الأحداث التي شهدتها مدينتا نابلس وطولكرم في الضفة الغربية، وما تلاها من تفاعلات على اكثر من صعيد ومستوى، قدمت درساً للجميع يجب الاستفادة منه، وفتحت في المقابل اجندة طويلة من القضايا الكبرى على مختلف المستويات. فما الذي حدث في نابلس وطولكرم؟ وكيف تمت معالجته والسيطرة عليه، وما السبيل والضمانة لمنع تكراره لأن ما حدث وعطل المقاييس والحسابات هو نكسة للمشروع الوطني الفلسطيني، وضربة قد لا تكون قاسية جداً، لكنها مؤلمة للتجربة الديموقراطية، التي يعمل الشعب الفلسطيني على تكريسها بكل ما أوتي من قوة، لتكون ناظمة لحياته السياسية الراهنة والمستقبلية، كسلطة وقوى سياسية وشعب. عند التوقف أمام الاحداث وقراءتها قراءة متأنية وموضوعية، تظهر مجموعة من العوامل المتداخلة والمركبة التي اسهمت في وقوع الاحداث وردود الفعل عليها، للعمل على معالجتها لاحقاً واستخلاص العبر منها. المسألة بالتأكيد تتجاوز واقعة مقتل شاب بعد عملية التعذيب الوحشي التي تعرض لها على ايدي افراد احد الاجهزة العاملة في مدينة نابلس، لأن هذه الواقعة هي الحادثة الثامنة لمقتل مواطنين على أيدي افراد بعض الاجهزة الامنية منذ قدوم السلطة. وقد لا تكون الاخيرة، رغم كل الاجراءات التي تتخذها السلطة لضبط عمليات التحقيق، وردود الفعل على عمليات القتل تلك وما تسببه من احراج وضغوط على السلطة الوطنية، من قبل الشارع الفلسطيني ومنظمات حقوق الانسان والدول المانحة. وكيفية تجاوز مقتل الشاب يجب ان تفهم في اطار اعتبار ما حدث جريمة بحق مواطن تم ارتكابها من قبل اشخاص يعملون في اجهزة السلطة وجرت معاقبتهم عبر محكمة سريعة تمت بناء على تعليمات من الرئيس عرفات، الذي يدرك جيداً وأكثر من غيره خطورة ما حدث والأبعاد المترتبة عليه. غير ان احداث نابلس وطولكرم كشفت بشكل واضح عن الازمات الحادة المتراكمة التي افرزتها تجربة العامين الماضيين من عمر السلطة الوطنية في ادارة السلطة والمجتمع. وهذه أزمات تتموضع في ثلاثة مفاصل رئيسية: المفصل الأول: أزمة بنية السلطة التي تمت عمليات بنائها وتركيبها بطريقة أدت الى تضخم اجهزتها الامنية التي تفوق حاجاتها الموضوعية الى حد باتت تشكل عبئاً على السلطة نفسها، وتولد لها العديد من الارباكات والاحراجات، لا بل انها تضعها في مآزق دقيقة وخطيرة، كالأزمة التي شهدتها احداث جامعة النجاح منذ فترة قصيرة، كذلك مقتل الشاب محمود اجميل وما تلاها من ردود فعل وتظاهرات شعبية واسعة، تمت السيطرة عليها وضبطها، لا بفعل قوة الاجهزة الامنية، بل بفعل ادراك الجميع خطورة تطورها وامتدادها، والكوارث التي يمكن ان تنتج منها، وبالذات الرئيس عرفات الذي يدرك دقة هذه المرحلة وما تشهده عملية السلام من انكماش وجمود في تطبيق الاتفاقيات الفلسطينية - الاسرائيلية، في عهد حكومة ليكود التي اطلقت حملة استيطانية واسعة تهدد الفلسطيني ككل، كما يدرك الرئيس عرفات حجم الصعوبات والمخاطر المحيطة به في هذه المرحلة. قوة الأجهزة ولئن كان الجميع يقر بضرورة وجود اجهزة امنية فاعلة ومنظمة تحمي الأمن الداخلي والخارجي للوطن والمواطن. وتعمل وفق القانون وتراعي بدقة حقوق الانسان واحترام حق المواطنة، فإن ذلك لا يعني ان يصل الاقتناع لدى بعض الاجهزة الأمنية او بأفرادها الى حد فرض سياستها بالقوة من خارج اطار القانون لتؤكد وجودها وفاعليتها وقدرتها على المنافسة. والمتتبع للحركة العامة للشارع الفلسطيني يلمس بوضوح شدة الانتقادات التي تنهال على بعض الاجهزة الامنية وممارساتها، سواء داخل أروقة السلطة نفسها او في المجلس التشريعي الذي أمضى جولات طويلة في مناقشة هذه القضية وما ينتج منها في الشارع العام. وبهذا الصدد اعترف مسؤول أمني رفيع المستوى في السلطة الوطنية بوجود العديد من التجاوزات التي ترتكب بحق المواطن، ولكنه أصر على ان تلك التجاوزات لا تشكل منهجاً عاماً بقدر ما هي تعبير عن سلوك فردي شاذ. وشدد ذلك المسؤول على العقوبات التي تقع بحق المخالفين من أفراد جهاز الأمن. المفصل الثاني: الازمة الخانقة التي تعيشها عموم قطاعات الشعب الفلسطيني، جراء الضغوطات العالية التي يتعرض لها بفعل الازمات المركبة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والناتجة من سياسات الحصار الاقتصادي المفروض منذ ما يزيد على ستة اشهر على مناطق السلطة الفلسطينية والتفاعلات التي يولدها الحصار على مختلف الأصعدة. وكذلك موقف حكومة ليكود من استكمال عملية السلام التي جعلت المواطن الفلسطيني يشعر بأن السلام لم يقدم اليه اي انجازات، لا على الصعيد الفردي ولا على الصعيد الوطني. فالفلسطينيون كسلطة ومواطنون محاصرون في جزر وكانتونات معزولة، والوضع الاقتصادي يزداد تردياً يوماً بعد يوم، والآفاق العامة مسدودة. والاستيطان يقضم ما تبقى من الاراضي الفلسطينية. وهذه العوامل اضافة الى الضغوطات الاسرائيلية المرئية وغير المرئية على السلطة الفلسطينية، وضعت الجميع في حالة توتر شديد قابل للانفجار نتيجة اي حدث مهما كبر او صغر. السلطة والمعارضة المفصل الثالث: ضمور العلاقات الديموقراطية بين السلطة والمعارضة وضعف روح التعاون وسيادة عقلية المقاطعة، التي لا تزال سارية منذ قدوم السلطة الى الاراضي الفلسطينية. والحقيقة ان معادلة السلطة والمعارضة في الحياة السياسية الفلسطينية لا تزال معادلة مقلوبة حتى هذه اللحظة، يغلب عليها طابع التوتر والقلق والمواجهة ومحاولات النفي. وهذا بحد ذاته ولد مناخات سياسية قابلة للانفجار في اي لحظة، فالسلطة تعمل بكل ما أوتيت من قوة لضبط الوضع العام داخل حدودها، عبر فرض سيطرتها وتأكيد هيبتها وقدرتها على احترام تعهداتها والتزاماتها تجاه الجانب الاسرائيلي، وهذا حق لها. الا ان الطريقة التي تتبعها لتحقيق ذلك تحمل مخاطر كبيرة على السلطة الوطنية نفسها كما على المعارضة. وجانب الخطورة على السلطة يتمثل في تركيز جل اهتمامها وفعلها على الجانب الامني معتقدة انها بذلك تبطل كل الحجج الاسرائيلية وتستطيع في الوقت نفسه الحفاظ على مشروعها السياسي بعيداً عن اي تهديدات داخلية يمكن ان تقوم بها المعارضة لأسباب مختلفة. وعلى الجانب الآخر تجد المعارضة لأسباب مختلفة. وعلى الجانب الآخر تجد المعارضة ولا سيما الاسلامية نفسها في مواضع ضعيفة مما يجعل مشروعها السياسي مهدداً برمته، لا بل ان بعض قوى المعارضة، بات يشعر بأن وجوده كحركات سياسية مطروح للتصفية في ساحة الفصل السياسي الفلسطيني. وهذا ما يدفع تلك القوى الى ابتداع العديد من اشكال الصراع والمواجهة للحفاظ على ذاتها وعلى مشروعها السياسي في مواجهة مشروع السلطة الفلسطينية. لذا تلجأ الى استغلال اي اخطاء ترتكبها السلطة سواء كانت اخطاء منهجية او فردية لتنفذ من خلالها الى الشارع الفلسطيني الذي يعاني من احباطات شديدة. التربة الخصبة ضمن إطار المفاصل الواردة اعلاه يمكن فهم الاحداث التي وقعت في كل من مدينة نابلس وطولكرم. فالشارع الفلسطيني بات يرفض بشدة، ان يهدر دم ابنائه نتيجة حماقات فردية. كما لم يعد يحتمل بقاء ابنائه، وبغض النظر عن هويتهم السياسية، في سجون السلطة من دون محاكمة او تهمة واضحة، وهذا خلل تتحمله السلطة الفلسطينية، اذ كان بامكانها الا تضع نفسها في هذا الموضع وخصوصاً انها تدرك كسلطة انها ليست اللاعب الوحيد وهي تستغل اداء السلطة وأخطاءها لتدفع بها الى واقع الضعف تهيئة للانقضاض عليها. هذه الاطراف الخارجية لا توفر وسيلة للوصول الى هذا الهدف بما في ذلك التحالف الباطني مع بعض اعضاء المعارضة لزعزعة استقرار المجتمع الفلسطيني، فماذا تخسر السلطة الوطنية الفلسطينية اذا عملت على انتزاع كل الاسلحة من ايدي خصومها وأعدائها، عبر تطبيقها روح القانون بشفافية عالية وقيامها باجراء المحاكمات لكل متهم واطلاق سراح من لا تثبت عليهم التهم؟! ان ذلك لن يكلف السلطة الكثير، وهو سيمنحها عوامل القوى والمنعة، ويضع كل خصومها في موضع الفراغ السياسي. غير ان كل ما نلمسه ونراه حتى هذه اللحظة هو استمرار السلطة في توفير التربة الخصبة لخصومها لكي ينموا ويكبروا، وهي بذلك تمنحهم اسلحة القوة في مواجهتها، ان لم يكن اليوم ففي الغد. وفي الوقت نفسه اخذت علاقة السلطة بالشارع الفلسطيني بالاختلال، وهذا ما يعمل في اندفاع الشارع باتجاه المعارضة ومؤازرتها والوقوف الى جانبها. هذه الحقيقة بات الجميع يدركها كما يقول مصدر اعلامي فلسطيني مطلع: "فالناس ليست مع المعارضة التي فقدت العديد من اوراق قوتها، غير ان اداء السلطة الخاطئ في بعض المواضع هو الذي يدفع الناس الى احضان المعارضة، ليس بوصفها حامية للمشروع الوطني، بل كونها ملاذاً اخيراً في مواجهة الضغوطات التي تتعرض لها". ان احداث نابلس وطولكرم جرى تطويقها، غير ان المشهد الذي تلا تلك الاحداث المؤلمة من كيل الاتهامات والاتهامات المضادة بين السلطة والمعارضة لجهة تحمل مسؤولية ما حدث لا يحمل كثيراً على الاطمئنان، والمعالجة الوضعية التي تمت سواء في مدينة نابلس او طولكرم قد تكون اطفأت الحريق، وهذا شيء هام وضروري، غير انها لم تنزع فتيل الانفجار في اي بقعة اخرى، خصوصاً ان المعالجات قد تم اختبارها في احداث سابقة ولم تفلح في منع وقوع الاحداث الاخيرة.