على رغم ان الاستعدادات لاجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في ايران دخلت بالفعل مرحلة التسخين المطلوب بعد الاعلان رسمياً عن عزم وزير الثقافة والارشاد الاسلامي السابق محمد خاتمي المشاركة فيها، الى جانب منافسين آخرين، الا ان كل الدلائل المتوافرة حالياً تشير الى ان رئيس البرلمان الحالي علي أكبر ناطق نوري سيكون الأوفر حظاً للفوز ولخلافة الرئيس هاشمي رفسنجاني. وقد أعلن خاتمي وهو من زعماء جناح اليسار الديني المتشدد عن رغبته في الترشيح للانتخابات المقررة منتصف العام الحالي وقال انه تعرض لضغوط شديدة كي يوافق على الترشيح بعدما رفض رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي الدخول في سباق الانتخابات الرئاسية. وذكر خاتمي ان مشاركته في الانتخابات ستكون لأجل الفوز فيها ومن دون ان يطرح شيئاً عن برنامجه الانتخابي، وما اذا كان سيعمد الى الغاء برامج الاصلاح الاقتصادي التي عمل بها الرئيس رفسنجاني، وكلفه فيها الجناح المتشدد. ومنذ الانتخابات التشريعية قبل الماضية العام 1992 - وهزيمة جناح اليسار الديني المتشدد وسقوط معظم اقطابه، قرر هذا الجناح الانسحاب من الحياة السياسية في وقت اضطر فيه رفسنجاني اثر فوزه في انتخابات الرئاسة لتجديد ولايته الثانية العام 1993، الى اجراء تعديل وزاري أزاح بموجبه خمسة وزراء كانوا من جناح المتشددين، ومنهم وزير الثقافة والأوقاف محمد خاتمي. وأعرب رفسنجاني عن أسفه في خطبة جمعة نادرة ألقاها بعيد التعديل الوزاري، لغياب خاتمي وعبدالله نوري وزير الداخلية السابق وبقية الوزراء. ولوحظ ان خاتمي ونوري وغيرهما من المتشددين الذين عملوا مع رفسنجاني خففوا من معارضتهم لبرنامج الاصلاح الاقتصادي، بل ان نوري انضم بالكامل الى جناح "خدّام البناء" الذي يعمل تحت عباءة الرئيس، كإحدى الاضافات المهمة في معادلة الاجنحة الايرانية، ولقد تمكن تنظيم "خدّام البناء" على رغم حداثة ولادته كونه ولد في ظروف قيصرية عشية الانتخابات التشريعية الماضية، من ايصال نوري الى البرلمان، ليصبح زعيماً لأنصار جناحين "ضعيفين" فيه هما "خدّام البناء" والمحسوبون من نواب المدن على المتشددين. لقد وصل جناح اليسار الديني المتشدد الى قناعة عبر عنها أحد أقطابه لپ"الوسط" بقوله "هزمنا بولاية الفقيه" في اشارة الى ان المنتصر الوحيد في الانتخابات العام 1992، كان الولي الفقيه. وأوضح - وهو عضو في لجنة رئاسة البرلمان السابق - ان الأخطاء التي وقع فيها أقطاب جناحه حول معادلة الولاء لولاية الفقيه - كأصل لا يقبل القسمة في المنهج الذي رسمه الإمام الخميني الراحل، جعلت الآخرين يتقدمون عليه خصوصاً ان الشارع الايراني المعبأ لپ"الولاية" "لن يمنح أصواته لمن يضع العصي في عجلة القيادة، مهما كان قربه اللصيق السابق من الامام" كما قال. وفي دلالة، لها معان عدة، ستنعكس حتماً على نتائج الانتخابات الرئاسية، أعاد هذا القطب البارز - وهو واحد من قائمة ضمت 30 مرشحاً في طهران، هزمت في الانتخابات التشريعية الماضية - الى الاذهان ان قائمة "مجمع علماء الدين المناضلين" كانت قد ضمت أسماء معروفة بتاريخها مع الامام الخميني لكنها لم تحصل على اقبال جماهيري يؤهلها للفوز بمقاعد البرلمان الرئيسية في طهران لأن الشارع عرف اقطابها بأنهم أداروا "نصف ظهرهم" لخليفة الامام الخميني، علي خامنئي الذي شدد في خطاب مميز عشية الانتخابات على الربط بين الولاء لولاية الفقيه، وبرنامج الرئيس رفسنجاني وحكومته في عهد البناء والاعمار. ووجد اليسار الديني نفسه وحيداً في سباق الانتخابات لأن معارضته للبرنامج الاقتصادي لرفسنجاني وضعته في خانة "الندية" للولي الفقيه، الذي ايد الرئيس وبرنامجه، ولأن أساسيات الاصلاح الاقتصادي، وأرقامه الرئيسية وضعت في عهد الامام الراحل، على مرأى ومسمع منه، وبمشاركة ممثله ومندوبه نجله الراحل أحمد الخميني. ففي الأشهر الأخيرة قبل وفاته ، أوعز الامام الخميني بتشكيل لجنة خاصة لاعداد ورقة أولية عن برنامج الاصلاح، بعدما وضعت الحرب العراقية - الايرانية اوزارها لمصلحة الاندماج في المجتمع الدولي. واكتشف الايرانيون بعد رحيل الامام، ان تلك اللجنة ضمت عبدالكريم موسوي اردبيلي ومير حسين موسوي - وهما من زعماء المتشددين الدينيين - والرئيس السابق علي خامنئي ورئيس البرلمان السابق الرئيس الحالي رفسنجاني، وكان يشرف على عمل اللجنة كمندوب عن الامام، نجله أحمد الخميني، كذلك فإن الموافقة على اجراء تعديل في الدستور، تمت في عهد الولي الفقيه السابق، الذي كان يخطط لبناء دولة دينية عصرية في عالم متغير. وعندما ارتفعت معارضة أقطاب المتشددين لبرنامج الاصلاح، هزموا في الانتخابات التشريعية، وقرروا بعدها الانسحاب ليصلوا الى استنتاج عقلاني مفاده ان عليهم الانسجام مع ولاية الفقيه، وقبولها مطلقاً وليس بطريقة انتقائية. لكن هذه النتيجة لم "يهضمها" الا القلة من اقطاب المتشددين، وفي الأشهر القليلة التي تسبق الانتخابات الرئاسية، أفرزت نوعاً خطيراً من التفكير في شأن حدود "ولاية الفقيه" ومساحة الدور الجماهيري في الانتخابات، التي تفصل بين رأي الولي الفقيه وآراء الجماهير. ومرة اخرى تكررت المسألة لأن عبدالله نوري الذي كان يعده "خدّام البناء"، واليسار الديني العائد الى الحياة السياسية، خليفة لرفسنجاني، بعدما فشل في رئاسة البرلمان، أثار موضوع "آراء الجماهير كالزام شرعي كامل للولي الفقيه". وكانت تلك الاثارة كافية مرة اخرى، لتشير، ولو باكراً، الى نتائج الانتخابات الرئاسية، وهي ان المنافسين المحسوبين على غير "الولاية" سيُهزمون. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان مجموعة من كبار علماء لبنان، بينهم الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، وآخرون موجودون حالياً في قيادة "حزب الله" في لبنان، كتبوا الى آية الله محمد باقر الصدر أعدم في العراق العام 1980 عن سر سماح الخميني للشعب الايراني بالتصويت والاستفتاء بپنعم أو لا على الجمهورية الاسلامية المقترحة وما إذا كان ذلك يتعارض مع وجوب اقامة الحكم الاسلامي وهو من واجبات المرجع الديني الولي الفقيه. فرد الصدر بكتيب صغير أرسى فيه آراء المسلمين، خصوصاً الشيعة حول الحكومة الاسلامية أو ولاية الفقيه. وقال ان خطوة الامام كانت تقديراً منه للشعب الايراني، ليسمح له بالمشاركة في تأسيس الجمهورية الاسلامية التي أقام ثورتها بتضحياته. واعتبر الصدر ان الخميني الذي خبر شعبه في مسرح المواجهة مع نظام الشاه يدرك تماماً ان الشعب الايراني لن يختار غير الجمهورية الاسلامية التي ارادها له الخميني. واستند الصدر الى قوله تعالى "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من أمرهم"، ليقول ان الإمام الخميني سيفرض اقامة الحكومة الإسلامية على الشعب الإيراني، لو اختار غير الجمهورية الإسلامية. ويمكن القول إن الذين يعتقدون بقيام الحكم الإسلامي في زمن الغيبة يجب ان يستندوا إلى نظرية الولاية المطلقة، وهو ما اخطأ فيه مرة أخرى بعض زعماء المتشددين الذين لم يستوعبوا "دروس" الانتخابات التشريعية لعام 1992 التي أكدت ان المنتصر الوحيد فيها كان الولي الفقيه. وواضح من ردود الفعل الشعبية الواسعة ان كلام نوري ربما يكون الفيصل الحاسم الذي جعل "خدام البناء" من أنصار الرئيس رفسنجاني، يستبعدون فكرة ترشيحه لخوض انتخابات الرئاسة، بل وربما سيتحالفون مع "اليسار الديني" لدعم ترشيح الدكتور خاتمي في مقابل المرشح الأقوى والأوفر حظاً رئيس البرلمان الحالي ناطق نوري. وتقول مصادر متطابقة من الجناحين انهما يدرسان بالفعل دعم خاتمي بعدما أصر رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي على البقاء خارج دائرة الضوء، وراجت معلومات عن الاتجاه إلى ترشيح محمد هاشمي رفسنجاني، شقيق الرئيس، ومن أقطاب "خدام البناء" نفسه وانسحابه لمصلحة خاتمي. إلا أن نوري وصف تلك المعلومات بأنها "اشاعة"، مشدداً على أنه لن يخوض مرة أخرى في أي حديث عن ولاية الفقيه، في إشارة لها مغزى عن ردود الفعل التي واجهته وأدت إلى الكف عن التلويح به كمرشح رئاسي في الانتخابات المقبلة. وإلى جانب "خدام البناء" كجناح جديد في الساحة الإيرانية، يبرز دور محمد محمدي ريشهري الذي أسس اثناء الاستعداد للانتخابات التشريعية تجمعاً باسم "منظمة الدفاع عن قيم الثورة الإسلامية"، واستطاع على رغم قصر عمر تنظيمه ان يثبت أقدامه في الرواق الإيراني اثناء توليه وزارة الأمن والاستخبارات، وقدرته في تلك الظروف على مواجهة صعوبات رافقت عملية خلع نائب الإمام السابق حسين علي منتظري وسمح لريشهري دوره في إمارة الحج الإيراني ورئاسة المحكمة الخاصة ب "رجال الدين" ليدفع بمرشحين في الانتخابات التشريعية الماضية، وفي الانتخابات التكميلية الأخيرة، وها هو يستعد لترشيح نفسه في سباق الانتخابات الرئاسية. أما الرئيس هاشمي رفسنجاني الذي أكد أنه لن يدعم أياً من المرشحين، فيستعد هو الآخر لموقع قيادي مهم أشار له المرشد خامنئي أخيراً. وتقول أوساط مطلعة ان رفسنجاني سيشغل موقع نائب القائد، خلفاً لمنتظري المعزول، وهو ما يحتاج إلى عملية بسيطة لتعديل الدستور، لأن منصب نائب القائد على رغم ان منتظري شغله أعواماً قبل سقوطه، ليس له غطاء في الدستور. ولكن ماذا عن جناح الليبراليين المهتز؟ بعض المصادر المقربة من زعيم حركة الحرية في إيران الدكتور إبراهيم يزدي، سرب معلومات عن نية خليفة المهندس الراحل مهدي بازركان خوض الانتخابات الرئاسية. إلا أن يزدي، الذي كان أول وزير خارجية في الجمهورية الإسلامية، لا يملك أي حظ في الفوز، وهو إنما يشارك ليقول "انني موجود"، لأن المرشحين الآخرين لن يستطيعوا منافسة ناطق نوري المدعوم، بتاريخه وحاضره، من المؤسسة الدينية والبازار وأنصار "حزب الله" وأئمة المساجد وخطباء الجمعة في المدن. وبقراءة سريعة لحصاد الأصوات في الانتخابات التشريعية الماضية وخريطة الأجنحة الإيرانية لا يبقى إلا ان يستعد ناطق نوري للفوز بالرئاسة لأنه الأوفر حظاً ولا يواجه منافسين جديين