هل كان علي أن استفزه ليلتفت إلي؟ بردى نهر خجول، يبحث عن ذريعة لكي يتوارى ويخفي نفسه وراء شجرة تين، بقيا من عمود أثري، ظل امرأة عابرة وطفل يلهو. «أينما ذهبت في دمشق ستجده مثلما هو. مهذباً، صامتاً وأليفاً» قال لي صديق في ما بعد. طباعه الدمشقية جعلتني لثلاثة أيام متتالية أنظر إليه مسحوراً من غير أن أجرؤ على التلفظ باسمه أو التلويح له. كان علي أن أذهب إليه منذ ساعات الفجر الأولى، غير أن رفيا قضماني أخذتني من الطائرة إلى المتحف الوطني، حيث كان علي أن ألقي محاضرتي على جمهور، سأكون ممتناً إليه ما حييت. كنت نصف نائم فكان ذلك الجمهور النادر بأناقته وثقافته ومستوى وعيه وحساسيته الفنية ودرجة تهذيبه بمثابة حارس لنصفي اليقظ. كان الجمال قوتنا المشترك، وهل هناك حاضنة لسؤال الجمال أكثر سعة من دمشق؟ حلّقنا معاً فوق مناطق مر بها بردى وبارك بمياهه معجزاتها الصغيرة. من الصخور يخرج محمّلاً برائحة الحبر الإلهي ليروي الغوطة حكايات. قلت لهم: «جئتكم لأحكي وأنا أعرف أنني أستعيد حكايات سبق لبردى أن لامس شفاهكم بعذوبة تنهدات حورياتها» كنت أتحدث عن نهر حلمته كائناً سماوياً. لمَ لا؟ لم يذكره القرآن، غير أن مياهه كانت تسري بين الآيات، عذبة، رقراقة، نحيلة فلا ترى. أصدق أن نهر أحلامي كان يذهب برخاء إلى الجنة. كان من الممكن أن أغادر دمشق في زيارتي الأولى لها من غير أن أقف أمامه وجهاً لوجه. كان من الممكن أن أعفيه من الالتفات إلي باعتباري عاشقاً لولا «فتة الحمص». وجبة الغذاء الشامية التي احتلت المرتبة الثانية في برنامج رحلتي إلى عاصمة الأمويين. ثلاثة أيام مرت علي وأنا اشعر بالإحباط. كلما طلبت تلك الوجبة في مطعم قيل لي «ليست في قائمة الوجبات. إنها وجبة صباحية» كان الصباح الدمشقي يخونني بسبب الفرق في الوقت الذي كنت ضحية ساعته الداخلية. حين قلت لياسر صافي بما يشبه الرجاء «فتة حمص» ضحك وأمسك بيدي مشفقاً «لك ما تريد. أفضل فتة حمص في دمشق». كنا على الجسر، مهملين مثل كائنات الله الأخرى، تأخذنا اللغة إلى أماكن خلاسية هي أمتار متخيلة مضافة يسد فيها اللامرئي من حكاياتنا الطريق أمام شقيقه المرئي، حين همس ياسر بإهمال «إنه بردى». لمَ فعلت ذلك يا صديقي؟ كنا اثنين متآلفين، فإذا بثالث يقلب الطاولة بما حملت. كان بردى تحتنا وفوقنا سماء خفيضة. كانت المياه تمر بهدوء فيما كان قلبي يفيض بعاطفة قديمة. استيقظت صورة الطفل الذي كنته ببنطلونه القصير وهو يردد صباح الخميس «سلام من صبا بردى أرقُ» صارت دموعي تسيل وهي نبوءة أحمد شوقي. امتلأ رأسي بالأشعار التي صار بعضها يستعير كلمات البعض الآخر ليذهب بها إلى معان مختلفة. حينها فقط شعرت أن ذلك الخيط الرفيع من الماء قد نجح في دوزنة إيقاع خطواتي الذي لم يعد يُسمع. «حلمتُ أني قريب منك يا بردى» يبتسم جورج صيدح من مهجره «أبل قلبي كما بل الهشيم ندى» كانت الشمس قريبة من الرأس. فوقنا تماماً. «ألا تزال فتة الحمص بعيدة؟» لم أسأل صاحبي. كنت في لحظة إجلال وتجل، شاخصاً ببصري إلى حيث تضع الملائكة خرائط غدها. وقفت. كانت دمشق لأول مرة أمامي. عزيزها تحت لا يكف عن الحفر في مناجم الغزل. «لقد وقعتَ يا صديقي» قال لي ياسر. قلت له متسائلاً: «أفي كل يوم بردى؟» وصرت أفكر أن بردى لا ينفع أن يكون نهراً. يمكنه أن يكون لغزاً في حياة عاطفية. رسالة غرام لن تصل إلا بعد قرون. متحف تنهدات مفقودة. «لقد آذيتني» قالها الحلاج لتلميذه الشبلي حين رماه لحظة صلبه بوردة. حكاية بغدادية تصلح لأن تكون مادة لحكي المقاهي الدمشقية. لقد أهدتني إحدى الشابات بعد المحاضرة وردة فقررت أن استفز بها بردى. رميتها. بزهرة لا بحصاة شعرت أني صرت جزءاً من تاريخ ذلك النهر الذي حلمته كثيراً. «ما راح ترجع» كانت فيروز تقول لي وأنا أقرب الملعقة من صحن «فتة الحمص» السخي. كان هناك صنوبر وكنت أفكر بزهرتي وهي تتنقل بين أحياء دمشق، المهاجرين والصالحية لتتجه نحو سوق ساروجه ثم العمارة فالقصاع ثم تتجه إلى أراضي جوبر، عين ترما وحزة، زملكا، عربين، مسرابا، مديرة ثم دوما. «ولكنها صارت أماكن للقتل؟» أصرخ الآن. بردى يمر بزهرتي على كل بيوت دمشق العتيقة. هناك رائحة مني في نافورات بيوت بني أمية. أتخيل بردى صامتاً وخجولاً. أتخيله نحيلاً، يود أن أحداً لا يراه. من على الجسر رفعت يدي لكي يراني. «أنا هنا» حينها شعرت أنه التفت إلي. كان فؤادي من صخر، بحيث لم أسجد. أضع اصبعي الآن على الخارطة وأتتبع مجرى بردى. أتساءل: «كيف يمكن أن تستقيم المعادلة بين كل هذا القتل وبين كل ذلك الغزل؟» بردى لا يجيب. فهو النهر الأكثر خجلاً في العالم.