الذكرى السنوية الثالثة لاتفاق اوسلو تكاد تخلو من اي مظهر من مظاهر التقدم في عملية السلام على المسار الفلسطيني - الاسرائيي، الى درجة اصبح معها الاتفاق ينازع الحياة، ويخنق الفلسطينيين في كانتوناتهم ويضع القيادة الفلسطينية في مواقع صعبة، ويجعل خياراتها في السلام تتراجع، واحتمالات الحرب امامها ماثلة، فالرئيس ياسر عرفات حين افتتح العام الدراسي في مناطق السلطة الوطنية دعا الطلاب الى التحلي بروح المقاومة، والتمسك بالأرض كما بالسلام، وتختصر هذه الاشارة الى حد كبير واقع عملية السلام وآفاق المرحلة المقبلة، لا سيما بعدما تكشفت نيات حكومة الليكود تجاه السلام واصبحت مقولة شمعون بيريز "لقد سرقنا اربع سنوات من التاريخ" في غير سياقها اذ عاد التاريخ الى رتابته السابقة، واصبح اسحق شامير حاضراً بعقلية المماطلة التي انذر بها عملية السلام لعشر سنوات مقبلة، حتى يتمكن خلفاؤه من ابتلاع ما تبقى من الارض الفلسطينية، واستكمال طوق الكانتونات، وكل ذلك تحت ضربات الحصار الاقتصادي الذي حوّل مناطق السلطة الوطنية الى مناطق منكوبة. لقد تحول اتفاق اوسلو على يد حكومة نتانياهو الى مجرد روزنامة سياسية تجري اعادة ترتيبها وفقاً لجدول الاعمال الاسرائيلي، المتمثل ببناء القدس الكبرى، واستكمال المعازل للفلسطينيين، بحيث لم يعد الاتفاق اتفاق سلام بين شعبين او حكومتين، بل اصبح عبارة عن موضوعات اشكالية تتعلق بقضايا حياتية وادارية تخص الجانب الفلسطيني، ولاسرائيل كل الحق في حلها او عدم حلها، وفق رؤيتها الخاصة. ويجمع الفلسطينيون، على اختلاف مواقعهم ومشاربهم، على تجاوز القول ان السلام اصبح غائباً، وعملية السلام غرقت في البحر. فالجولات الماراثونية التي عقدها محمود عباس وصائب عريقات مع مستشاري نتانياهو اضافة الى اللقاءات السرية وشبه السرية التي ترعاها الحكومة النرويجية، وممثل الاممالمتحدة في مناطق السلطة الفلسطينية تيري لارسون لم تسفر حتى الآن عن اي تقدم. فالحكومة الاسرائيلية تريد اعادة هيكلة اتفاق اوسلوا ووضعه في مسارات تختلف عن المسارات التي كانت حكومة رابين وبيريز تسوقه فيها، كذلك تريد تقطيع الاتفاق وتحويله الى موضوعات جزئية، لتتجنب دفع الاستحقاقات المتراكمة من الحكومة السابقة والمترتبة على الحكومة الحالية، وبهذا الصدد قال الوزير فريح ابو مدين ل "الوسط": "الخطة الاسرائيلية للتفاوض مع الفلسطينيين تقوم على مفهوم العلاقات العامة او اللقاءات التشاورية، بعيداً عن طاولة المفاوضات وجداول الاعمال. لذلك يعتبر ابو مدين ان "لا وجود لأي عملية تفاوضية بالمطلق، هناك لقاءات تكرر اسرائيل فيها نفسها، وكل ما هو مطروح اليوم علينا من قبل اسرائيل هو فتح بطن الاتفاق، واخراج احشائه لنقوم باعادة ترتيبه وفق استراتيجيات حكومة نتانياهو، بدءاً من موضوع الخليل الذي تريد اسرائيل اجراء عملية جراحية في قلبه بحيث يبقى دموياً، ليقود الى عمليات عنف وعنف مضاد". اما الدكتور حيدر عبدالشافي عضو المجلس التشريعي الفلسطيني فيعتبر ان حكومة نتانياهو "ابتلعت السلام، وكل ما هو توسيع عمليات الاستيطان، وهذا يعني انهاء عملية السلام، لذلك على السلطة الوطنية الفلسطينية ان تقف وتعلن للشعب الفلسطيني والعالم ان لا وجود لعملية السلام، وعليها ان تبحث عن خيارات اخرى بالتشاور مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية في الشارع الفلسطيني لبحث سبل مواجهة المرحلة المقبلة". ويرى الدكتور محمود الزهار الناطق الرسمي باسم حركة حماس في غزة ان "اتفاق اوسلو كان مضيعة للوقت، فعدا كونه يمر بمأزق كما يصفه اصحابه حزب العمل والسلطة الفلسطينية، فهو ساهم في تفكيك الحالة الفلسطينية، ووضع الشعب الفلسطيني على حافة المواجهة اكثر من مرة، كتلك المواجهات التي حصلت في طولكرم ومسجد فلسطين". ويضيف الزهار ان عملية السلام وصلت الى مرحلة تشكل فرصة مناسبة للجميع ليراجعوا حساباتهم، لأن الاتفاق كان في الحقيقة اتفاق أمن لاسرائيل، اذ جرى ايهام الناس بأن القضية الفلسطينية حُلت، وان الانتعاش الاقتصادي آت، وغزة ستصبح هونغ كونغ جديدة، غير ان كل ذلك تبخر، وينظر الزهار الى خطورة الاتفاق كونه افرز فئة من الشعب الفلسطيني تدافع عن مصالح اسرائيل، وأخرى تدافع عن مصالح الشعب. والصراع الآن يدور بين من يدافع عن مصالح اسرائيل ومن يدافع عن مصالح الشعب، فبعد ان كان الشعب موحداً في مواجهة اسرائيل، اصيبت هذه الوحدة بالكثير من الشروخ. وعن تصوره للخروج من المأزق الراهن يدعو الزهار الى ضرورة "اعادة بناء البيت الفلسطيني على اسس وطنية شاملة تضمن حق الشعب الفلسطيني، وتحافظ على مصالحه العليا بعيداً عن المصالح الضيقة لهذا الفريق او ذاك". قمة عرفات نتانياهو وعلق الجانب الفلسطيني آمالاً على لقاء عرفات - نتانياهو، غير ان الرئيس الفلسطيني لم يقبل ان يدفع ثمن هذا اللقاء من سلته التي لم يبق فيها الكثير، فهو سعى اولاً الى الحفاظ عن الكرامة الوطنية التي تتجاوز شخصه، لتطول الشعب الفلسطيني، واللقاء مع نتانياهو وضع له شروطاً اساسية تفرض على الحكومة الاسرائيلية ورئيسها تنظيف طاولة المفاوضات من الملفات المتراكمة، بدءاً من ملف الخليل والاستيطان والقدس مروراً باستحقاق الانسحاب الاسرائيلي من المناطق ب وج وانتهاء بالتحضير الجدي لمحادثات المرحلة النهائية. لكن هل لدى اسرائيل ورئيس حكومتها الاستعداد لذلك؟ يجيب الوزير أبو مدين على هذا التساؤل قائلاً: "اللقاءات التي تمت بين أبو مازن وصائب عريقات ومستشار نتانياهو دوري غولد الذي يعتبره الوزير الفلسطيني وزير خارجية نتانياهو، لم تؤد الى اي شيء، حتى على صعيد القضايا الثانوية. فاسرائيل تطلب الآن اعادة التفاوض على كل الاتفاقات، من مدريد الى اليوم، فهي تريد في الحقيقة تفريغ القدس من محتواها الحضاري والبديني وتحويل القدسالشرقية الى مجرد حي عربي كما هو حال الاحياء العربية في حيفا او الرملة او الجليل، كما انها تريد تضخيم المستوطنات وتكثيف المستوطنين فيها من اجل بوسنة وهرسك جديدة". ويضيف الوزير الفلسطيني قائلاً: "هناك ما يقارب 300 ألف مستوطن في الضفة الغربيةوالقدس ينتظرون لحظة الصفر، ليشكلوا جيش الكيان الاسرائيلي في الضفة الغربية. انهم ميليشيا الحرب المقبلة بين الاسرائيليين والفلطسينيين، وسيلقى على عاتقهم تكريس دولة يهودا والسامرة كما تسميها اسرائيل في الضفة الغربية، فالسياسة الاستيطانية الاسرائيلية تهدف الى وضع الفلسطينيين امام خيارين: أما القبول بوضعية الكانتونات او ان يتجهوا الى العالم العربي ويعيشوا هناك، ولا يستبعد ان يقوم المتطرفون الاسرائيليون بنسف المسجد الاقصى خلال عام او عامين، لأن التربة مهينة لذلك، فالذي يقتل زعيماً قومياً كرابين ما الذي يمنعه او يردعه عن تفجير المسجد الاقصى". هل يستجيب الطرف الفلسطيني للمطالب الاسرائيلية الراهنة باعادة فتح الاتفاق؟ من الواضح ان السلطة الفلسطينية على رغم الضغوط التي تعاني منها جراء تجميد عمليات السلام، لا تميل الى الموافقة على المطالب الاسرائيلية فهي تحاول جاهدة التمسك باتفاقيات اوسلو على رغم ما فيها من اجحاف، لأنها تدرك ان الرجوع خطوة الى الوراء سيكلفها الكثير اقله ان تتحول الى شرطة محلية تحمي اسرائيل، وهذا ما ترفضه السلطة في المطلق، غير انها لا تريد الوقوع ايضاً في فخ الانسحاب من الاتفاق او الاستفزاز الذي يريد نتانياهو ان يوصل الرئيس عرفات اي ان يغادر مناطق السلطة ويستقر في عواصم اللجوء العربية. خيار الانتفاضة وبات رجل الشارع الفلسطيني يسلم بموت السلام، هذا الموت الذي بدأ يلقي بظلال الشك على كل ما هو قائم حوله، الى درجة اصبح معها الكثير من الفلسطينيين يشعرون بالحنين الى ايام الانتفاضة على قسوتها ومرارتها باعتبار انها كانت تحمل الامل، ولو كان بعيداً، بخلاف السلام المتحقق او ما تحقق منه لأنه يثير في نفوسهم حصار الجوع والبطالة، وبعض المظاهر التي لم يعتادوا على معايشتها، فهل ينتفض الفلسطينيون من جديد؟ وكيف؟ لقد انتفضوا في السابق ضد الاحتلال حين كانت منظمة التحرير خارج اسوار الوطن، اما اليوم فمنظمة التحرير ورئيسها معاً على ارض الوطن، فهل يخرج الشعب والسلطة سوياً لنعي السلام؟ لا يبدو ذلك ممكن التحقق على المدى المنظور، والانتفاضة او العمليات العسكرية وبالذات الانتحارية منها قد لا تعود في القريب العاجل، غير ان موت السلام سيدفع الفلسطينيين الى ابتداع شكل آخر من اشكال المواجهة مع اسرائيل. لكن، وكما يقول ابو مدين، ان الشعب الفلسطيني لا يتحرك ب "الروموت كونترول"، ولا يستبعد ان تشهد الاراضي الفلسطينية دورات عنف هذا العام او العام المقبل. ويعترف بأن الدعوة الى الاضرابات والاحتجاجات لن تغير من الامر شيئاً، لكنها ناقوس خطر يدقه الرئيس عرفات لكي يسمعه الجميع فاذا لم تحل القضية الفلسطينية، ولم يستطع اتفاق اوسلو ايصال الشعب الفلسطيني الى حقوقه، فالاحتلال الاسرائيلي خير من السلام بالشروط الاسرائيلية الراهنة، التي تنعى اتفاق اوسلو في ذكراه الثالثة.