قاسم حدّاد يؤمن أن الابداع الحقيقي يولد في مختبرات الذات الحميمة، المغلقة، بعيداً عن الضوضاء والاعتبارات السطحيّة، لذا تراه لا يذهب إلى الكتابة مدجّجاً بالأشكال. والشاعر البحريني الذي يسعى بين ديوان وآخر إلى التجرد من جلده القديم، ليخرج إلى قرائه ومحبيه وقد ازدادت كلماته نصاعة وقوة وتوهجاً، أصدر في الكويت كتاباً بعنوان "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر"، على شكل سيرة تنطلق من الخاص إلى العام، وتسلّط الضوء على الزوايا المعتمة في حياتنا العربية الراهنة... منذ ما يزيد على العشرين عاماً، يحمل قاسم حدّاد مشعل الحداثة ليس في البحرين فحسب، وانما في منطقة الخليج كلها. بل لعلنا لا نبالغ حين نقول إنه أحد أوائل الخليجيين الذين انشغلوا بمسألة الحداثة انشغالاً جدياً، وقدموا أعمالاً شعرية ونثرية اثبتوا من خلالها أن الحداثة عندهم ليست موضة، ولا قناعاً يخفي بشاعة أو عيباً ما، كما هو الحال عند بعض "الحداثيين"، وانما هي موقف وسلوك ومنهج ورؤية وبحث دائب، وعمل لا يعرف الكلل. حداثة قاسم حدّاد لا تشبه ذلك الرضى عن النفس الذي يحول أصحابه إلى ببغاوات تثرثر مزهوة على الأغصان الجرداء، من دون أن تعي ما تقول. والمتتبع لمسيرة هذا الشاعر الميال إلى الصمت والعزلة، يعرف أنّه لم يتوقف يوماً عن التجريب والحركة والعمل من أجل فتح آفاق جديدة في مجال الكتابة والابداع عموماً. فمع صديقه القاص والروائي أمين صالح كتب نص "الجواشن" محاولاً أن يعرف إلى أين يؤدي امتزاج النثر بالشعر. ومع الفنان العراقي فاضل العزاوي خاض تجربة متميزة بغية ادراك كنه العلاقة بين الرسم والشعر، بين الكلمة والصورة. وهو يصدر الديوان تلو الآخر، ساعياً كل مرة إلى التجرد من جلده القديم ليخرج إلى قرائه ومحبيه وقد ازدادت كلماته نصاعة وقوة وتوهجاً. وهو يفعل كل هذا دونما جعجعة أو ضجيج، مؤمناً أن العمل الابداعي الحقيقي يولد في الصمت والوحدة. وفي نصوص كتابه الجديد ذات الطابع الخاص، الصادر حديثاً عن "دار قرطاس للنشر" في الكويت بعنوان "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر"، يحاول قاسم حدّاد تقديم صورة عن مسيرته الابداعية، وتحديد ملامح رؤيته النقدية. يخوض الشاعر في عدد من المسائل المتعلقة بالابداع والحداثة، راوياً ذكريات قديمة، مسلطاً الضوء على الزوايا المعتمة في حياتنا العربية الراهنة... يمدّ جسوراً شفافة بين الشعر والنثر، فيشعر القارئ بضياع الحدود الفاصلة بينهما وتلاشي المسافة. صدى فلاسفة الاغريق وأحياناً تستوقفنا نصوص مكثفة جدّاً، تبدو كما لو أنها صدى جميل لتلك الشذرات التي أفلح فلاسفة الاغريق القدماء في نحتها فظلت على ألسنة الناس حتى هذه الساعة. وهذه النصوص التي كانت في الأصل أجوبة عن أسئلة في حوار أو مقالة، أو مداخلة في ندوة - كما جاء في المقدمة - كتبت على مدى عشرة أعوام، وتحديداً بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات. وهي كما يعرفها صاحبها: "عبارة عن حوار ذاتي مع النفس، تتوق للاتصال بأرواح يؤرقها القلق ذاته، وتذهب إلى الأفق نفسه، ولكنها تقدر، في الوقت نفسه، على العمل بأدوات وآليات مختلفة متنوعة ومغايرة في كل تجربة، وكل نص". في النص الأول "سيرة النص" يحاول قاسم حدّاد الاجابة، بطريقته الخاصة التي لا تخلو من متعة، عن أسئلة مطروحة في الممارسة العربية للكتابة: هل الشكل هو ما يقترح البعض تحديده في هندسة البناء البصري للنص؟ أم أنه ما يتصل بطريقة التعامل مع اللغة؟ أم أن لطاقة الرؤيا دور فاعل في منح النص شكله المنتظر؟. وفي مشاريع اجاباته يؤكد الشاعر أنه كان منذ البداية "مغامراً، يكتشف ولا يذهب إلى الكتابة "مدججاً بالأشكال". أما عن اللغة، فيرى قاسم حدّاد أن الاحتفاء بها "هو الشرط الأول لتخلق الحالة الشعرية، ف "الصورة الفنية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة". ويمكن القول إن "سيرة النص" الذي افتتح به قاسم حدّاد كتابه، جاء بمثابة "مانيفستو" منح الشاعر من خلاله منظوره الفني، وآراءه بخصوص الشكل والمضمون واللغة والنص الابداعي عموماً: "في النص أنت مثل الأعمى يكتشف الليل بأحلامه الفاتنة. تحمل قنديلاً تقود به سرباً من الفراشات نحو هاوية النيران، زاعماً أنها نافذة العتمة. عند الشاعر، النص هو جنته وجحيمه في آن واحد". كيف نقرأ السيّاب؟ في نص "ثلاثون موتاً، مطر واحد، ومحتملان" يحدثنا قاسم حدّاد عن علاقته بالسياب، وبقصيدته الشهيرة "أنشودة المطر" التي يرى أنها "حجر الأساس في تجديد تجربة الشعر العربي المعاصر كله وعلامة من علامات انعطافته الحاسمة". ويتساءل وقد عصف الحزن بروحه قائلاً: "بعد ثلاثين موتاً، كيف لنا أن نقرأ درس السيّاب؟ كيف نقرأ فيه الدم والشعر والمطر، ونستفيق على صوته الشاحب وهو يفتح الأفق لنهر الشعر العربي الحديث؟ ونسمع الصدى كأنه النشيج: يا خليج، يا واهب المحار والردى". ويتوقف بنا قاسم حدّاد عند فرانز كافكا، قارئاً من خلال عوالمه واقع المثقف العربي في الفترة الراهنة. هذا المثقف الشبيه بجوزيف ك. البطل الكافكوي الذي يجد نفسه في نهاية المطاف وقد فقد سلطته على نفسه، ولم يعد قادراً، نتيجة حساباته الخاطئة على أن يتخلص من الشباك التي نصبها له رجال "القلعة" المرعبون. ولا يفوت الكاتب أن يستعيد بعض ملامح طفولته، غارفاً من ذاكرة ابن لبحار الذي كان يستخرج اللآلئ من أعماق الخليج، حتى نال البحر منه في النهاية ففقد كل أسنانه، ولم يعد قادراً على أكل حبة كستناء. لعل صدور كتاب نادر في المكتبة العربية مثل "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر"، يعيد لنا الثقة بأن جيل السبعينات الحداثي لم يفشل في مشروعه، وأن حداثته لم تكن عقيمة كما يتوهم بعض المثقّفين أو كما يتمنّى بعضهم الآخر. ... أن أقول شكلاً جديداً منذ وعيت انحيازي للكتابة الشعرية، جابهت ضغوطاً تكاد تصير تقليداً وقانوناً تفرضها المفاهيم السائدة التي تضع المضمون في المقام الأول عند النظر أو الحكم على القصيدة. وحتى عندما يجري الكلام عنن طريقة قول هذا المضمون، وهو ما يتصل بالشكل، فإنه يأتي في الدرجة الثاننية أو الثالثة، وباستهانة كبيرة لا تليق بالإبداع. وإذا جاز لي الكلام عن تجربتي، فإن اتصالي بمنظومات فكرية، على صعيد الممارسة الحياتية، كانت تعتني بأولانية المضمون، لم يتدخل أعني لم أسمح لهذا الاتصال أن يتدخّل في صياغة كتابتي. فقد وجدت نفسي مأخوذاً بأهمية أن تصير طريقة القول عندي تجلياً ذاتياً وجمالياً. واعتقد أن الأمر كان مبكراً لدي، فبعد صدور كتابي الأول "البشارة"، بدأت لدي مشاعر عميقة، بأن مبرر كتابتي للشعر هو أن أسعى الى اكتشاف قول التجربة بشكل جميل، وأن أحاول قول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول شكلاً جديداً وليس موضوعاً جديداً، ليس بالنسبة إليّ فحسب، ولكن بالنسبة لما ينجزه الآخرون. وإذا كان هذا طموحاً شعرياً لم أنجح دائماً في الذهاب إليه، فأرجو أنني لم أكن أتنازل عنه أبداً. بالنسبة لي، كان عذاب المضمون في الحياة، وعذاب الشكل في النص، تجربة واحدة يصعب رصد تخومها. قاسم حداد من فصل "سيرة النصّ"