في الحلقة الثانية والاخيرة من تحقيقه عن المناطق الكردية في تركيا التي دخلها كسائح مستخدماً آلة تصوير صغيرة جداً لكنها متطورة من نوع "كونتاكس ت2" يتحدث كريس كوتشيرا مع المواطنين الاكراد هناك ويسألهم عن ظروف حياتهم وأسباب ترحالهم الدائم وعلاقتهم بالسلطات. عاش جميل حتى العام 1993 في مسقط رأسه قرية ليوك التي تبعد حوالى 15 كلم عن ليتشي LIEEC. وكان جميل وهو فلاح ميسور نسبياً وأب لثمانية اطفال. يزرع خمسة هكتارات من التبغ ويملك جراراً زراعياً وطاحونة وبساتين. اما اليوم فلم يعد جميل يملك شيئاً بعدما فرّ من قريته في شتاء 1993 - 1994 وتنقل كالبدو الرحل من مكان الى آخر. علماً ان دخله كعامل مياوم لا يكفي لسد رمقه ورمق عائلته. وهذا الصعلوك هو واحد من معذبي كردستان الذين شردتهم الحرب وعلى غرار الملايين من امثاله هجرته فرق الجيش التركي الخاصة بعدما دخلت القرية وراحت تضايق السكان وتضربهم، وتضرم النار في بعض المنازل لاكراه السكان على النزوح. يذكر انجان 15 عاماً احد ابناء جميل ان حراس القرية ضربوه ضرباً مبرحاً لأنه قال: "نحن سنصمد هنا حتى النهاية" وقد نقل على اثر ذلك الى المستشفى وأحرق منزله. والقرية اليوم فارغة، فمن اصل 200 شخص كانوا يعيشون فيها لم يبق سوى ثلاثة شيوخ. أقام جميل اولا في ديار بكر حيث قضى ثلاثة اشهر ثم غادرها بعد مآسٍ مفجعة ضربت عائلته فابنه البكر محمد قتله مجهول لدى خروجه من المقهى، واتهم ابنه جاهيت بأنه ينقل البريد الى حزب العمال الكردستاني وحكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً. قررت العائلة ان تهجر كردستان فتوجهت الى ادا بازاد على مقربة من اسطنبول حيث يستطيع العمال الموسميون ان يكسبوا بعض المال لقاء قطف الثمار. وقضى جميل وعائلته في ادا بازاد 50 يوماً ثم انتقلوا الى مانيساد بعد ذلك الى منطقة اضنه حيث قضوا ثلاثة أشهر كانوا خلالها يقطفون البرتقال نهاراً وينامون في الخيام ليلاً. وواصلت العائلة تشردها فقصدت ازمير حيث قضت سنتين تعيش في كوخ حقير، ثم يممت شطر بورصة وبعد سنة نجحت في توفير مبلغ زهيد من المال أتاح لها العودة الى ديار بكر وعندما انفقت مدخراتها عادت الى التشرد وانطلقت الى الغرب وهي حالياً تعيش في اسطنبول في الطابق الأرضي لبيت مزر يفتقر الى الشروط الصحية البدائية. ولدى سؤال تشيناي 21 عاماً وهي ابنة جميل لماذا رغبت العائلة في العودة الى ديار بكر، اجابت من دون تردد: "انها مدينتي. انها وطني، فأنا عندما اكون في ديار بكر أشعر بأنني في بيتي. والناس فيها يحيطونني بالحب، اما في اسطنبول فأنا اشعر بأنني غريبة". وتشيناي ذات الشخصية الجذابة توهمك للوهلة الأولى بأنها طالبة، مع انها امية. وعندما سألتها هل تحلم بالذهاب الى المدرسة يوما ما؟ اجابت... نحن لا نحصل على لقمة الخبز الا بشق النفس... اما الدراسة فانها حلم صعب المنال. هنالك اكثر من نصف مليون كردي على شاكلة جميل يهيمون فوق طرقات تركيا تبعاً لاهواء الفصول، ورحلة التشرد تبدأ في نيسان باقتلاع الاعشاب من حقول القطن، مروراً بقطف البرتقال وجني الخضار وانتهاء بجمع القطن. وهؤلاء العمال يُسخرون ويستغلون لقاء اجور زهيدة مليون ليرة تركية اي حوالى 4 دولارات في اليوم ويعيشون في اكواخ من الكرتون ويتخبطون في دوامة من الشقاء الجسدي والنفسي. والضحايا الاساسيون لهذا الوضع هم الاطفال اذ يحرم معظمهم من الذهاب الى المدرسة لعجز آبائهم عن شراء الكتب والملابس من جهة، ولأن هؤلاء الاطفال يشكلون مصدر دخل لآبائهم من جهة ثانية، ولذا تجدهم بدءاً من سن التاسعة في الحقول والبساتين يقطفون الثمار ويجمعون الخضار تحت شمس محرقة، او في الشوارع يبيعون محارم الورق والسجائر. بيبزي راعٍ من منطقة ماردين 44 عاماً يعيش منذ اربع سنوات مع اولاده الاثني عشر في كوخ من الكرتون والنايلون على حدود قرية قرب ازمير، وهو ينعم بالكهرباء التي تنعم بها ثلاثون عائلة كردية تعيش في وضع مماثل لوضعه بفضل تعليق على خط الكهرباء الرئيسي الذي يمر في الجوار. الا ان بيبزي محروم من نعمة الماء، والغذاء الرئيسي للعائلة هو الخبز والكعك. يقول بيبزي الذي يعاني من رضوض اثر سقوطه من جرار زراعي: "اولادي لم يذهبوا يوماً الى المدرسة. وحده الولد البكر يعرف القراءة قليلاً. في قريتنا في كردستان كان عندنا مدرسة ولم يكن لدينا مدرس. اما هنا فان ارسالهم الى المدرسة غير وارد على الاطلاق اذ عليهم ان يعملوا". ثم يتساءل بيبزي: ماذا كنت سأفعل لو لم يكن لدي اطفال كثيرون؟ ثم يجيب باعتزاز: "سلالة اجدادي تبلغ 580 شخصاً بين أولاد وأحفاد... الأولاد يعودون علينا بالمال.. انهم "رزقة". على حافة الطريق بعد حقول ازمير وأضنة تقوم مدن الصفيح في انقرةواسطنبول. ترى لماذا يتجمع ملايين الاكراد في مدن الصفيح هذه، قبل ان تحاول اقلية ضئيلة منهم طلب اللجوء الى اوروبا الغربية؟ بالنسبة الى بعضهم ومنهم جميل وتشيناي، الجواب واضح: لم يعد في وسعهم ان يتحملوا حياة التشرد على الطرقات. وبالنسبة الى آخرين فان العامل الحاسم هو وجود عائلة وأقارب وأصدقاء. وثمة ايضاً من وجدوا انفسهم في مدن الصفيح بمحض المصادفة. يقول نوزت 32 عاماً الذي طرد من قريته في منطقة ارضروم في العام 1989 لأنه رفض ان يكون من حراس القرى: "لم اكن اتصور انني سأبقى هنا في هذا البيت الصغير الذي بنيته في مدينة الصفيح في اسطنبول على بعد عشرين كلم من وسط المدينة بين احد المصانع ومحوّل طريق اضنه السريع. وقد اضطررت الى اعادة بناء هذا البيت أربع مرات بعدما هدمته جرافات البلدية. فيما مضى كنت اعتقد بانني سأعود الى القرية. اما الآن فقد انتهى الامر. وقد ولد اثنان من اولادي الخمسة في هذا البيت". وبفضل ربط منزله بخط التيار الكهربائي بشكل غير قانوني ينعم نوزت بالكهرباء التي تتيح له ان يشاهد برامج يبثها التلفزيون الكردي من بلجيكا ومن بريطانيا. ولكن الماء لا يصل الى البيت. والعائلة تستخدم صفائح تملأها بالماء من صهريج يمر مرة في الاسبوع. وأحياناً يكتفي سائق الصهريج بالقول: "لا ماء هذا الاسبوع. تدبروا اموركم". وتقوم النساء بغسل الثياب عند نبع يقع على بعد 500 متر.. لكن ماء النبع غير صالح للشرب. يعمل نوزت في قطاع البناء لحساب شركات خاصة ويكسب يومياً عندما يجد عملاً حوالي مليوني ليرة تركية 8 دولارات. ومنذ عيد النوروز 20 آذار/ مارس عمل 30 يوماً فقط. ويعلق نوزت على الأمر قائلاً: "منذ اعلان الحرب على الشعب الكردي تضاءلت فرص العمل. في البدء كانت الحرب ضد اشخاص محددين، لكن الدولة منذ العام 1990 اعلنت حرباً على الشعب الكردي بأسره" وهذا التعليق العفوي يعكس الاعتقاد الراسخ لدى ملايين الاكراد، وهو ان الدولة لا تحارب حزب العمال الكردستاني، بل الشعب الكردي. ورداً على سؤال كيف يتدبر توفير الطعام لعائلته عندما لا يجد عملاً؟ اجاب نوزت: "اشتري البقالة بالتقسيط. وديوني تتفاقم شهراً بعد شهر. علماً اننا لا نأكل الا الخبز و"البلفور" الأرز المجروش ونحن منذ سنتين لم نذق طعم اللحم". اولاد نوزت حالفهم الحظ، فهم يذهبون كل صباح الى المدرسة التي تبعد عن منزلهم ثلاثة كيلومترات سيراً على الاقدام. يقول نوزت: "لا شك ان اولادي محظوظون لأنهم يذهبون الى المدرسة. ولكن المدرسة تعني التماثل والاستيعاب وعلى اولادي ان يحفظوا قصيدة تقول: "انا تركي" ويندفع نوزت الذي تحمل ابنته الصغرى اسم كردستان الى جانب اسمها التركي، في الكلام: "نعاني هنا تغييراً جذرياً في الثقافة. فنحن بعيدون عن الثقافة الكردية. وأولادي لا يعرفون اسم قريتهم ولا اسماء اجدادهم لكنهم يعرفون الأغاني التركية واسماء لاعبي المنتخب التركي لكرة القدم. اما زوجتي فانها حتى الآن لا تعرف اللغة التركية شأنها شأن معظم النساء الكرديات. ومرد ذلك الى انها واجهت مشاكل جمة بسبب الأتراك، فهم مسؤولون عن كل ما نعانيه من شقاء، وهي ترفض ان تتعلم لغتهم، في حين ان الأولاد يتكلمون التركية في المدرسة والشارع، والكردية في البيت". احد جيران نوزت اصاب حظاً من العلم، وهو يشرح لماذا تهجِّر الدولة الاكراد بصورة منهجية من قراهم: حتى العام 1940 كان الأتراك يعتقدون بان في وسعهم قمع الانتفاضات الكردية وعددها 28 انتفاضة منذ 1923. وعندما فشلت محاولاتهم قرروا تسوية هذه المشكلة بواسطة التماثل والاستيعاب. وعندما يفقد شعب خصوصيته فعليه السلام. ان هدف الدولة هو تفريغ كردستان والمجيء بأهلها الى اسطنبول وازمير... الخ. وكي يحصل المرء على المال يجب ان يقبل بالتخلي عن هويته. في القرية يمكننا ان نفعل ما نشاء، وفي نهاية المطاف نستطيع التغلب على صعوبات العيش بفضل تضامن الجيران. اما هنا فان الدولة تقول لك: سأعطيك المال شرط ان تسكت. عشرة ملايين كردي قبلوا هذا الشرط. ولكن عشرين مليون كردي يرفضون الصمت. القضية اذاً قضية هوية وجميع اصدقاء نوزت الذين كانوا في زيارة له عندما التقيناه شاركوا في الحوار تكلموا على المشاكل التي واجهوها لايجاد عمل. يقول احدهم "حتى الأتراك لا يجدون عملاً هذه الأيام. ولذا فان الأعمال التي تقتضي جهداً وعناء، كورشات الطرق وجمع النفايات هي من نصيب الاكراد" ولدى سؤالهم كيف يعرفون ان العامل كردي؟ جاء الرد فورياً، ينظرون اولاً الى ظهر الهوية حيث يدون اسم المنطقة التي ينتمي اليها حاملها فاذا قرأوا باثمان او ماردين يقولون لنا: سنستدعيكم لاحقاً، وبكل تأكيد لن يتم استدعاؤنا أبداً. يروي سائق احدى الشاحنات: "عند نقاط المراقبة على الطرقات، عندما يقرأ رجال الشرطة على رخصة القيادة انني مولود في كردستان يقولون لي: كم شخصاً قتلت؟". ويقول احد جيران توزت: "الأمر الوحيد الذي نجح فيه هذا النظام هو تحريض الشعبين التركي والكردي بعضهما على بعض". وعندما طرحنا سؤالنا الاخير: هل يحاول سكان مدن الصفيح ان يصلوا الى اوروبا كما فعل مئات الأكراد الذين نجحوا في دخول ايطاليا على متن بواخر شحن صغيرة منذ اشهر او كما يفعل الاكراد الذين يتسللون عبر الحدود كل يوم؟ اجاب نوزت: الامر غير وارد لأن كلفة الشخص الذي يرغب في الهجرة تبلغ 3 آلاف مارك وليس بيننا من يملك هذه الثروة". ثم ختم نوزت اللقاء قائلاً: لو تحولت جميع مياه البرك في كردستان حبرا ولو غدت كل اشجار الحور ورقا فانها لا تكفي لوصف العذابات التي عاناها الاكراد عبر تاريخهم