لعلّ أنسي الحاج بين أقلّ شعراء جيله ضجيجاً على ساحة الحداثة العربيّة. لعب دوره التأسيسي، ثم انسحب إلى عزلة الشعراء تاركاً لآخرين أن يحتلّوا مواقعهم فوق المنابر وفي المحافل الرسميّة. لم يتآلف صاحب "لن" مع الخطابات الديماغوجيّة، ولم يمتهن المزايدات الايديولوجيّة، بل أضرم النار في جسد القصيدة المثقلة ببهارجها، المكبّلة بأشكالها المستعادة. خرّب أنسي الحاج اللغة ومشى. لكنّ قرّاء الشعر ونقّاده ودارسيه ومؤرّخيه وأهله، يعرفون ما يدين به الوعي الشعري العربي إلى صاحب "لن" 1960 الذي شكّلت مجموعته الأولى تلك مفترق طرق حاسماً بين مرحلتين وزمنين في تاريخ القصيدة الحديثة. فهو شرّع آفاقاً جديدة لم يكن يتّسع لها القول، واستكشف أقاليم عذراء لم تتجرّأ عليها المخيّلة الجماعيّة من قبل. ومن معطفه خرجت قصيدة النثر التي ما زالت حتّى اليوم تتخبّط في محيط هائج من النزعات المحافظة التي ترفض أن تعترف بشرعيّتها وحقّها في الوجود. ولم يعبأ الشاعر اللبناني الذي كان أحد شركاء مغامرة "شعر"، بما يقتضيه موقع الريادة من سياسة تسويق وترويج ودعاية، وهذا يبرّر التأخير في ظهور أنطولوجيا شعريّة له في لغة أندريه بروتون الذي كان الحاج أحد أبرز معرّبيه ومقدّميه إلى قرّاء الضاد، كما هو الأمر بالنسبة إلى أنطونان آرتو وآخرين. وظهور الأنطولوجيا اليوم عن دار "أكت سود" المرموقة، ضمن سلسلة الآداب العربيّة المعاصرة التابعة ل "سندباد" التي يشرف عليها فاروق مردم بك، يشكّل حدثاً ثقافيّاً على الساحة الشعريّة. أشرف على الأنطولوجيا الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي، وريث المدرسة السورياليّة الذي يُعتبر بدوره من المشاغبين البارزين على الخريطة الثقافيّة العربيّة. جمع الجنابي، وهو أحد أشرس المدافعين عن تجربة أنسي الحاج، قصائد مختارة من مختلف مجموعات الشاعر، مستثنياً قصيدته الطويلة "الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع" 1975 التي يرى ضرورة ترجمتها كاملة في كتاب مستقلّ يصدر في المستقبل. بعض قصائد الكتاب مترجمة سابقاً على يد ناديا تويني، لور غريّب، فينوس خوري غاتا... وبعضها الآخر ترجمه خصيصاً للأنطولوجيا كل من جوزيف زعرور، إيرين موصلّي، دانيال صالح، محمد الغلبزوري، إلهام عبدالنور، إضافة إلى الجنابي نفسه. وقدّم الشاعر للكتاب بنصّ متدفّق وغير محايد، كاشفاً للقارئ الفرنسي الدور الذي لعبه أنسي الحاج، "وعي المرحلة الشقي"، في سياق حركة الشعر الحديث. والجدير بالذكر أن دار "أكت سود" أصدرت أخيراً ضمن سلسلة "سندباد"، المتخصّصة بالعالم العربي والاسلامي، ترجمات عدّة منها حوارات مع محمود درويش، "طقوس الاشارات والتحوّلات" لسعدالله ونّوس، "بيضة النعامة" لرؤوف مسعد، وتستعدّ لاصدار "بناية ماتيلد" لحسن داوود.