كلما دعتني صديقتي للذهاب الى حمام السوق، كنت أعتذر بلباقة متذرعة بخوفي من قلة النظافة حيناً وبانشغالي الشديد حيناً آخر. لكن أحاديث جدتي ووالدتي المستمرة عن الأوقات الممتعة التي كانتا تقضيانها في حمام السوق وبخاصة أيام الأعراس، كانت تدغدغ رغبتي في الذهاب الى ذلك المكان الساحر لاكتشافه ومقارنته بما روته الجدة من جهة وما تحدثت عنه الكتابات من قصص وخرافات من جهة أخرى. وهكذا ضربت موعداً مع صديقتي وذهبنا الى حمام "البكري" في منطقة باب توما في الوقت المخصص للنساء. ينقسم الحمام الى ثلاثة أقسام: البرّاني والوسطاني والجواني. أما "البراني" فهو عبارة عن قاعة استقبال كبيرة في وسطها بحرة ماء كبيرة من الرخام وفيها أماكن مرتفعة عليها آرائك مغطاة بسجاد أحمر شرقي تسمى "المصاطب" يجلس فيها الزبائن عند الدخول وقبل الخروج، أمام جدران علقت عليها مرايا كبيرة بإطارات نحاسية. جلسنا في "البراني" أولاً حيث أعطتنا المضيفة "قباقيب" خشبية وفوطاً كي يتم لف الجسم بها بعد خلع الملابس. ثم دخلنا الى القسم "الوسطاني" وفيه مكان للاستراحة ثم اجران ماء حجرية يجلس على كل منها شخص أو أكثر. ويحوي الوسطاني أيضاً غرفة صغيرة مستحدثة هي غرفة "المسّاج"، فيها طاولة طبيب وكرسي اضافة الى غرف صغيرة فيها "دوش" مخصصة لمن لا يعرف الاستحمام بالجرن والطاسة. أما القسم الثالث "الجواني" فهو أكثر أقسام الحمام حرارة. البخار فيه كثيف جداً ينبثق من جهاز حديث يعمل على الكهرباء. تجلس "الزبونة" في هذا القسم وتتعرق بحرارة "السونا" ثم تقوم "المكيّسة" بفرك جسمها بكيس قماش سميك وتستحم بالماء المتدفق من صنابير الى الأجران وبعدها على الأرض. وفي أقصى الحمام قسم صغير اسمه "المقصورة" إذ يوجد في كل حمام مقصورة تنسب الى اسم شيخ المنطقة. وفي المقصورة أيضاً أجران وصنابير مياه. بعد الاستحمام خرجنا الى "الوسطاني" ثم "البرّاني" حيث ارتحنا وشربنا الشاي وارتدينا ثيابنا، وحاسبنا "المكيِّسة" ومعلمة الحمام، التي كانت تسمى قديماً البلاّنة لأنها تضع البيلونة "الترابة الحلبية المعطرة" على جسم المرأة بعد الاستحمام. قضينا ساعتين تشبهان الساعات التي كانت تقضيها النساء قديماً في حمام السوق ومارسنا الطقوس المتبعة نفسها. وكان الناس قديماً يقصدون الحمام أسبوعياً إذ لم يكن في أكثر بيوت دمشق حمامات. ويعود أقدم هذه الحمامات الى أكثر من 900 سنة. وكانت النساء في الأعراس تدعى الى الحمام حيث ترافق العروس الشموع والزغاريد والغناء وتوضع لها الحناء والخلطات الشعبية المؤلفة من العسل واللبن، اضافة الى خلطات ماء الورد. وتلبس العروس فوطة مقصبة ولها "بقجة" تحوي مناشف جميلة ومشط سن السمك وطاسة من الهند أو مكة. وكانت زيارة الحمام فرصة لتبادل الأحاديث والأخبار والشائعات بين النساء بعيداً من رقابة الرجال. كما كان حمام السوق فرصة لانتقاء عروس للأخ أو الابن من بين المستحمات أو المدعوات الى العرس. واليوم تقصد النساء الحمام للتسلية وتمضية "الصبحيات" والاجتماع على الطعام كالمجدرة والمخلل و"حراق أصبعه" و"التبولة"، وهي أكلات دمشقية مشهورة. وتذهب الصبايا الى الحمام لعمل "السونا والمسّاج" والتسلية مع الصديقات والتمتع بأجواء الحمام التراثية الحميمة. وفيما كان حمام النساء قديماً يبدأ ظهراً ولا ينتهي إلا في المغيب، أصبح اليوم عدد قليل من الحمامات يستقبل النسوة في ساعات محددة من اليوم هي ثلاث ساعات يومياً وفي أيام محددة من الأسبوع. وسرت قديماً خرافات تتعلق بحمّامات السوق تروي انها "مسكونة" بالجن. ولم يجرؤ أحد على النوم في قسم الحمام الداخلي "الجواني" خوفاً من ظهور الجن فيه ليلاً. وكانت الجدّات تروي قصصاً عن رؤية مغتسلين على هيئة بشر وأقدامهم حوافر ماعز وحمير وغيرها من الخرافات التي قل شيوعها، لكن ما زالت الرهبة منها موجودة. تعد الحمامات الدمشقية اليوم من أهم المعالم الأثرية في مدينة دمشق ويقصدها السياح الأجانب للتعرف عليها والاستحمام فيها. وكان في دمشق في مطلع القرن الماضي 260 حماماً هدم الكثير منها وأغلق ولم يبق سوى القليل شاهداً على فن العمارة وعلى مظاهر الحياة الاجتماعية التي سادت منذ أكثر من تسعة قرون.