الرواية هي المكان بامتياز، فيه تنبت الشخصيات وتتشابك العلاقات وتتوالد الأحداث. والأدب بشكل عام مرتبط بالمكان، حتّى في انسلاخه عنه أحياناً. ففي وجدان كل أديب يعرّش مكان محدّد، مدينة بأحيائها وروائحها وضجيجها، بأحداثها وأحاسيسها وناسها. حاولنا أن نغوص في تلك الذاكرة الثقافية والحميمة، داعين عدداً من أبرز الكتاب العرب إلى كشف الخيوط الخفيّة التي تشدّهم إلى مدينة ما، هي مكانهم الأصيل أو أحد أمكنتهم الأثيرة. طلبنا إليهم أن يرفعوا الحجاب عن زاوية في لاوعيهم، يتقاطع عندها الذاتي بالثقافي، والخاص بالعام. وأعطيناهم الحرية في اختيار الأسلوب واللغة والشكل، في اختيار المكان. إستجاب بعضهم وتردد آخرون. نبدأ هنا بغادة السمّان، وننشر المساهمات الأخرى تباعاً بصورة غير منتظمة. حكاية غادة السمّان مع دمشق ليست حكاية عاديّة، كعلاقة أي كاتب مع مدينته. فغادة التي بارحت مسقط رأسها منذ صباها، وعاشت في بيروت قبل أن تختبر عواصم الغرب وتدور حول العالم، مندهشة وباحثة وكاتبة، لم تفارق دمشق أبداً. تعيش معها في ذاكرتها، وفي دفاترها، في مرآتها وعبر نافذتها. دمشق هي كتبها وأحلامها وشخصيات قصصها ورواياتها، وهي قصائد شعرها. كأن غادة توحّدت مع المدينة، ووحدت معهما كلّ حرف كتبته. لذا، حين تُسأل غادة عن دمشق، حسبها أن تعود إلى نصوص رواياتها وأشعارها ومقالاتها، حسبها أن تعود إلى مرتع احلامها الاولى، فتجد عطر الياسمين، المدينة، الطفولة، الأزمنة في انتظارها. طربوش أبي يتربع على الطاولة في مدخل بيتي النيويوركي، أما شباكي الشامي العتيق فقد علقته على الجدار كنافذة على السر اغادر عبرها جاذبية البيضة مكيفة الهواء... نافذة افتحها ليلاً ولا أرى الجدار خلفها بل أرى دمشق وتهب رائحة الياسمين. دمشق التي ولدت فيها، دمشق أقدم مدينة مأهولة على وجه كوكبنا. مدينتي التي حملتها تعويذة في عنقي قبل ان أرحل، وحمدت لها روح الصمود التي ضمنتها الى دورتي الدموية ليلة رحيلي. أدور في البيت وأكاد أضحك كمن يراه للمرة الأولى. لعله بيت يشبهني. طربوش والدي العثماني يتربع في صدر المكان والى جانبه ماكينة "فاكسيميلي". الشراب في البراد والى جانبه حرزي الشامي العتيق الذي أوصتني جدتي بعدم التخلي عنه، وأرغمني حر نيويورك الخانق على ايداعه صيفاً في البراد، فقد بدأ يبلى. صور قديمة على الطاولة. صورتي بثوب الاستحمام الى جانب صورة ابنة خالتي بپ"الإشارب" والكم الطويل، وخالتي بالمنديل الأسود والثياب العربية، وجدتي بپ"البرالين". انه موزاييك حياتي الممدود بين الحاضر والماضي، بين قارتين وعمرين وصحوين ونومين. كنا نتسلق قاسيون، أعوامنا العشرة تبحث عن الكنز المخزون في قاسيون والذي حدثتنا أمنا عنه. في منتصف الطريق كنت أخاف، عند تلتيه كنت أقول ذلك. حينما أرى دمشق بعيدة في القاع وجميلة وبريئة كنت أصرخ، وبحزم يهمس أكرم زعيم عصابتنا: لا تنظروا خلفكم... انظروا الى رأسي... في المظاهرات كنت أبحث عن رأسه حينما أسمع الرصاص ينطلق، وأظل أتقدم. الشمس تشرق من الغوطة، حيث قطعنا رؤوس الفرنسيين، وتغرب وراء قاسيون، قرب المئذنة التي كان جدي يؤذن فيها ... وكان الليل زنبقة سوداء على كتف بردى، وقد خرجنا للتو من مطعم أبو عدنان وسرنا حتى قهوة بن عازار، سرنا نتفقد شرفات النائمات، نستسلم لخطانا التائهة، ومن كل حجر رصيف من كل بناء من كل ذرة ريح في دمشق يفيض شيء محبب مشحون بالأصالة والحنان. يا دمشق أي سر فيك يشدني الى أضيق زقاق في الشاغور. أي كنز في قاسيونك يسمر أعيننا على العودة اينما كنا. أي نبع أصالة نأمل في أن نفجر. منذ هجرنا دمشق عرفت الدنيا ولم أعرف الطمأنينة أو اليقين. كنت أراها هكذا في قمة قاسيون، تماماً كهذا المشهد، مضيئة وطيبة، وكان اليقين يملأني بالمرافئ كلها، اليقين بالحب، والرجل والوطن والمستقبل... أي عذاب كانت الطبيعة تختزن لي، أي عذاب. هل يتلوني الليل على مسامع الصبايا في دمشق، قائلاً أنني مثلهن، عاشقة ترادف الجنون، ونحلة لدغها كل من صنعت العسل لأجله؟ تزوج الحنان من الحجر، فولدت بيوت تحني على أهلها كرحم في أزقة متلاصقة الشفاة كهمس العشاق، قرب باب توما، والشاغور والقصاع وسوق ساروجة والذهب الضوئي، يسيل من قباب الجامع الأموي وستي زينب، ومن جرس كنيسة القديس بولس وآثار أقدامه حتى روما... دمشق زهو الورد الجوري، في خدود صبايا يقاتلن طواحين الهواء، ويربحن الخسارة المضيئة. قبل ان أرحل بعيداً كأية بومة، أدمنت الليل، قرأت دفتر الياسمين في دمشق. قرأت احجارها العتيقة، كنائسها جوامعها، قرأت وجوه عشاقها ومجانينها. ليلها وفجرها. قرأت فصولها الخمسة وأوراقها الخريفية "الدهبيات" قرأت شواهد مقابرها ووجوه بسطائها وبسطات فقرائها. قرأت طلاسمها، احجياتها، تعاويذها، رياحها. قرأت دم ثوارها وسجونها. حبال مشانق شهدائها. قرأت ميسلون. وحين تخرجت من مدرستها، وصرت وتراً يعزفها، بدأت طيراني الليلي بومة متوحدة في دمها ذلك كله... سألني الليل: ما اسمك ايتها البومة الدمشقية؟ قلت له: اسمي الحرية... دمشق يا بعيدة. يا حكايا التعاويذ والتقاليد. يا سكينا مغروساً في أعماقي لا أملك إلا ان أحنو عليها... دمشق. يا طفلة الخريف الوديعة... إني أراك الآن خلال حبال المطر. الآن وأنا أتسكع في الشوارع المقفرة، أراك كما كنت أبداً، وديعة، كئيبة، ومحافظة كزوجة ما زالت لا تجرؤ على ان تقبل زوجها. أراك، وأرى نفسي فيك. إنني هناك أمام "اللاييك". انني هناك في الغوطة طفلة متمردة على الأطفال تفضل مصادقة أبيها. إنني في طريق الصالحية المؤدي الى مدرستي فتاة تضم كتبها الى صدرها ويتوهج خداها بالحمرة كلما أطال شاب النظر اليها. إنني هناك في الزحام في ليلة ما من ليالي تموز والألعاب النارية رقصة غجرية في كبد السماء. إني هناك على قاسيون، وأناملي تضيء شموعاً ... وأبنيتك التي حفظتها يا دمشق، حتى حفرت شوارعك، حتى اهتراء احجار أرصفتك. آه ماذا أقول؟ عبثاً أحاول أن أكفن صورتك بالمشاهد أمامي. إنها مدينة غبارها الياسمين، وحصاها النجوم، وأنشودتها نغمة التحدي للفاتحين على مرّ الدهور، مدينة تكسرت على أسوارها محاولات الزمن لإذلال شعبها الرقيق كحد سيوفها، الشرس كأحصنة العرب البرية التي تستعصي على ترويض يد غريبة. اسم المدينةدمشق. وكنت بنتاً صغيرة تهرول كل فجر في طريق الصالحية الى المدرسة. لقد علمتني دمشق كيف أشرك في الحب، وكيف اعشق كل تبر متنكر في هيئة تراب على أرض وطني العربي الشاسع. وعلمتني الوفاء لكل من علمني حرفا وحين درّسني لبنان في ما بعد أبجدية الكرم والحنان والعطاء، صرت له سبية حب حتى الموت. حينما أكتب عن دمشق، انتحب على حض الورقة بصمت دموع من حبر. في دمشق ساحة. في الساحة بيت. للبيت شرفة. للشرفة حبيبة تروح جيئة وذهاباً طوال الليل. في يدها خارطة العالم. في عينيها مرصد للطائرات الذاهبة والآتية التي كانت تتمنى لو ترحل بها سائحة كونية الى كوكبنا والكواكب الأخرى. رحلت الصبية. رقصت الدبكة طويلاً في مواكب الدهشة. وضعت قدماً في القطب، وقدماً في خط الاستواء. في الليلة الماضية قالت لي ذاكرتي: إرسمي لي خروفاً. فرسمت لها مدينة اسمها دمشق. لم أرسمها طالعة من مرايا الماضي وصناديق الحنين. بل رسمت شهوة مستقبلي معها لا ماضيّ وحده في الليلة الماضية رسمت شرفتي العتيقة في ساحة النجمة، ووقفت عليها أمشط شعري. حين عشت في دمشق لم أرها جيداً. كنت كمن يلصق وجهه بمرأة فلا يرى شيئاً. واليوم بوضوح أراها من بعيد. بحلوها ومرّها. فهل عين الحلم أكثر صحواً من عين الصحو؟ مع كل ربيع يخيل "إليّ" أن أمراً غرائبياً يحدث في دمشق، وان ثمة جنياً لامرئياً هائل الضخامة يقف مع تباشير نيسان فوق جبل قاسيون وهو ينفخ ببوقه ويوقظ براعم الأشجار وأهل "الشام" من سباتهم الشتائي، معلناً ان فصل الربيع قد حل، وجاء موسم الهجرة الى "السيران". وانتهى فصل عمهم آذار الذي خبأوا له "فحماتهم" الكبار. يخلعون قمصانهم الصوفية. يرتدون قميص الاسترخاء الأخضر. يسارعون الى دفن موتاهم ورتق جراحهم، وترميم بيوتهم وقلوبهم، وإيقاف نزف الشتاء الماضي، واغلاق دكاكينهم وذاكرة هزائمهم وانتصاراتهم على طول خمسة آلاف سنة هي من بعض عمر مدينتهم الدهرية، ويعيشون هدنة غير معلنة مع أنفسهم في عطلة نهاية الاسبوع. يحملون معهم مرضاهم والعجز والأطفال. يركضون الى حزام الخضرة الذي يطوق خاصرة دمشق في "عراضة" جماعية. فالسيران علاقة حب بين "الشوام" والفضاء الزمردي المضيء لمدينتهم، حين يصير للهواء لون الخضرة المشعة من منجم الماس والزمرد في سماء واحات دمشق، ويحتفي "الشوام" بانتصار الحياة والفرح والسلام على كل شيء. ... ويقف جني الربيع، وقد فرد قامته بين قمة قاسيون وزرقة السماء اللامتناهية، وينفخ في بوقه مرات، ولا تبقى حلزونة داخل قوقعتها ولا سلحفاة في صدفة شتائها ولا أرملة في سرير مرضها. وأحياناً يكتفي البعض بنزهة على ضفة نهر بردى وقد يتأمل بدهشة سيدة تقود سيارة يا للعجب! ويقرر أنها بالتأكىد اجنبية، أو يتوقف على الجسر القريب من "التكية السليمانية" بقبابها ومآذنها ويلتهم شطيرته، أو يمشي في البساتين الممتدة من جبل قاسيون حتى المنزل الصيفي لفخري البارودي الضائع في غابة من البساتين المخضرة التي شقوا على طرفها شارع أبو رمانة. وحين تناثرت بيوت قليلة آثرت الإقامة في تلك الضاحية الريفية، ومثلها بيوت نادرة في ضاحية المزة شبه الخالية من المباني باستثناء المستشفى العسكري ومبنى آخر كبير أو اثنين في "اخر ما عمرّ الله" على حد تعبير الناس. وقد يمشي طويلاً متجاوزاً "كيوان" بعد شارع بيروت حتى يصل الى "الربوة" وينضم الى أصحاب أكثر ثراء احتلوا الشرفات الخشبية المعلقة فوق قرع بردى "شورى" والشلالات تتدفق منه. في باريس طاردني شبح الياسمين، وكان بوسعي أن أشم عبر البحار والقارات روائح بيتي. الياسمين، الفل، الريحان، الورد الجوري. النرجس، المضعف، الخمسية. الأضاليا، الزنبق، النارنج، الكباد، العرائش على السطح فوق سقيفة القصب. زهر الليمون. الشبّ الظريف. هال قهوة أمي وماء الزهر بضوء الفجر. وعطر دعواتها لي. ماء الورد في الليمونادة المعصورة بيدها. رائحة الفناء الصغير مقابل المطبخ. التوابل. البهارات، دبس الرمان. اللوز المحمص. المخلل. البخور والتمر والصندل. بل كان بوسعي ان اسمع في باريس أصوات الروائح الملونة اللامنسية. وأراها وهي تزداد ضراوة مع كل يوم داخل دورتي الدموية. الأصوات البرتقالية والسماوية والبنية والخضراء والليلكمية والرمادية والبيضاء، ممتزجة بصوت أذان الصبح من الجامع الأموي القريب من بيتي في القارة الأخرى. صوت الباعة الجوالين في "زقاق الياسمين": خائن يا طرخون. أصابع "الببو" يا خيار. ياللي رماك الهوى يا ناعم. جرادئ. نداء السحر: يا نايم وحد الله. يا نايم أذكر الله. رنين الأساور الذهبية على الأذرع البضة. الزغاريد و"الولاويل" المشابهة كثيراً في كتلتها الأثيرية الثقيلة. قرقرة النراجيل وهمسات النافورة ووشوشة السبيل. قرع سقاطة الباب النحاسية الذي يكاد يكون بشرياً لا معدنياً. صوت جارتنا أم علي وهي تستدين من أمي كوباً من "القريشة" المجففة وفنجاناً من "ترويبة اللبن". وصت ابنتها معزز وهي تطلب استعارة "المصطبجية" للتعزيل. صوت أبو سطام وهو يزجر عابر سبيل في "زقاق الياسمين" لأن "عينه تلعب" على ابنة الجار، وابنة الجار كأنها ابنته وكل بنات الحي "عرضهّن من عرضه"، فكيف يأتي ابن الميدان أو الشاغور أو قبر عاتكة لپ"يتصبب" على بنات الحي ويلعب بحاجبيه لهن؟ صوت الرجال وهم يهمون بالدخول تسبقهم صيحة "يا الله" وتركض النسوة "خذوا طريقاً للحريم"... الصوت الصامت المرحب بالضيوف في الغرفة المزيحة بالكحلي والذهبي. صوت غطرسة منقل النحاس الثقيل على صينية مطروقة بالحكم بخط بديع قديم كأنها آتية من حكايا ألف ليلة وليلة. بل من كهف علي بابا بالذات وقد حملتها مرجانة شخصياً الينا منذ عصور. صوت حكواتي "كراكوز وعيواظ". صوت ست الحسن بدر البدور التي ما قبّل فمها غير أمها وهي تقول للبدر قم لأجلس مطرحك. كيف أغادر بيتاً من فسيفساء القلب لا يباع ولا يهجر؟ كيف أغادر نهر بردى وهو يتحول من نهر الى مرآة ضوئية، وقد توقف الزمان قليلاً وقت المغيب يحتوي انحناءة القباب المذهبة بالغسق وعسل الغيوم يسيل فوقها بعذوبة، وفوق جبل قاسيون و"تنابل" التكية ودراويشها ومتسوليها المقيمين، وفوق الشوارع الزاخرة بالحياة والمباني والناس. اشعر بشيء من العزاء كما أرتاح لمشهد بسطات الباعة التي ما كادت العاصفة تمر والمطر يتوقف، حتى تعود الى الانتشار والتجدد؟ كيف أغادر المشي طويلاً في الزحام، حيث فوران الحياة يهزم الشعور بالسجن الانفرادي داخل الذات وبالموت اليومي للأشياء الجميلة. وتقفل راجعاً صوب سوق الحميدية، هناك حيث تظل قطرات من الماء تنحدر فوق الوجوه من ثقوب السقف العتيق. وتبدو السوق نصف خاوية من الناس وقد فاحت رائحة صدر "الأوزي" من مطعم الأمراء، وانزوت بوظة "بكداش" خجلة من البرد الماطر. عند ذاك تبدأ الحوانيت تغلق أبوابها، وثمة رجل متعب ينوء بحمل "صندوق الفرجة" على ظهره راجعاً بدماه الى الليل والصمت. و"البويجي" يهرول بصندوق "البويا" وهو لا يلوي على شيء. والمياه تقطر منه ومن المزاريب وثقوب السقف التي تتسع عاماً بعد آخر. ولكن رائحة البهارات من دكان العطار لم تكن لتغلق أبوابها بل تفوح وتعشش في الزقاق منذ عشرات السنين وتمنحه رائحته المميزة المبهرة بعبير الياسمين الذي يشم داخل الاحلام. وهكذا تنتهي اسطورتنا يا دمشق. تحل علي لعنة الغجر. وعلي ان أبدأ من جديد. خيمتي الرياح ووسادتي غيمة الذكريات، وحبيبي الصمت وديني الكبرياء والوفاء. وأنت أبداً مبكاي ومصلاي أنى توجهت وحيدة إلا من طموحي. اعيدوني الى قمة قاسيون، أعيدوا دمشق الى قلبي... اعيدوني الى قلب دمشق