"لا يهتم الرئيس ياسر عرفات عادة بالتفاصيل" هكذا يقول المفاوضون الاسرائيليون الذين فاوضوا الفلسطينيين طويلاً. ويضيفون انه بدا على الدوام أقل اهتماماً بالتفاصيل الدقيقة وأشد حرصاً على بناء علاقة مفعمة بالثقة مع القادة الاسرائيليين. ولا بد ان نظام اتفاق المرور الاسرائيلي الذي تبلغ كلفته عشرات الملايين من الدولارات وتطلب تنفيذه مصادرة 16 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين يعد جزءاً من تلك التفاصيل التي تقض مضجع الرئيس الفلسطيني. ففي اعقاب الانتخابات الاسرائيلية التي اسفرت عن فوز بنيامين نتانياهو بدأ يتكشف لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ما ينطوي عليه اعلان الموافقة على شبكة انفاق المرور الاسرائيلية. وقد تلقى شرحاً وافياً لتلك الأبعاد من كبير مستشاريه الجغرافيين خليل توفقجي وهو أحد الفلسطينيين القلائل الذين درسوا سياسة اسرائيل وبراعتها في خلق حقائق على الأرض. وكشف المستشار الفلسطيني خريطة لشبكة أنفاق مرور تبنيها اسرائيل في نطاق خطتها الرامية الى سحب قواتها من المدن الفلسطينية الكبيرة. وكان عرفات وافق على اطلاق يد اسرائيل في خطط البناء استجابة لطلب من رئيس الوزراء السابق اسحق رابين. وتظهر شبكة الانفاق مظللة بالألوان الأحمر والأصفر والأزرق في خريطة للضفة الغربية عرضها توفقجي، وهي ذاتها الخريطة التي اعتمدها اتفاق اوسلو الثاني وتقسم فيها الضفة الغربية الى مناطق سيطرة فلسطينية المنطقة أ والاسرائيلية المنطقة ج ومختلطة المنطقة ب. وقال أحد المشاركين في الاجتماع الذي قدم فيه المستشار ايضاحاته إلى عرفات ان الرئيس الفلسطيني استشاط غضباً بعدما أوضح له مستشاره كيف تحيط الشبكة المتوسعة بالمنطقة أ، وكيف تنشئ شبكة نقل دائمة لتسهيل نمو المستوطنات اليهودية البالغ عددها 140 مستوطنة يقيم فيها 150 ألف يهودي. وتبدو نابلس ورام الله محاطتين من كل الجوانب بطرق جديدة تبنيها اسرائيل لربط مستوطناتها بعضها ببعض بما يضمن أمنها واتصالها بالدولة العبرية. أما بيت لحم التي تعوق نموها شمالاً مستوطنات القدسالمحتلة، وجنوباً توسيع مستوطنة ايفرات، فيحيط بها من الشرق طريق جديد. اما الى الغرب منها فثمة طريق مقترح يمر بالمناطق الشرقية من الضفة الغربية حتى مدينة أراد الاسرائيلية. وتحيط الطرق بمدينة الخليل من ثلاثة جوانب. وتحاصر الشبكة ايضاً بلدة قلقيلية ولم تنج من هذا الحصار سوى طولكرم وبلدة جنين اللتين لا توجد فيهما مستوطنات يهودية تذكر. أهداف الشبكة وتهدف شبكة الانفاق الاسرائيلية إلى تحقيق ثلاثة أغراض أساسية: - ربط شبكات الطرق الحديثة التي تبنيها اسرائيل في الضفة الغربية بشبكة النقل المتطورة. - تسهيل انتقال المستوطنين بين المستوطنات ومن اسرائيل واليها. - ابقاء الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية معتمدين على شبكة الطرق القديمة التي لم تشهد صيانة منذ العام 1967. ويعد الطريق السريع الرقم 70 اهم فروع شبكة المرور الجديدة، وسيشيد طريق بحلول العام 1998 حول مدن رام الله وطولكرم ونابلس وأريحا والخليل. ويبدأ من بلدة أراد الاسرائيلية ويمر بالعفولة في شمال الضفة الغربية. ومن أراد ينحدر الطريق السريع الجديد شمالاً ليمر بمحيط الخليل الى مجموعة مستوطنات اتسيون حيث ستربطها الشبكة الجديدة ببقية المستوطنات. ومن هناك يستمر الطريق الجديد شمالاً محاذياً لطريق سريع أنجز حديثاً، وتتخلله انفاق وجسر يعبر بيت لحم وبيت جالا، ليربط مستوطنة اتسيون بمستوطنة جيلو شرق القدس. اما القدس نفسها فتشهد تحولات كبيرة لجهة شبكة الطرق الخاصة بها. وتتضمن خطة أقرها رابين قبل اغتياله بناء حزام من الطرق حول القدس، وطرق جديدة تربط بين جميع المستوطنات في القدس الكبرى من معالي ادوميم شرقاً حتى جيفات زئيف شمالا. ويمر الطريق السريع الرقم 60 برام الله والبيرة في الشرق ليسهل الوصول الى مستوطنات أوفرا وشيلو وايلي. وسيمر الى الشرق من مخيم بلاطة للاجئين ومدنية نابلس، وسيمر على مبعدة من جنين لتكون نهايته في العفولة. وتعتبر الحكومة وقوات الجيش ان تشييد هذه الشبكة من الطرق والانفاق بكلفة كلية تصل الى 330 مليون دولار عنصر حيوي لخطة اعادة نشر القوات الاسرائيلية وسحبها من مناطق السكان الفلسطينيين. وأوضح مصدر عسكري اسرائيلي كبير ان تنفيذ الخطة الخاصة بالطرق يمضي بجدية شديدة"، وسيتيح ذلك للجيش السيطرة على كل المواقع والطرق الاستراتيجية بعد الانسحاب"&. وكشف ان الخطة تنص على عدم السماح لسيارات الفلسطينيين بالمرور في تلك "الطرق الاستراتيجية". والواقع ان الفلسطينيين يستخدمون أصلاً هذه الطرق على رغم بعدها عن مدنهم، لأنها توفر وصولاً أكثر سلامة للمناطق المحيطة بالضفة الغربية. خطة قديمة وفيما تتمسك اسرائيل حالياً بتصوير هذه الشبكة من الطرق والانفاق باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر عملية السلام، فإنها تعود بجذورها الى وقت يسبق ذلك بكثير وكانت لها أهداف مختلفة تماماً. إذ ان الاسرائيليين فتحوا هذا الباب منذ انشاء الدولة وبعد بدء بناء شبكة الطرق القديمة في مستهل السبعينات، باعتبار ذلك حيوياً لتوسيع الوجود العسكري والمدني الاسرائيلي في جميع أرجاء الضفة الغربية. ونشرت في شباط فبراير 1984 خطة تتعلق بانشاء الطريق السريع الرقم 50 ليشمل الضفة باسرها. وكان للمستوطنين اليهود دور كبير في التوصل الى الخطة التي فشل الفلسطينيون في عرقلتها على رغم نقلهم اعتراضاتهم عليها الى المحكمة العليا في اسرائيل. ويقول الخبير في شؤون الاستيطان الاسرائيلي ميرون بي فنيستي ان تلك الخطة كانت جزءاً من سياسته معلنه تهدف الى "ايجاد ظروف ملائمة تساعد على تطوير المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية سريعاً". وكان المحامي الفلسطيني رجاء شحادة ذكر آنذاك ان الخطة تعتبر أهم تطور في سياق مواصلة السياسة الاسرائيلية الرامية الى ضم الأراضي المحتلة. ونشرت حركة "السلام الآن" الاسرائيلية في 1991 تقريراً انتقد حكومة رئيس الوزراء السابق اسحق شامير على تخطيطها انشاء شبكة من الانفاق لربط المستوطنات اليهودية باسرائيل. وهي الخطة التي اعيد العمل بمعظمها في مخطط انشاء الطريق السريع الرقم 50. وقالت الحركة ان الهدف من تلك الشبكة "ايهام مستخدميها بأن الخط الأخضر تلاشى وأنه لم يعد هناك سكان عرب في المنطقة". وفي نيسان ابريل 1992 أعلنت وزارة الانشاء في حكومة شامير ما سمته "خطة الطرق الكبرى"، ونادت فيها ببناء طرق يصل طولها الى اربعمئة كيلومتر في انحاء الضفة الغربية. وتشمل طرقاً التفافية حول الخليل وحلحول ونابلس ورام الله. وعقب تغير الحكومة في تموز يوليو 1992 عمد رئيس الوزراء رابين الى الغاء 10 من تلك المشاريع في نطاق ما سماه "تغيرات في ترتيب الأولويات الوطنية". غير ان بعض تلك المشاريع استؤنف بطريقة سرية. وبموجب الاتفاق الخاص بسحب القوات من الضفة الغربية حصلت اسرائيل على تعهدات تتيح لها اعتبار شبكة الطرق المشار اليها أداة لتحقيق الصلح المنشود مع الفلسطينيين. ونتيجة لذلك تلاشت اثر توقيع اتفاق اوسلو الثاني جميع القيود التي كانت تحول دون مصادرة الأراضي الفلسطينية لهذا الغرض. ويقول المستوطن اليهودي يوئيل بنون ان مصلحة المنادين ببقاء المستوطنات تكمن في انشاء تلك الشبكة، باعتبار ان افضل الطرق لتحقيق بقاء المستوطنات يتمثل في "زيادة أمنها اليومي وربط المستوطنات بعضها ببعض". حدث بارز وشهد اليوم الثاني من ايلول سبتمبر الماضي حدثاً بارزاً في سياق التوسع الاسرائيلي في الضفة الغربية، إذ دشن المسؤولون الاسرائيليون يومذاك طريقاً جديداً بين القدس والمستوطنات الواقعة في الضفة الغربية الى الجنوب من القدسالمحتلة. ويعتبر الطريق الذي يبلغ طوله 12 كلم وكلف انشاؤه 43 مليون دولار الطريق الأكثر كلفة في الدولة العبرية منذ انشائها. وتبين بعد السنوات الخمس التي استغرقها بناؤه ان مستوطنات منطقة اتسيون اضحى الوصول اليها سهلاً كأنها احد أحياء القدسالمحتلة. وكان فتح ذلك الطريق حدثاً كبيراً بالنسبة الى المستوطنين الذين كثيراً ما عانوا من اضطرار القوات الاسرائيلية مراراً الى اقامة نقاط تفتيش وحواجز أمنية على الطريق الفرعي الصغير القديم للحيلولة دون السماح للفلسطينيين بالعبور الى اسرائيل. ويبلغ عدد سكان تلك المستوطنات نحو 12 ألفاً. وأسفر فتح هذا الطريق عن خفض المدة التي تستغرقه الرحلة بين جنوبالقدسالمحتلة ومستوطنة ايفرات الى أقل من 15 دقيقة. وهو يخدم بلا شك أغراض التوسع السكني والتجاري في المستوطنات الممتدة من اتسيون حتى الخليل. وعندما نشبت احداث العنف في ايلول الماضي حرمت السلطات الاسرائيلية الفلسطينيين من استخدام هذا الطريق. ويدل حرصها على تأمينه إلى انها ترغب رغبة دفينة في ضم تلك المنطقة من الضفة الغربية اليها. وكان القرار الأصلي الخاص بانشاء ذلك الطريق قد اتخذ في منتصف الثمانينات لكن العمل فيه بدأ العام 1990 عندما كان ارييل شارون وزيراً للانشاء. وأشرفت حكومة نتانياهو الحالية على اكماله. وقال شارون ان الطريق "يؤكد عملياً ان مستوطنة اتسيون ستبقى جزءاً من دولة اسرائيل".