لا يستطيع الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي 84 سنة القول انه فوجئ بتعرضه للمحاكمة بتهمة اعادة النظر بالمحرقة النازية وتصفية اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فهو كان يعرف بدقة ان قانوناً صدر في العام 1990 يحمل اسم قانون "فابيوس - غايسو ينص على تحريم أية أبحاث وأعمال نافية للمحرقة أو اجزاء منها أو تفاصيلها ومعطياتها. اما فابيوس فهو رئيس سابق للوزراء وللبرلمان الحالي وغايسو هو وزير النقل في الحكومة الاشتراكية ويمثل فيها الحزب الشيوعي المشارك في الائتلاف الحاكم. وباصداره كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية" في كانون الأول ديسمبر 1995 يكون غارودي قد تعمد خوض مواجهة مع القانون المذكور ومع التيار اليهودي المؤيد لاسرائيل في فرنسا والمنتظم ضمن تكتلات داخلية فرنسية - فرنسية تحتفظ بتاريخ طويل من الصراعات يتجاوز قضية اسرائيل والصهيونية ويمس موازين فرنسية دينية وسياسية واجتماعية. وتعمّد أيضاً تعميق الاعتراض على المحرقة الذي عبرت عنه سابقاً فئات مختلفة من اليمين المتطرف وأقصى اليسار، علماً بأن هذا الاعتراض الذي اتخذ شكل أبحاث وكتابات وتصريحات مناقضة للمحرقة أو محرفة لمعطياتها، لم يحالفه الحظ سابقاً وتعرض المعنيون به لإدانات من المحاكم أو لاجراءات ادارية عقابية، كما هي بالنسبة الى الباحث الشهير روجيه فوريسون والاستاذ الجامعي هنري روك، فضلاً عن زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبن الذي أدين مراراً بسبب اعتباره تصفية اليهود في الحرب العالمية الثانية من تفاصيل تلك الحرب. وتدل مؤشرات كثيرة الى ان غارودي حضّر مسبقاً كل عناصر المواجهة مع من يسميهم بپ"تجار المحرقة"، وبالتالي لم يقدم على عمل خفيف وساذج كما هي الحال بالنسبة الى من سبقوه، فاختار لنشر كتابه داراً صغيرة تدعى "Vielle Taupe" وصاحبها بيار غيوم من غلاة اليسار ومن المعروفين بمناهضتهم لپ"أسطورة المحرقة" وينشر كتبه القليلة ويوزعها بواسطة الاشتراكات وتتضمن بعض العناوين التي نشرها مواضع تشكيكية بالمحرقة، وليس غريباً ان يكون شريكاً لغارودي في المحاكمة التي بدأت قبل أيام أمام محكمة الجنايات في باريس. واختار غارودي أيضاً، وعن سابق تصور وتصميم، تغطية سياسية ودينية من الدرجة الأولى في فرنسا، فهو يحتفظ برسالة دعم صريحة من الأب بيار الذي أظهرت استطلاعات الرأي خلال السنوات الأخيرة قبل 1996 انه الشخصية الأكثر تمتعاً بثقة الفرنسيين من كل الفئات، وللأب بيار تاريخ طويل في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي وفي مساندة الفقراء والمشردين وتوفير المساكن لهم في حملة شهيرة قادها في العاصمة في العام 1954، وهو معروف بمناهضته للعنصرية في فرنسا، وفضلاً عن ذلك يحتفظ بصداقة حميمة مع غارودي عمرها 40 سنة، وقد تراجع الأب بيار في صيف العام 1996 قليلاً عن دعم غارودي لكنه هذه المرة رمى بكل ثقله الى جانب الكاتب الفرنسي، وبعث اليه برسالة صريحة بسطها غارودي أمام المحكمة وقرأ فيها عبارات قوية ضد اللوبي اليهودي العالمي. يُذكر هنا ان الأب بيار كان قد أدلى بتصريحات عقب صدور الكتاب قال فيها انه بدعمه غارودي يراهن على المستقبل حيث سيقول العديد من الفرنسيين المتوسطين "لقد ساعدنا الأب بيار على رؤية المحرقة بوضوح أكثر". الى ذلك يعتقد الطبيب الفرنسي اليهودي المعروف ليون شوارزنبرغ ان المحيطين بالأب بيار معروفون بعدائهم للسامية، وهو أمر ينفيه الراهب الفرنسي الذي يُعتبر في باريس بطلاً حقيقياً من أبطال المقاومة ومنقذاً لعدد من اليهود من براثن النازية. ومن ضمن الاستعدادات التي استند اليها غارودي في فتح ملف المحرقة، الاستعانة بأرشيف ضخم ومراجع راسخة لا يرقى اليها الشك بحيث يتمكن من دعم كل وصف وكل استنتاج في كتابه بمرجع موثوق وبمؤرخ لا شبهة في عدائه لليهود، فعندما يتحدث عن اسطورة "الستة ملايين يهودي" وعن اسطورة "عدالة نورمبرغ" وعن غياب أي أمر خطي من هتلر بپ"ابادة اليهود" يحيل القارئ الى نصوص كتبها مؤرخون اسرائيليون والى مثقفين فرنسيين كبار من طراز ريمون آرون أو فرانسوا فيريه. والراجح ان غارودي أدخل في حساباته للمواجهة مع المحرقة تاريخه الشخصي نفسه، فهو أيضاً من المقاومين الأوائل للنازية في فرنسا، واذا كان صحيحاً انه نشأ نشأة بروتستانتية ثم اعتنق الكاثوليكية بعد ذلك، ومنها انتقل الى الماركسية وصار عضواً في المكتب السياسي للحزب الفرنسي قبل ان يفصل هذا الحزب في العام 1970 بسبب انتقاده للسياسة السوفياتية، ومن الماركسية انتقل الى الاسلام، اذا كان صحيحاً انه حر في كل هذه التقلبات، فالصحيح ايضاً انه كان يخوض على الدوام معارك ذات طابع نبيل شأن مقاومة الاحتلال النازي أو الاعتراض على التوتاليتارية السوفياتية. وعندما اعتنق الاسلام واصل معاركه في هذا الاتجاه، فقد استأجر صفحة كاملة في 17 حزيران يونيو 1982 في صحيفة "لوموند" الفرنسية وكتب فيها نقداً لاذعاً لاسرائيل والصهيونية من جراء احتلال لبنان وتصفية الشعب الفلسطيني، وقد تسببت له هذه المبادرة بمحاكمة بتهمة التحريض على الكره العنصري والعداء للسامية، وكانت الجهة المدعية "الرابطة العالمية لنصرة الشعوب ومكافحة العنصرية" وهي نفسها المشاركة اليوم في الادعاء عليه، وقد ربح غارودي الدعوى في حينه ويأمل اليوم أن يربح الدعوى الراهنة. ومن انتمائه الاسلامي اكتسب غارودي عنصراً ثميناً في مشروع اعادة النظر بالمحرقة، فهو يقدم نفسه بوصفه معادياً للصهيونية وليس لليهودية، وانطلاقاً من عدائه للصهيونية يعمل على كشف ما يسميه باستخدام "اسطورة المحرقة" لغايات وأهداف صهيونية واسرائيلية. يبقى القول ان غارودي يُصنفُ في فرنسا بين كبار المفكرين، وكتبه الصادرة عن كبريات دور النشر الفرنسية ترجمت الى لغات كثيرة. وتتضمن بعض اعماله انتصارات حقيقية من بينها عمله الشهير المناهض للبنيوية التي اعتبرها فلسفة تدعو لموت الانسان، وكان من السباقين في الحاق الهزيمة بها وهو ما حصل لاحقاً بالفعل، إذن لا يمكن لأحد القول بأن معركته ضد "اسطورة المحرقة" هي المعركة الوحيدة في حياته، الأمر الذي يعطيه صدقية حقيقية. والراجح ان اختياره اسرائيل والصهيونية كمدخل لفتح هذا الملف ليس اختياراً بريئاً، فبقدر ما يصعب على خصومه الدفاع عن سياسة الدولة العبرية، خصوصاً في عهد بنيامين نتانياهو، بقدر ما يسهل عليه تنظيم هجومه على الاساطير المذكورة انطلاقاً من العداء للصهيونية وتجنب اي عداء للسامية. والراهن ان اختيار توقيت فتح هذا الملف ليس مجرد صدفة، فقد اصدر غارودي كتابه في اواخر العام 1995 أي بعد خمسة شهور على صدور تصريح شهير للرئيس الفرنسي الديغولي جاك شيراك عن مسؤولية الفرنسيين الجماعية ومسؤولية الدولة الفرنسية عن ملاحقة اليهود داخل الأراضي الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تلى هذا التصريح صدور بيانات اعتذار علنية لليهود من طرف الكنيسة الكاثوليكية ومن طرف الشرطة وبعض الادارات... الخ. غير ان محاكمة النظام الفيشي وما تبقى من رموزه لا تدخل السرور الى قلوب فئات دينية واجتماعية وسياسية فاعلة ومهمة في فرنسا، وتُعتبر مؤذية بنظر هؤلاء، للوحدة الوطنية التي ارتسمت غداة تحرير فرنسا من الاحتلال، حيث اعتبر الجنرال ديغول في حينه انه لا بد من طي صفحة فيشي حرصاً على "الوحدة الوطنية" باعتبار نظام فيشي كان يمثّل اكثرية ساحقة من الفرنسيين ويرتكز الى عمق المجتمع الفرنسي، وبالقياس الى تمثيل فيشي يمكن القول ان "المقاومة الفرنسية" للاحتلال كانت هامشية للغاية وعندما يُقدّرها المعنيون بكرم طافح يتحدثون عن نسبة 5 في المئة من الفرنسيين الذين اشتركوا فيها او دعموها، ما يعني ان 95 في المئة يقعون خارجها وكانوا متعاطفين او غير مبالين بالنظام الفيشي. وهكذا يتضح ان تصريح شيراك عن مسؤولية الفرنسيين والدولة الفرنسية عما حصل لليهود، خلال الحرب، جوبه بامتعاض كبير وبانتقادات علنية في صفوف اليمين الفرنسي بصورة خاصة، وبنوع من الاستياء المكبوت لدى فئات واسعة، وليس مستبعداً ان يكون هذا الاستياء قد اتسع نحو اليهود وتحميلهم مسؤولية الضغط على الدولة ورئيسها لاتخاذ مبادرة مسيئة "للوحدة الوطنية". وسط هذه الاجواء صدر كتاب روجيه غارودي وفي هذه الاجواء ايضاً صدر دعم الأب بيار له، وصدر ايضاً اعتذار علني من الأب بيار للفلسطينيين في غزة عن مسؤولية اوروبا عما حلّ بهم، علماً بأن الأب بيار هو أحد ابرز مؤيدي شيراك وأحد ابرز المعترضين على مبادرته. ويستفاد مما سبق أن غارودي اختار اللحظة السياسية الداخلية الفرنسية المناسبة لنشر كتابه ليجعل منه مناسبة صريحة لخوض مواجهة علنية في "الأساطير" الصهيونية، وبالتالي كان يراهن على اندراج مبادرته في سياق ردود الفعل "المكبوتة" على اعلان مسؤولية فرنسا الجماعية عن ملاحقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. تبقى الاشارة الى أربعة ملايين فرنسي ما زالوا يقترعون لزعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبن منذ العام 1986 مع علمهم التام بتصريحاته التي تمس بصورة مباشرة او غير مباشرة هذا الموضوع، ما يعني ان اعادة النظر بپ"اسطورة المحرقة" كما يسميها غارودي، تكتسب شعبية في فرنسا مع الاشارة الى ان هذه الشعبية ليست ذات وجه واحد، بل تتخللها حساسيات وتنوعات وفوارق كبيرة للغاية بحيث يصعب تصنيفها في خانة "اللاسامية". وهكذا يتبين ان كتاب "الأساطير التأسيسية للسياسة الاسرائيلية" يتجاوز كثيراً قضية حرية التعبير والرأي، فهو عنوان لمواجهة حقيقية عن سابق تصور وتصميم وإعداد مع ما يسميه انصار الكتاب بپ"اللوبي اليهودي" او "اللوبي الصهيوني" في فرنسا ومع الفئات التي يستند اليها هذا اللوبي، او مع يسميه البعض الآخر بپ"اللوبي الصهيوني العالمي"... الخ. ومن اللافت ان كتاب غارودي لم يُمنع غداة صدوره، كما منعت من قبل أعمال تشكيكية مباشرة وصريحة بپ"اسطورة المحرقة"، ولعل ذلك يكمن في مهارة الكاتب في طرح الموضوع من جهة، وبراعته في استخدام مراجع لا يرقى الشك في بعدها عن اللاسامية والعداء لليهود، كما يكمن ايضاً في حجم التأييد الذي استند اليه الكاتب، وبصورة خاصة في دعم الأب بيار لهذا المشروع. وأظهرت ردود الفعل التي اعقبت صدور الكتاب، ان المتضررين منه ركزوا حملتهم على الأب بيار وليس على الكتاب، وبذلوا مساعي وضغوطاً لحمل الراهب الفرنسي على التراجع عن تأييد، وتغطيته لغارودي. وتركت هذه الحملة تأثيراً كبيراً على الرجل التسعيني الذي ابتعد عن الاضواء وحاول الاعتزال وأخذ مسافة عن غارودي، إلا أنه استأنف بقوة تأييده له فيما بعد. وكان المتضررون من هذه القضية يعتقدون انه لولا تغطية الأب بيار للكاتب والكتاب، لكانت إحدى المحاكم الباريسية تولت تصفية هذا الموضوع بلا ضجيج وبعيداً عن الأضواء. والراجح ان وصول نتانياهو الى الحكم في اسرائيل وتنكره لعملية السلام وتعنته وتحالفه مع المتطرفين والعنصريين والتيار الأكثر صهيونية في اسرائيل، منذ النصف الثاني من العام 1996، كل ذلك ألحق أذى كبيراً بالمناهضين للكتاب والكاتب وجردهم من وسائل دفاع سياسية فعالة في مواجهته بحيث لا يمكنهم الادعاء بأن الصهيونية حركة غير شريرة وغير معادية للسلام كما يؤكد غارودي، ولعل هذا التطور هو الذي شجع كثيرين على استئناف الدفاع بقوة عن غارودي وفي طليعتهم الأب بيار نفسه. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى مبادرة غارودي توسيع اطار المواجهة وبالتالي القيام بجولات في العالم العربي لكسب التأييد والعون لمشروعه، وقد حقق نجاحاً باهراً حيث استقبل بالتظاهرات والترحيب في البلدان التي زارها، وهو يتلقى اليوم دعماً كبيراً من العرب الذين لم يسبق لهم ان عبروا كما يعبرون الآن عن تأييد كاتب اجنبي. يمكن القول في ضوء ذلك ان محاكمة غارودي تتضمن تكثيفاً شديداً للمواجهة التي تعمد الكاتب الفرنسي خوضها عن سابق تصور وتصميم وتتمثل في النقاط الآتية: أولاً: الاعتراض على قانون فابيوس - غيسو، فقد افتتح محامي الدفاع عن غارودي مرافعته باعتراض مفاده ان القانون الذي يحاكم غارودي على أساسه يتناقض مع ميثاق الحقوق الأوروبي، وطلب إلغاء المحاكمة، لكن المحكمة رفضت ذلك، فما كان منه الا ان حمل على القانون وقال انه يتضمن شتيمة للقانون الفرنسي الصادر في 29 تموز يوليو عام 1881 الذي يكرس حرية الصحافة والرأي وحق التعبير وحق إعادة مناقشة التاريخ. ثانياً: رفض اللاسامية وحصر العداء بالصهيونية: أكد غارودي مراراً خلال محاكمته أنه غير مناهض للسامية "فأنا مسلم. كنت مسيحياً من قبل، لكنني الآن مسلم وأنا سامي كاليهود، واعتبر النبي ابراهيم أحد أجدادي. إنني أواجه الصهيونية التي اعتبرها كولونيالية". ثالثاً: اعادة النظر بمصطلحات المحرقة: اعترض غارودي على تعبير المذبحة الذي يستخدم للحديث عن إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وقال انه يفضل تعبير "إحدى أكبر المجازر" أو "مذبحة رهيبة". وقال: "... لكي يصبح بالامكان الحديث عن الإبادة يجب ألا يبقى أحد حياً من الطرف المقصود إبادته، وهذه ليست حال الذين نتحدث عنهم، فالإبادة لا تتضمن ناجين" وعندما انتفض عدد من الحضور في قاعة المحكمة إزاء هذا القول خاطبهم غارودي بأعصاب هادئة بقوله: "لقد رأيت الموت بعيني عندما كنت مسجوناً في الصحراء، لكنني لم أفكر يوماً بالمتاجرة بعظام جدي" في اشارة ضمنية الى اتهامه اليهود بپ"المتاجرة" بالمحرقة. رابعاً: المتاجرة بالمحرقة: حمل غارودي خلال محاكمته على استخدام "المذبحة" استخداماً تجارياً، مستخدماً تعبير "شواه بيزنس" واستند في ذلك الى فيلم "شواه" للمخرج اليهودي كلود لاترمان الذي حقق أرباحاً خيالية، وقال عنه انه خال من أي قيمة، ويستند، برأي غارودي الى شهادات غير صحية، وأجد ان باب الشك في هذه الشهادات سيظل مفتوحاً طالما انه لم يتم تنظيم نقاش عام وعلمي حولها، وهو أمر لم يحصل فعلاً حتى الآن ويصر كثيرون على عدم اجرائه، إلا ان الدفاع عن هذا "التابو" يضعف يوماً بعد يوم الى درجة جعلت الحاخام الأكبر في فرنسا جوزيف سيتريك يطالب في العام 1996 بتنظيم مثل هذا النقاش "كي ننتهي مرة واحد والى الأبد" من المطالبين بإعادة النظر في المحرقة. خامساً: التمترس وراء مراجع قوية: في حديثه عن "اسطورة 6 ملايين يهودي" و"اسطورة عدالة نورمبرغ" و"اسطورة المحرقة" حرص غارودي على القول أمام رئيس المحكمة أنه استند الى نصوص مؤرخين اسرائيليين أكدوا ان هتلر لم يصدر أمراً خطياً بإبادة اليهود وان ذلك ما يؤكده أيضاً ريمون آروبر وفرانسوا فيريه، وهما من المثقفين المرموقين في فرنسا. واعتبر انه يحق له الحديث عن "أساطير" طالما ان البراهين العلمية لم تثبت وقائع معينة يتم تداولها على نطاق واسع. سادساً: المواجهة: تكشفت عناصر المواجهة بين الشهود الذين تم اختيارهم من الطرفين بعناية فائقة، مثال ذلك شاهد الاتهام جاك تارنيرو الباحث في "المركز الوطني للبحوث" الذي تحدث عن حلف مرضي بين أقطاب تنتمي الى "أقصى اليسار وأقصى اليمين والاسلام الراديكالي" واعتبر ان عداء غارودي للصهيونية هو تسمية مقنعة للعداء لليهودية وان ذلك يتضح من خلال نفي وجود غرف الغاز، لأن النفي يعني ان اليهود ألفوا أكبر كذبة في التاريخ وأنهم أكبر المبتزين في العالم، ومثل هذا الحديث لا يمكن اعتباره مجرد رأي وانما دعوة للعنف والكره لليهود. ومعروف أن الباحث نفسه يدافع عن مقولة مفادها ان العداء لليهودية أو للسامية كان يتخذ من قبل ستاراً نازياً ثم ماركسياً، وهو اليوم يتخذ شكل العداء للصهيونية، وهو كتب مقالاً صريحاً بهذا المعنى في صحيفة "لوموند". من جهة شهود الدفاع لم يكن غريباً ان يشهد الى جانب غارودي الراهب روجيه بارمنتييه الذي ابدى إعجابه بالكاتب واعتبر ان بعض صفحات الكتاب زائدة عن اللزوم، ومثله فعل المخرج السينمائي رينيه فوتييه 70 سنة المعروف بمناهضته للكولونيالية الفرنسية في الجزائر، مضيفاً ان غارودي عرف دائماً كيف يحافظ على قدرته على الشك، ولكي تكتسب المحاكمة آخر العناصر الدرامية المطلوبة، حضر المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس للدفاع عن غارودي فاكتملت بذلك صيغة المواجهة التقليدية بين تيارين تحت عنوان واحد، وهي مواجهة كان لها سوابقها وسيكون لها ملاحقها، فليست الأولى ولا الأخيرة في تاريخ هذا البلد. هكذا يتبين ان غارودي "ليس وحيداً" في مواجهة المحرقة وعليه تجدر طمأنة بعض الاصوات العربية التي تعتقد بأنه يواجه فرنسا بأكملها وانه ضحية الدولة الفرنسية، فالرجل يعرف تماماً ماذا يفعل ويحسن ما يفعله بدقة وتصميم، فمعركته مع المحرقة ليست الأولى، وبالقياس الى سنه قد تكون الأخيرة. والسؤال الذي يطرح بقوة هو: هل يحرق غارودي أصابعه في المحرقة أم يخرج منها سالماً؟ الجواب يتعلق جزئياً بالحكم الذي سيصدر في هذه القضية وبامكانية أو استحالة كسره، فإذا ما أدين غارودي فإن الادانة ستلحق الأذى بمشروعه من دون ان تضع حداً له، واذا ما برأته المحكمة كما فعلت في العام 1982 فإن هذا المشروع مرشح لأن يكبر لدرجة ربما يمكن معها تفسير التصريح الاستباقي للحاخام الأكبر في فرنسا عن تنظيم نقاش عن المحرقة يزيل الشكوك ويثبت اليقين.