبت "انفجار جمجمة"، فجاءت قاسية وسوداويّة. وكان من الطبيعي أن تكون كلها مبنية على هواجس مرضية. وقد أكون واقعاً تحت سيطرة مافيا جهنمية، لكنها بالتأكيد لا تنطلق من الحكومة. إنما اتهم مافيا الفساد والأصولية والمنحرفين. تتحدث في "انفجار جمجمة" عن روائي مأزوم ينتهي من رواية أشبه باللعنة، وتبالغ في تضخيم الأحداث السلبيّة. هل الهواجس غذّت الرواية، أم أن الرواية كُتبت لتدعيم هواجسك؟ - أي نص روائي يبدأ من أرضية واقعية. لكنّ تلك الأرضيّة لا تكفي وحدها لبناء عمل روائي. بداية "انفجار جمجمة" واقعية، عن اختفاء صحافي لبناني في القاهرة. أما الجزءان الثاني والثالث فهما تجارب حياتية عشتها. ألم يعانِ الشاعر محمد عفيفي مطر ما عاناه؟ ألم يُطعن شيخنا نجيب محفوظ أيضاً بسبب مواقفه؟ يبدو مسرح الاحداث شاسعاً في الجزءين الثاني والثالث، في حين ينحصر الجزء الاول داخل مربع ضيق: زهرة البستان، الاتيليه، المستودع، ثم البيت كضلع رابع. - هذه حال المثقفين المصريين الآن. فمجالهم الحيوي يقتصر منذ سنوات على هذا المربع. إلى اين يمكن ان نذهب؟ إلى "نادي القصة"؟ لم يعد له دور! إلى فنادق الخمسة نجوم؟ لا نقدر عليها... الجزء الثاني من الرواية وعنوانه "أسطورة قناوي"، هل هو حنين إلى رمز، أم صناعة اسطورة وهمية تقابل التردي؟ - "قناوي الشريف" شخصية تقاوم، وأنا في حاجة إليها. تعاملت مع عبد الناصر كزعيم، ومع قناوي كرجل يقاوم. وهذا الأخير ليس من اختراعي، لقد عايشت رجالاً كانوا، مثله، شرفاء وأصحاب رسالة. لم يكونوا مثقفين إنما من الناس العاديين. مشكلتي مع ضمير المتكلّم الجزء الأخير عنوانه "بلال يحترق". من هو بلال عثمان؟ - جزء كبير مني تجده عند بلال عثمان. لكنّني استخدمت ضمير المخاطب طوال الرواية، مع استثناءات بسيطة استخدمت فيها ضمير المتكلم، لأن بطل الرواية يموت قبل نهايتها بصفحات، وكان لابد من اتمامها. كما استخدمته لأن هناك محاذير من استخدام ضمير المتكلم، فكل ما ترويه سيؤخذ عليك ويلصق بك، إذا لجأت إلى ضمير المتكلّم... سبب لي ضمير المتكلم في احيان كثيرة مشاكل مع زوجتي. كتبت رواية "دنقلة" كاملة بضمير المتكلم، فغضب أهلي في النوبة وعقدوا لي محاكمات. وحتى لا يغضب أحد من "انفجار جمجمة" كتبتها بضمير المخاطب، كما أشرت في البداية إلى أن الرواية لا علاقة لها بالواقع. هل تروي في "انفجار جمجمة" سيرتك الذاتية؟ - بوسعك أن تقول ذلك، فيها ملامح من سيرة ذاتية إذا أخذنا بالاعتبار حجم الوقائع الحقيقية فيها. والفصل الثاني هو عن حياتي في مدينة السلوم على الحدود المصرية الليبية. وأنا أتمتّع بذاكرة قوية، خصوصاً الأشياء التي آلمتني وسببت لي أزمات نفسية. وهناك في الفصل الثالث، "بلال يحترق"، أشياء كثيرة حقيقيّة أيضاً... لماذا مات "بلال عثمان"؟ - هناك اليوم فئة قادرة تتميز بالشراسة، ويمكنها أن تفعل أي شيء، أن ترتكب أبشع الجرائم من دون أن يحاسبها أحد. أن تحطّم اي شخص له رؤية مغايرة. كان من الضروري أن ينتهي بلال عثمان قتيلاً على السلك، كي تظهر القدرة الفائقة لأعدائه. إختصرته إلى قدرته الجنسية. لماذا؟ - بلال يعيش أزمة، وهو في طريقه للخروج من وطنه. وهذا هو الموت بالنسبة إليه. لكن لحظة التقائه مبروكة ميلاد جديد، عبرت عنها عن طريق الفحولة الجنسية. عندما أكتب لا أخاف من الجنس، فهو غريزة اساسية مثل الطعام والشراب. ولا اعتبره من العيوب. هل اخرجتك الرواية من ازمتك الشخصية؟ - جائزة جامعة اركانسو، في الولاياتالمتحدة، هي التي ساعدتني على تجاوز أزمتي. فأنا لم احصل طوال عمري على اي جائزة. اشترى بيتر سروزيروكس نسخة من "دنقلة" وسافر إلى بلاده. وعندما كتب يطلب منّي اذناً لترجمتها، سارعت إلى الموافقة. لم ينجح المترجم في الاستحواذ على اهتمام أي دار نشر أميركيّة. وقرّر، بالاتفاق معي، أن يشارك بالمخطوط الانكليزي للرواية في مسابقة جامعة أركانسو، ففزنا بجائزة قيمتها 15000 دولار. عشت حياتي كلها بين عالمين: الكتاب والهامش، لكنني لست هنا او هناك. لم أجد لنفسي مكاناً في عالم الكتّاب. الجائزة أخرجتني إلى الضوء، ومسحت عني الغبار والحزن والأوجاع الداخليّة. هل ستقلع الآن عن محاولة الانتحار؟ - أنا منذ شبابي المبكر مأزوم، حاولت الانتحار مرات عدة. لكنّني مدين لبيتر سيروزويوكس، هذا المترجم الجاد الذي نقل إلى الانكلييزيّة "مدن الملح" عبد الرحمن منيف و"رأيت رام الله" مريد البرغوثي، بولادتي الجديدة. كما أن المبلغ البسيط الذي ربحته أسعدني وطمأنني، وسيكون اول مبلغ أدخره طوال حياتي. فأنا كما تعرف لا املك سوى مرتبي من الوظيفة. أي نوع من الكتب تقرأ؟ - أقرأ الادب العربي، والأدب العالمي المترجم، أكثر مما اقرأ الادب المصري. الخوف يسيطر على معظم الكتابات المصرية، وهي تراعي كل الحساسيات في المجتمع، ما يجعل العمل لا يقول شيئاً في النهاية. قارن بين اي نص روائي مصري و"الخبز الحافي" لمحمد شكري، ستجد الفرق شاسعاً. فنص شكري جميل، ومفتوح، ويقول كل شيء. هذه هي الكتابة: أن تقول تجاربك. تصوّر أن كاتباً مصرياً صديقاً، هو يحيى مختار، أمضى عامين في المعتقل، ولم يظهر لهذه التجربة اي اثر في كتاباته. تجنبها وكأنه لم يعشها، على رغم ما تنطوي عليه من خصوبة أدبيّة. هناك كتاب يخافون الاهل والاصدقاء، وآخرون يخافون على مصالحهم وامتيازاتهم. تأثرت بنصوص مثل "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، وهي رواية خطيرة وجريئة. وتأثرت ب "ليلة القدر" للطاهر بن جلون و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا ابراهيم جبرا. وبالنسبة إلى الأدب العالمي استفدت من كتابات كثيرة آخرها "ايفالون" لإيزابيل الليندي. كما انني متأثر جداً بالطيب صالح، بل انني معجب بهذا الروائي السوداني لدرجة الهوس، وتحديداً بروايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي قرأتها حتّى الآن ما يقارب العشرين مرّة! فحولة بلال عثمان في "انفجار جمجمة" تشبه فحولة مصطفى سعيد في "موسم الهجرة..."... - صحيح. وفي اعتقادي أن "موسم الهجرة إلى الشمال" أعظم رواية عربية، لكن الطيب صالح لم يأخذ حقه كاملاً. آه، نسيت أن أذكر لك أيضاً أنني تأثرت كثيراً بنجيب محفوظ الذي جعلني أقرأ الادب العربي أساساً. فقبله لم أكن أقرأ غير الأدب المترجم