حققت المعارضة المغربية المنضوية في اطار "الكتلة الديموقراطية" التي تضم أربعة أحزاب هي "الاستقلال" و"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التقدم والاشتراكية" و"منظمة العمل الديموقراطي الشعبي" فوزاً كبيراً، أمام باقي التيارات السياسية، في الانتخابات المحلية المجالس البلدية والقروية بنسبة فاقت 34 في المئة من مجموع المقاعد المتنافس عليها. وتصدر حزب "الاستقلال" الذي يتزعمه محمد بوستة وزير الخارجية الأسبق الفائزين بحصوله على أكثر من أربعة آلاف مقعد، أي بنسبة 17.25 في المئة، يليه حزب "الاتحاد الاشتراكي" الذي حصل على 2550 مقعداً، فيما حصل كل من حزب "التقدم والاشتراكية" و"منظمة العمل" على 695 و231 مقعداً على التوالي. وأعلن وزير الداخلية المغربي ادريس البصري نتائج الانتخابات التي فازت فيها المعارضة بثلث مقاعد المجالس المحلية التي يبلغ مجموعها 24 الفاً و253 مقعداً، ومشاركة حوالى 9 ملايين ناخب في الاقتراع، بنسبة بلغت 75 في المئة تقريباً، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بانتخابات 1992 التي لم تتجاوز 64 في المئة. وجاء تحالف "الوفاق الوطني"، الذي يجمع بين ثلاثة أحزاب من الغالبية المشاركة في الحكومة الحالية وهي "الاتحاد الدستوري" و"الحركة الشعبية" و"الوطني الديموقراطي"، في الترتيب الثاني بحصوله على 30 في المئة تقريباً من مجموع مقاعد المجالس. اما أحزاب "الوسط": "التجمع الوطني للأحرار" و"الحركة الديموقراطية الاجتماعية" و"الحركة الوطنية الشعبية" فقد حصلت على 26 في المئة. وذهبت بقية المقاعد الى اللامنتمين 10 في المئة وحزبين صغيرين هما "العمل" و"الشورى والاستقلال". حزب "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي يقوده أحمد عصمان رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب السابق حقق فوزاً كبيراً اذ احتل المركز الثاني بعد حزب "الاستقلال" المعارض بحصوله على ثلاثة آلاف و500 مقعد 14 في المئة. كما ان حزب "الحركة الديموقراطية الاجتماعية" الذي انشق عن حزب "الحركة الوطنية الشعبية" الصيف الماضي والذي يخوض الانتخابات للمرة الأولى فاجأ الجميع بحصوله على 1751 مقعداً، أي بنسبة 7.23 في المئة، متجاوزاً بذلك حصة الحزب الذي انشق عنه بحوالى 3 في المئة. وتؤكد هذه النتائج ان "الكتلة الديموقراطية" ربحت أهم رهاناتها، حول حجمها الحقيقي وموقعها على الخارطة السياسية في المغرب، خصوصاً ان من بين الأهداف الأساسية للاستحقاقات الانتخابية التي ستتواصل حتى استكمال البرلمان الجديد، اعادة صياغة هذه الخارطة من جديد، وفقاً لحقائق الحياة السياسية. واللافت ان كلاً من أحزاب "الحركة الشعبية" و"الحركة الوطنية الشعبية" و"الحركة الديموقراطية الاجتماعية" الممثلة للاتجاه الامازيغي البربر حصدت سوية أعلى حصة من المقاعد، اذ حصلت على حوالى خمسة آلاف و700 مقعد، الأمر الذي يعكس، من دون شك، احدى الظواهر التي برزت بشكل جلي على اختيارات الناخبين، فالتفوق الملموس لهذا الاتجاه لم يتحقق حتى عندما كانت هذه الحركة حركة واحدة، قبل أول انشقاق بينها في العام 1986. لكن فوز المعارضة، وان فاق توقعات البعض، وقلب حسابات البعض الآخر، لن يجعلها قادرة على احتكار القوة لوحدها، قبل ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية التي يتوقع ان تجرى في أيلول سبتمبر المقبل. ومع صعوبة التكهن بما تخبئه الجولة المنتظرة، يمكن القول ان المعارضة توجد الآن، وللمرة الأولى، في وضع مريح. الصناديق الزجاجية والملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذه الانتخابات، انها جرت باجماع المراقبين، في ظروف ايجابية، على رغم بعض حوادث العنف المتفرقة التي حصدت أربع ضحايا ثلاث منها من المعارضة. فهي اضافة الى كونها تأتي قبل نهاية ولاية مجالس 1992، سبقتها قوانين ومقتضيات وآليات جديدة من اجل ضمان اجرائها في ظروف نزيهة وشفافة بما في ذلك استخدام الصناديق الزجاجية، للمرة الأولى. لقد عاش المغرب منذ 29 أيار مايو الماضي على ايقاع الحملة الانتخابية، وزاد من سرعة الايقاع نتائج الانتخابات الفرنسية، ليس فقط من باب التفاؤل، لكن أيضاً نظراً الى العلاقات التاريخية والايديولوجية التي تجمع المعارضة المغربية، اليسارية النزعة في معظمها، باليسار الفرنسي المنتصر. فتعديل الدستور وميثاق الشرف الذي وقعت عليه الحكومة والأحزاب وتصحيح اللوائح الانتخابية وتشكيل اللجنة العليا لمتابعة العمليات الانتخابية عناصر توحي، بل تشجع على تحول مغربي مماثل لما حصل في فرنسا. ولكن كل ذلك لم يمنع من اثارة قلق احزاب المعارضة، ففي خضم الحملة الانتخابية سقط قتيلان، وقد وجهت صحافة حزب "الاستقلال" المعارض الذي ينتمي اليه أحد الضحيتين أصابع الاتهام الى حزب "الحركة الشعبية" الموالي، على رغم نفي الأخير صلته بالحادث. لكن النزاعات الانتخابية ليست وليدة اليوم، فقد شهدت انتخابات العام 1992 احداثاً مشابهة، وقد تناقلت الصحف الحزبية اخباراً متضاربة، من مختلف الأقاليم، عن سلسلة من الأحداث والخروقات التي صاحبت الحملة الانتخابية، خصوصاً موضوع استعمال الأموال لاغراء الناخبين للادلاء بأصواتهم. مع اقرار ادريس الضحاك رئيس المجلس الدستوري ورئىس اللجنة العليا لمتابعة الانتخابات بوقوع احداث عنف عدة، الا انه رفض الكثير مما أوردته صحف الأحزاب من تجاوزات. والذين تابعوا الصحف اليومية للأحزاب بمختلف تياراتها أدركوا ان بنود الاتفاق المشترك أو "ميثاق الشرف" بين الأحزاب والحكومة حول نزاهة الانتخابات، لم يتم التوقيع عليه بالاجماع الا ليخرق يومياً. على ان ما أثار الانتباه خلو صحف المعارضة من اية اشارة، كما كان يجري في جميع الانتخابات الماضية، للجنة الادارية المفترضة الحامية للخرق، أي وزارة الداخلية، ذلك ان الوزارة فرضت على اجهزتها التزام أقصى درجات الحياد، ولم يتم الاكتفاء بذلك، اذ أعلن وزير الداخلية عن توقيف مجموعة من أعوان السلطة لمشاركتهم في الحملة الانتخابية لمصلحة بعض المرشحين باعتبار ذلك يخل بالتزام السلطات العامة التي تعهدت احترام النزاهة وتطبيق الحياد وعدم التدخل في العملية الانتخابية. ووفقاً لما أعلنته الوزارة، فان الاعداد النهائية للمرشحين الذين خاضوا الانتخابات المحلية بلغت 102 الف و400 مرشح، في مقابل حوالي 93 الف مرشح في انتخابات 1992. فيما بلغت الدوائر الانتخابية 24 الفاً و253 دائرة، بزيادة 1971 دائرة على تلك الانتخابات. وعلاوة على المرشحين المستقلين، شارك في الانتخابات 13 حزباً سياسياً، بزيادة حزبين اثنين عن الانتخابات السابقة. فنتيجة انشقاقات داخلية ظهر الى الوجود "حزب الكتلة الديموقراطية الاجتماعية" بقيادة محمود عرشان بعد انشقاقه عن حزب "الحركة الوطنية الشعبية" الذي يتزعمه المحجوبي احرضان أول عامل محافظ للعاصمة الرباط بعد الاستقلال. وتأسس "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" بقيادة عيسى الورديغي بعد انشقاقه أواخر الصيف الماضي عن "منظمة العمل الديموقراطي الشعبي" التي يتزعمها محمد بن سعيد آيت بدر أحد قادة جيش التحرير في الجنوب الغربي. ظاهرة اللامنتمين وقد تقدم المستقلون اللامنتمون لائحة الترشيحات بمجموع 14 الفاً و447 مرشحاً، بنسبة 14.11 في المئة من مجموع المرشحين، حتى ان حزب "الاستقلال"، وهو أعرق الأحزاب المغربية، لم يستطع ان يقدم سوى 14 الفاً و8 مرشحين، أي ما يمثل 13.68 في المئة. وفي عرف بعض الأحزاب فإن المرشحين المستقلين يمارسون نوعاً من المنافسة غير المشروعة. وقد وصف محمد بوستة الأمين العام لحزب "الاستقلال" ظاهرة المرشحين المستقلين بإنهم "يفسدون العملية الانتخابية". وعلى كل حال، فإن ظاهرة "اللامنتمين" دفعت هذه المرة الأحزاب الى التفكير في التغيرات التي شهدها المغرب منذ 1992، حيث ولدت عناصر جديدة في الساحة السياسية، قد تجعل من هؤلاء أو من بعضهم توجهاً مختلفاً لما كان مألوفاً في التجارب الانتخابية السابقة، لأن مفهوم الاصلاح لم يعد وقفاً على المعارضة، أو على الهيئات الحزبية بحجة الحفاظ على الانضباط الحزبي. والواقع ان الانتخابات الأخيرة عرفت دخول شرائح متنوعة غمار المنافسة. وخلافاً لما جرت عليه العادة من التزام الفنانين جانب الحياد في العمليات الانتخابية السابقة، شارك عدد من الفنانين، من أبرزهم المطرب عبدالوهاب الدكالي والممثلة ثريا جبران والمطربة حياة الادريسي ومجموعة "ناس الغيوان" الغنائية وسواهم في المهرجان الفني الذي نظمته الشبيبة الاتحادية في الدار البيضاء وترأسه عبدالرحمن اليوسفي الأمين العام لحزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، قبل انطلاق الحملة الانتخابية. وأبعد من هذا، فإن مجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء والصحافيين ترشحوا في مدن مختلفة، وبألوان حزبية مختلفة. والجدير بالذكر ان دراسة عن المرشحين المتنافسين كشفت عن دلالات سياسية وسوسيولوجية مهمة، منها ان شرائح معينة كانت تعزف حتى وقت قريب عن المشاركة في هذا النوع من الاستشارات الشعبية بحجة التفرغ للابداع والكتابة، وقد انخرطت هذه المرة في العمل الجماعي، كما لاحظت الدراسة ارتفاع عدد المرشحين بنسبة 9.2 في المئة قياساً للانتخابات السابقة 1992، مما يجسد الاهتمام المتزايد الذي تحظى به اللامركزية والمشاركة في تدبير الشؤون المحلية، وهو ما يؤكده العدد الكبير من المرشحين اللامنتمين. ونظراً الى مقاطعة "الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية" التي يترأسها الدكتور عبدالكريم الخطيب، وهي الاطار الجديد الذي ارتضاه قياديو وأنصار "حركة الاصلاح والتجديد" الأصولية لعملهم السىاسي في المرحلة الراهنة، أصبحت صيغة "المرشح المستقل" أو اللامنتمي هي الخيار الوحيد أمام الاسلاميين للمشاركة في الانتخابات المحلية، غير ان وزير الداخلية ادريس البصري رفض الافصاح عن حجم الاسلاميين الذين خاضوا الانتخابات المحلية كمرشحين مستقلين وعدد الفائزين منهم. وكان الدكتور الخطيب أعلن قبل أيام من بدء الحملة الانتخابية ان حزبه تراجع عن المشاركة "بعد الشوائب التي شابت التحضير لهذه الانتخابات"، وذكر على الخصوص اقصاء حزبه من اللجنة الوطنية لمتابعة الانتخابات واللجان الاقليمية، التي اقتصر تشكيلها على الأحزاب المتمثلة في البرلمان الحالي بالاضافة الى الحكومة والقضاء. وعاد حزب "الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية" الذي تأسس العام 1967 نتيجة أول انشقاق في تاريخ "الحركة الشعبية"، الى الساحة السياسية بعد طول غياب، وركز في استقطابه على الاسلاميين واستطاع ان يدمج حركة الاصلاح والتجديد التي يتزعمها عبدالاله بنكيران ومحمد يتيم خلال مؤتمره الأخير، وترك الباب مفتوحاً أمام انضمام "حركة العدل والاحسان" المحظورة. والجدير بالذكر ان الحملة الانتخابية تمول بدعم حكومي للأحزاب السياسية كي تبعد عنها شبهات تلقي دعم خارجي، أو الوقوع تحت رحمة ضغط قوى اقتصادية أو مالية تعمل من اجل حماية مصالحها الضيقة، وبمعنى آخر فان المواطن هو من يؤدي من مال الضرائب والرسوم فاتورة المشاركين في الانتخابات لكن من السياسيين فقط، اذ لا يشمل هذا الدعم المرشحين المستقلين الذين عليهم الاعتماد على أنفسهم. وتقدر مبالغ دعم الحملة الانتخابية الممهدة لانتخابات 13 حزيران يونيو بحوالي 90 مليون درهم الدولار يساوي 9 دراهم تقريباً وقد اجرى محمد زيان المشهور بپ"النائب المشاغب" والمحامي ووزير حقوق الانسان السابق عملية حسابية استنتج منها ان هذا الرقم يعادل بالضبط واردات الخزينة العامة من مجموع الغرامات والعقوبات المالية الصادرة عن المحاكم، ومجموع الغرامات التصالحية في باب موارد موازنة 1996/ 1997. بقي ان نشير الى ان المغاربة باتوا يتفاءلون بالرقم 13 على عكس الفرنسيين الذين يتشاءمون منه، ومن خالط لاعبي رهان الخيول يعرف ان الرقم 13، يعتبرونه الرقم الأسود، ذلك ان الحصان الذي يحمله اذا ما وصل ضمن التشكيلة الرابحة فإن مبلغ التعويض المخصص يكون مرتفعاً. والسؤال الآن هو هل ان المعارضة التي كانت صوتت للمرة الأولى بالايجاب على تعديل الدستور في 13 ايلول 1996، وحصدت في انتخابات 13 حزيران 1997 ثلث مقاعد المجالس البلدية والقروية، ستحقق رهانها على تحول في الخريطة السياسية يأتي بها الى الحكم؟ .