أسفرت الانتخابات التشريعية المغربية، التي اجريت في 14 تشرين الثاني نوفمبر عن تقدم احزاب المعارضة المغربية المنضوية في "الكتلة الديموقراطية" على باقي التيارات السياسية، بحصولها على 100 ومقعدين من اصل 325 مقعداً هي مجموع مقاعد مجلس النواب الذي يمثل الغرفة الأولى للبرلمان الجديد. وطبقاً للنتائج النهائية للاقتراع، الذي اجري للمرة الأولى بطريقة مباشرة تصدر حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" المعارضين بپ57 مقعداً. غير ان النتيجة اظهرت تراجعاً كبيراً لحليفه حزب "الاستقلال" الذي لم يحصل على 32 مقعداً فحسب. وجاء في المرتبة الثانية "الاتحاد الدستوري" وهو صاحب غالبية سابقة، بحصوله على 50 مقعداً، تلاه في المرتبة الثالثة "التجمع الوطني للاحرار" وسط الذي حصل على 46 مقعداً. واستطاعت "جماعة الاصلاح والتوحيد" الاصولية غير المرخص لها انتزاع فوز مهم بحصولها على 9 مقاعد، عبر "الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية" ذات التوجه الاسلامي التي خاضت الجولة الانتخابية الاخيرة بعد مقاطعة طويلة. وحصلت "الحركة الشعبية" صاحبة غالبية على 40 مقعداً، اما "الحركة الاجتماعية الديموقراطية" وسط فقد حصلت على 32 مقعداً، ثم "الحركة الوطنية الشعبية" وسط وحصلت على 19 مقعداً. وكان نصيب "الحزب الوطني الديموقراطي" وهو صاحب غالبية سابقة 10 مقاعد. وحصل حزب "التقدم والاشتراكية" معارضة و"جبهة القوى الديموقراطية" التي انشقت عنه على 9 مقاعد لكل منهما، فيما تفوق الحزب "الاشتراكي الديموقراطي" على "منظمة العمل الديموقراطي" التي انشق عنها بحصوله على 5 مقاعد في مقابل 4 مقاعد حصلت عليها المنظمة. وقد خرجت "الحركة من اجل الديموقراطية" اليسارية من أول سباق لها صفر اليدين، فيما اكتفى حزب "العمل" بمقعدين، وحزب "الشورى والاستقلال" بمقعد واحد فقط. وبهذه النتائج التي سارعت المعارضة الى انتقادها بشدة كونها، كما تزعم، نتاج عمليات تزوير وشراء اصوات وخروقات وانتهاكات بالجملة تغاضت الادارة عنها، تكون الخريطة السياسية المغربية قد حافظت على ثباتها، الا من تغييرات طفيفة على تضاريسها الاصلية، اذ ساوت تقريباً بين حظوظ التكتلات الحزبية الثلاثة: المعارضة اليسارية 31.38 في المئة، الغالبية اليمينية 29.77 في المئة والوسط الليبرالي 29.85 في المئة، لتفتح من جديد باب التكهنات على مصراعيه في شأن تشكيل الحكومة المقبلة. ولعلها مفارقة ان تخسر المعارضة احد اكبر رهاناتها في هذه الانتخابات التي جرت قبل الأوان، بالحصول على غالبية مريحة تتيح لها فرصة القيام بدور اللاعب الاكبر، وتمكنها بالتالي من تحقيق الفكرة التي ظلت تتداولها في السنوات الاخيرة: التناوب على الحكم. اذ شككت مراراً في الكيفية التي اجريت بها انتخابات 1993، لا سيما شقها غير المباشر الذي اضعف موقعها العددي في مجلس النواب، بعدما تقدمت بشكل لافت في الاقتراع المباشر، وكانت ترى ان تنظيم انتخابات مبكرة، وفي ظروف مغايرة، كفيل باعادة الاعتراف بحجمها الحقيقي. على هذا الأساس، اجيبت مطالبها في شأن مراجعة الدستور، وانتخاب جميع اعضاء مجلس النواب بالاقتراع المباشر، وإنشاء مجلس للمستشارين، فضلاً عن مراجعة اللوائح الانتخابية وإقرار قانون انتخابي جديد، اضافة الى العديد من الاجراءات القانونية والتنظيمية كاستعمال وسائل الاعلام العمومية والتمويل العمومي ووضع الصناديق الزجاجية والرموز للهيئات السياسية، والآليات الخاصة بفض المنازعات. وجاءت هذه المبادرات وسط توافق بين الاحزاب السياسية، وبينها وبين الحكومة مجسداً في "ميثاق الشرف" الذي تم التوقيع عليه في شباط فبراير الماضي، لضمان انتخابات نزيهة وشفافة تنبثق عنها مؤسسات دستورية تساهم في تطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المغربية. وحتى عشية الحملة الانتخابية، كانت أوساط "الكتلة الديموقراطية" تستبعد تحالفاً مع احزاب الوسط لحكومة ما بعد الانتخابات مطمئنة الى حصول فرقائها الأربعة: الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل على غالبية نيابية، بل ان محمد بوستة زعيم حزب الاستقلال توقع ان تحصد احزاب الكتلة نسبة تقارب 45 في المئة من مقاعد مجلس النواب. ماذا حدث، اذن، في هذه الانتخابات المبكرة التي سعت اليها المعارضة بقدميها؟ تقدم طفيف جداً صحيح ان احزاب المعارضة تقدمت في هذه الجولة، الا ان هذا التقدم كان طفيفاً جداً، وبفارق مقعدين على احزاب الغالبية السابقة 100 مقعد و5 مقاعد فقط على احزاب الوسط 97 مقعدا. يضاف الى ذلك ان التقدم كان من نصيب حزب واحد من الاحزاب الأربعة هو "الاتحاد الاشتراكي"، بينما تعثر "الاستقلال" على نحو مذهل، ولم يكن بمقدور حزبي "الكتلة" الآخرين "التقدم والاشتراكية" و"منظمة العمل" ترجيح الكفة بالنزر اليسير من المقاعد التي حصلا عليها. والواقع ان "الكتلة" التي تعرضت للكثير من الهزات والتقلبات تفككت تماماً إثر ما برز من تناقضات حول "المرشح المشترك"، وان ظل شعار "البرنامج المشترك" يرفع منعاً لتشفي الخصوم او شماتتهم، مما ادى في نهاية المطاف الى اخفاق عدد كبير من قادة المعارضة في هذه الانتخابات التي اجريت للمرة الأولى بالاقتراع العام المباشر، بينهم اربعة من اعضاء الكتابة الوطنية لمنظمة العمل، وأربعة من اعضاء المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، الا ان الخسارة الباهظة تكبدها حزب الاستقلال، اذ فشل عشرة من اعضاء لجنته التنفيذية في الوصول الى قبة البرلمان، وفيهم نائب رئيس الحزب ونائبته الوحيدة في البرلمان السابق. وهناك اسباب كثيرة تفسر الحصيلة الهزيلة التي خرج بها "الاستقلال" مقارنة بانتخابات 1993 التي حصل فيها على 43 مقعداً في الاقتراع المباشر نتيجة التنسيق مع الاتحاد الاشتراكي واعتمادهما معاً صيغة "المرشح المشترك". وهذا هو السبب الأول، اي تخلي الحزب عن هذه الصيغة في الانتخابات الحالية لتتلقفها احزاب الموالاة وتحصد من خلالها المقاعد المئة، عندما خاضتها بپ90 مرشحاً مشتركاً من مجموع 604 مرشحين. ويبدو ان نشوة انتصاره في الانتخابات الجماعية البلديات، في حزيران يونيو الماضي، وتالياً في انتخابات مجالس المحافظات في تموز يوليو ادارت رأس "الاستقلال" وجعلته يعتقد ان بامكانه الانفراد بالنصر في الانتخابات العامة من دون اللجوء الى اعادة تجربة "المرشح المشترك"، سواء مع الاتحاد الاشتراكي او مع باقي مكونات "الكتلة". يساريون وإسلاميون ونساء لكن اوساطاً مراقبة ترى ان الاصوليين الذين دخلوا حلبة المنافسة، من خلال حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية، النافذة الشرعية التي فتحها الدكتور عبدالكريم الخطيب بعد ثلاثة عقود تقريباً من الاغلاق، اكلوا من قاعدة "الاستقلال" المعروف كذلك بتوجهاته الاسلامية. فربما فضل مناصروه من ذات التوجه التصويت مباشرة لمرشحي الحركة لتأتي النتيجة على حسابه. ومهما يكن، فان هذه النتيجة ليست سوى واحدة من المفاجآت الكثيرة التي حفلت بها انتخابات مجلس النواب، والمؤكد ان المفاجأة الكبرى تمثلت في مشاركة التيار الاصولي فيها بحوالي 150 مرشحاً من اصل 3288 مرشحاً، وفوزه بپ9 مقاعد، فيما ظل بقايا الماركسيين الماويين والتجمعات اليسارية الصغيرة التي خطت الى اكتساب الشرعية من خلال "الحركة من اجل الديموقراطية" المولودة حديثاً، بلا مقاعد. وهذه مفاجأة ايضاً لا تقل اثارة عن فشل المرأة المغربية في تعزيز حضورها في مجلس النواب الجديد بأكثر من مقعدين، كما في المجلس السابق، على رغم ان عدد المرشحات في هذه الانتخابات بلغ 72 مرشحة في مقابل 36 في 1993. ويشار الى ان احزاباً اخرى من 16 حزباً خاضت الانتخابات للمرة الأولى، اما لأنها نشأت حديثاً مثل "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" المنشق عن منظمة العمل او جبهة القوى الديموقراطية المنشق عن التقدم والاشتراكية، او لأنه تم الترخيص له بممارسة العمل السياسي المشروع، مثل الحركة من اجل الديموقراطية. اضافة الى الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية التي قاطعت الانتخابات التشريعية السابقة. كما يشار الى ان نسبة المشاركة في الاقتراع كانت احدى اضعف النسب المسجلة منذ انتخابات 1963 و1970 و1977 و1984 و1993، حيث لم تتجاوز 58.30 في المئة، فمن بين 12 مليوناً و800 الف ناخب لم يشارك في التصويت سوى 7 ملايين و460 ألفاً، منهم اكثر من مليون أدلوا ببطاقة بيضاء. وقد عزا وزير الداخلية المغربية ادريس البصري السبب الى تعب الناخبين الذين دعوا الى التصويت قرابة خمس مرات منذ الاستفتاء على التعديل الدستوري في 13 ايلول سبتمبر 1996، وكذلك الى الامطار التي تهاطلت بغزارة في يوم الاقتراع. ويرى المهتمون بالشأن المغربي ان الانتخابات التشريعية لم تعد محاولة لتحسين الواجهة، ذلك ان إرساء التناوب على الحكومة بات استراتيجية محسوبة من جانب الحكم للحفاظ على استقرار البلاد، خصوصاً ان الانتخابات تأتي في الوقت الذي تحاول فيه الأممالمتحدة حل قضية الصحراء من خلال إجراء استفتاء تقرير المصير. تضاف الى ذلك الرغبة في تحسين اداء الاقتصاد المغربي غير المستقر، وتعزيز ثقة المستثمرين الاجانب به، بعد ان توجه المغرب الى الاتحاد الأوروبي لضمان مستقبله الاقتصادي خاصة بتوقيعه في 1995 اتفاقية للشراكة الاقتصادية. ويأتي فوق ذلك كله تحصين البلاد من عدوى الاضطرابات الجزائرية، فهذه الانتخابات تعني بالنسبة الى الحكومة المغربية اضفاء مصداقية على الاصلاحات التي تطبقها منذ بداية الثمانينات، ومواصلة ترسيخ الديموقراطية في الحياة السياسية المغربية، وسد ثقوب المشهد السياسي بإجراء انتخابات لا مجال للطعن في شفافيتها ونزاهتها .