"شجرة" المواجهة الدائرة بين آية الله العظمى حسين علي منتظري وخصومه تخفي "غابة" من القضايا والمشاكل، منها ما يتعلق بالشأن الايراني الخاص، ومنها ما يدخل او يلامس دائرة أوسع، تشمل المسلمين الشيعة، داخل ايران وخارجها. فالحدة التي برزت في هذه المواجهة الى درجة تحولها الى "حرب" صغيرة بين مختلف التيارات، ليست آتية من فراغ، ولا هي طارئة مع انتخاب السيد محمد خاتمي رئيساً للجمهورية بل تعود في جذورها الى الأيام الأولى للثورة، وتمتد عميقاً، في جزء منها، في تاريخ العلاقة بين مراجع التقليد من كبار رجال الدين والعلماء، وعامة الناس. وإذا كانت لم تخرج الى السطح بهذا الشكل وهذه الحدة، فلأنها كانت تجري اما خلف الأبواب المغلقة للحوزات العلمية، واما تحت "الخيمة الخيمينية" بعد الثورة. ولالتقاط كل ما يجري، تجدر العودة الى حيثيات بداية المواجهة المباشرة، وليس الى بداية ظهور النقاش الفكري الذي انطلق اثناء الحملة الانتخابية لمجلس الشورى حول علاقة رجال الدين بالمثقفين. والبداية، كانت في توجيه آية الله آذري قمي، وهو الذي لم يخف يوماً معارضته لولاية الفقيه، كتاباً قرأه أمام طلابه، يتألف من 35 صفحة، ركز فيه على ان ولاية الفقيه نظرية من النظريات، منتقداً بقساوة القيادة ممثلة بآية الله علي خامنئي، خصوصاً على صعيد "ممارساتها". وفي يوم الجمعة 14/11/1997، وهو يوم الاحتفال بولادة الامام علي بن أبي طالب، ألقى منتظري "درسه" والى جانبه آذري قمي. وبدا هذا المشهد وحده نذيراً بحدوث تطور كبير، ذلك ان هذا الاجتماع، هو اجتماع بين ناقض لولاية الفقيه و"مهندس" النظرية وواضع الدراسة الكبيرة عنها في جزئين. وباختصار فإن أقصى اليمين المحافظ التقى مع أقصى اليسار المتشدد! والمعروف ان أي درس يلقيه منتظري في مدينة قم يقوم طلابه بتسجيله صوتاً، ثم يدونونه كتابة تمهيداً لتوزيعه. وبهذا الخصوص فإن منتظري تعمد ان يقول ما قاله ليصل الى أكبر عدد من الناس، خصوصاً بواسطة "الكاسيت"، وهو السلاح السري الذي ابتدعه الامام الخميني ضد نظام الشاه. ويقع "درس" منتظري في أربع صفحات فولسكاب، ويتضمن، حسب ترجمته المباشرة، النقاط الآتية: - "لدينا الآن رئيس للجمهورية انتخب بأصوات 22 مليون ايراني. ويجب على الآخرين أي المحافظين ان ينسجموا مع خطه. وأن لا يضع أحد نفسه فوقه ولا في موازاته أي الرئيس. - الولي الفقيه له "حق النظارة" أي "الاشراف ومراقبة السلطات الثلاث والحياة الدينية والسياسية"، اما ما يحصل حالياً فهو التدخل في الأعمال وفي تفاصيلها. - ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات. وكان يتم ذلك قديماً في المسجد. اما الآن، ومع التقدم الحاصل في العالم، من اعلام وصحافة الخ، فإن هذا الواجب يتم من خلال حرية الرأي والممارسة الحزبية، والذين يحدون من ذلك يحدون من واجب وهذا حرام. لذلك فإن "حظر تأسيس الأحزاب وسلب الحريات المشروعة ذنب واعتداء على الحقوق الطبيعية للشعب". - كل شخص ولي للآخر استناداً الى الآية الكريمة 71 من سورة التوبة: "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…". اما ممارسة الولي الفقيه فهي مخالفة كما تجري، إذ تلغي هذا الحق الذي هو للرجل والمرأة، وتؤدي الى احتكار السلطة كما كان في عهد نظام الشاه الذي رفضه الشعب واسقطه. ويشير منتظري الى ان السلطة يديرها حالياً ثلاثة أشخاص او اثنان، وهذا يلغي حق المشاركة والرأي للجماهير او "الناس". - يجب عدم التدخل في أمور المرجعية والمزج بين القيادة والمرجعية وهنا يشن منتظري هجوماً مباشراً على المرشد خامنئي لأن خامنئي ليست لديه رسالة علمية تؤهله للاجتهاد. ويروي منتظري انه عندما توفي آية الله أراكي أوفد الى خامنئي آية الله أميني ليدعوه الى عدم الاجتهاد واصدار الفتاوى، إلا ان خامنئي لم يدع أميني يكمل كلامه بل أحاله على مكتبه، حيث وجد من يرد على الاستفتاءات أسئلة الناس بالاستناد الى رسالة الامام الخميني "تحرير الوسيلة". وتساءل منتظري إذا كان الرد يأتي من رسالة الخميني، فما هو دور المجتهد؟ رسالة مصنوعة وبدلاً من ابقاء الأمور في نصابها، فإن الهجوم بدا قاسياً وحاداً، وقاده اثنان: آية الله محمد يزدي رئيس السلطة القضائية، والنائب في مجلس الشورى حجة الاسلام محمد رضا فاكر الذي تولى قراءة رسالة من الإمام الخميني الى منتظري لم تكن معروفة وتتعلق بعزله من خلافته، وقد تضمنت كلمات حادة من نوع "قروي ساذج وظالم". وقد تبين بعد أيام، انها رسالة منسوبة للخميني، أو بالأحرى مصنوعة لأنها مطبوعة، ولم تكن من عادة الخميني توجيه مثل هذا النوع المطبوع من الرسائل، خصوصاً الشخصية. لذلك اضطر فاكر لسحبها و"استبدالها" برسالة أخرى بصيغة أخف لكي يبقى حول صحتها ألف سؤال، لكن الرسالة كانت قد تركت فعلها، وهو ما كان مطلوباً، فجرى تنظيم مهاجمة مكتب منتظري وتدميره. اما يزدي فذهب بعيداً في خطبة الجمعة التي يؤمها في جامعة طهران عندما حذر "منتظري وكل من يتعاون معه او ينهج نهجه ممن يستهدفون التعرض لولاية الفقيه المحور الأساسي للجمهورية بمواجهة اجراءات جدية توقفهم عند حدهم". واستكملت هذه الحملة بتظاهرات منظمة دمرت مكتب منتظري في قم، حيث اعتبر المتظاهرون ان مقر منتظري "في الآخرة هو قعر جهنم". ماذا يعني كل ذلك، والى أين ستصل هذه المعركة المفتوحة؟ مهندس النظرية ليست هذه المرة الأولى التي يصدر فيها عن منتظري كلام صريح ومنسجم مع توجهات شعبية من دون التخلي عن التزام فكري راديكالي ومتشدد. فقد لعب منتظري دور "ضمير" الثورة منذ بدايتها، لذلك فهو الوحيد الذي واجه الامام الخميني في وقائع كثيرة وبرسائل خطية، أبرزها المتعلقة باعدام المعارضين، وأخرى في نقاش حول جدوى ارسال موجات بشرية الى الموت اثناء الحرب مع العراق. وتمنحه هذه المواقف صدقية لا يستطيع أحد نفيها عنه. والى جانب ذلك فهو عندما يتطرق الى ولاية الفقيه والاجتهاد فإنه يتكلم من منطلق واضح، وهو انه "مهندس" نظرية ولاية الفقيه الى جانب الخميني، ومجتهد معترف به من جميع علماء الدين الشيعة، وقد تضمن حديثه أمام طلابه وبحضور آية الله آذري قمي ثلاثة محاور هي: - الجمهورية وضرورة التزام كل تفاصيلها وهذا شأن ايراني. - وضع ولاية الفقيه في اطارها الصحيح، فالولي الفقيه يملك ولا يحكم، خصوصاً ان المطلقية رفعت عنها. - المرجعية شأن خاص للعلماء، لذلك يجب عدم المزج بين القيادة والمرجعية. ولمن يطالب بها او يسعى اليها ان يكون مجتهداً. واستكمالاً لهذا التقسيم فإن المواجهة الفقهية تعود الى ما قبل سقوط الشاه، وأساسها خلاف قديم على قيام الجمهورية. ويرى تنظيم "الحجتية" المحافظ المتشدد الذي حظره الخميني ان على المسلمين الشيعة انتظار عودة الامام حتى تقوم حكومة المسلمين. وفي هذا الاطار يجب تجاوز الجمهورية الاسلامية واقامة "حكومة العدل" لأن حكم الجمهورية زندقة. ويعني قيام مثل هذه "الحكومة" في المفهوم الشيعي قيام "امارة ايران" على غرار "امارة افغانستان" التي اعلنتها حركة "طالبان"، حيث السلطة لرجال الدين وحدهم، بل ولمجموعة منهم فقط، وعلى رأسهم أمير المؤمنين او أمير الجماعة. وكانت "الوسط" اشارت قبل الانتخابات الرئاسية الايرانية الى توجه قيادات "الحرس الثوري" لقيام "حكومة العدل" التي يسعى اليها تيار المحافظين، الذي يضم "المؤتلفة والحجتية". والمعروف ايضاً ان الخميني كان قد اعتبر مثل هذا الطرح حول احتكار عدد من رجال الدين "جند نفر بير مرد ملآ" كما قال بالفارسية للشؤون السياسية "مؤامرة أسوأ من المؤامرة السابقة، وهي فصل الدين عن السياسة". ولم تقتصر مهاجمة منتظري وقمي على التظاهرات ومهاجمة المكاتب واقفال المقرات، بل تركزت على ثلاث قضايا: الأولى، ان الولي الفقيه يعيش كأي مواطن عادي. وجاء ذلك على لسان الجنرال علي رضا اخشار قائد البسيج، الذي اعتبر ان اتهام الولي الفقيه بأنه جعل من سلطته مؤسسة حكم ويعيش بوجاهة السلاطين هو كلام باطل. الثانية، ان خامنئي عالم مجتهد وقد أقر بذلك الإمام الخميني وأوصى بخلافته، وهو كلام لابنة الخميني زهرة المعروفة بمواقفها المحافظة، علماً ان والدتها السيدة بتول وقفت الى جانب الرئيس خاتمي، بكل ما يعني ذلك من دعم الحكم المدني في اطار الجمهورية. الثالثة، ان ولاية الفقيه هي "عمود الخيمة" التي يقوم عليها النظام السياسي في ايران وأي مس بها يعني ضرب هذا النظام" واللافت ان ردود الفعل توزعت وإختلفت، ففي حين اعتمد الرئيس خاتمي الصمت ولم يعلق - وهذا حسب رأي احدى قيادات المعارضة قمة الموقف المرجو منه في ظل الضغوط عليه- فإن الرئيس السابق رفسنجاني عالج الأمر بسرعة أمام مجلس تشخيص المصلحة بالتركيز على "ضرورة ان تسود وتسيطر أجواء الحوار المنطقي على الأجواء العصيبة"، مؤكداً "ان الدستور يسمح بوجود الأحزاب وتعددها". وقد وعد بأن يوضح موقفه أكثر في خطبة الجمعة. لكن الواضح انه سيستمر في لعب دور الحكم. اما خامنئي فقد عمد بعد صمت طويل الى المطالبة بمحاكمة منتظري بتهمة "الخيانة". وفي اطار هذه التطورات إرتفعت أصوات عدة مطالبة بوقف كل ما يجري لأنه "يلحق الضرر بمكانة ولاية الفقيه وموقع المرشد أكثر مما يفيدهما". وبدا موقف آية الله علي مشكيني وهو إمام جمعة قم، ورئيس مجلس الخبراء المجلس الذي ينتخب المرشد لافتاً، فقد أعرب عن تضامنه مع الاحتجاجات ضد منتظري، لكنه اعتبر الهجوم على مكتبه في الحسينية "عملاً لا يليق بالأخلاق الاسلامية، ومخالفاً للقانون". كذلك اعتبر حجة الله محمد جواد حجتي كرماني ان "ما يلحق بالولاية والقيادة من ظلم نتيجة هذه التصرفات اللاعادلة ليس أقل ظلماً مما لحق بهما من كلال منتظري". والواقع ان النقاش حول المحاور الثلاثة: الجمهورية بكل مؤسساتها المدنية ومجتمعها المدني، وولاية الفقيه والمرجعية، أصبح قضية شعبية لا يمكن طمسها ولا الغاؤها بقرار او حتى بتوافق في قمة السلطة، إلا بشكل موقت. ويبدو ان استحقاق القمة الاسلامية المقبلة يدفع باتجاه تهدئة الأمور، خصوصاً بعد وضع كل ما جرى في اطار "مؤامرة" اسرائيلية - أميركية تهدف الى "تشويه الجمهورية". لكن بعيداً عن مشكلات "الجمهورية"، فإن قضية المرجعية أصبحت قضية حارة لم يعد تجاهلها او كتمها بقرار ينفع أو يفيد، لأن هذه المواجهة المكشوفة مع منتظري اعادت المرجعية الى واقعها وهو انفصالها التام عن السياسة ومصالحها، واستمرارها في دائرة تحمل ثلاثة عناوين وهي ان المرجعية "للأعلم والأصلح والأعدل". ان المشكلة الكبيرة حالياً في ايران هي ان على رجال الدين، سواء المنخرطين في الدولة وعلى مختلف المسؤوليات، ام المدرسين منهم في الحوزات العلمية، حسم المسألة، فإما اختيار "الجمهورية" نظاماً وممارسة بكل ما يعني ذلك من تثبيت للمجتمع المدني كما يطالب الرئيس خاتمي، ولعل الخطوة الأولى نحو ذلك هي بالدخول في دائرة التعددية الحزبية التي تعترف بها غالبية القوى، وأما القفز فوق كل ما يجري والذهاب بعيداً في الانخراط في مشروع "الحكومة الاسلامية"، الواردة في تسميات عدة ومنها "حكومة العدل". ويعود الالحاح في هذا الاختيار الى ادراك الكثيرين من القيادات والعلماء لخطورة الوضع على مستقبل الجمهورية الاسلامية. ولعل رسالة آية الله اذري قمي - وهو ضد ولاية الفقيه وليس ضد الجمهورية - الى وزير الأمن حجة الاسلام دري نجف آبادي وهو من قرية منتظري التي ارسلها اليه قبل انفجار الوضع دليل على ذلك، اذ ركز على مسألة المرجعية أولاً من خلال الكلام "عن السلطة المنيعة والخطيرة لوزارة الأمن"، متسائلاً عن صناعة المرجعية والعمل ضد أصول موجودة منذ قرون، ومشدداً أخيراً على ان "هذا الوضع للرهبر القائد والمرجعية لن يدوم مع هذا الوضع الاقتصادي اكثر من أربع سنوات، وبانتظارنا نكسة لن تبقي لنا الكرمة ولا قاطفها" .